فجر العيد و”الليالي العشر”

فجر العيد و”الليالي العشر”

الفلسطينيون في جنين المدينة والمخيم انتصروا على العدوان الصهيوني وشيعوا الشهداء
«الندم»: كفاءة الدراما السورية في قراءة الواقع
«أنهار العسل والحليب» لا تتدفق دائما مع الاستثمار الأجنبى..!

 

ما خطر ببالي يوما ان يفقد العيد معناه واثره في نفسي، انا التي تربيت في بيئة تقدس عيد الاضحى ، هو عيد “الله اكبر” كما كان يقول لنا ابي، رحمه الله.

احببت العيد، لما كان مساحة فرح ووفرة والتقاء مع افراد العائلة الكبيرة، فيه يكثر الضحك واللعب والطعام والحلوى، بما يخالف باقي ايام السنة ومناسباتها التي قد تحمل لنا الكثير من الضيق والتقشف والقنوط.

ثم احببت العيد اكثر فأكثر لانني كنت اسمع ضحك ابي وارى فرحه على غير عادة، اذ احبّ هذا العيد بشكل مختلف عن باقي الناس، كأنما العيد كان يُخرج الطفل الذي فيه، الطفل الذي ما اكتسب حقوقا في حياة اسرة فقيرة في مدينة بيروت.

لطالما ابتهج ابي بالعيد معبرا عن مشاعره بطقوس جميلة رقيقة كريمة، فاشترى صنوف الحلوى البيروتية المعدّة خصيصا للمناسبة من المعمول بأنواعه الثلاث: التمر والجوز والفستق، غير غافل عن البقلاوة، كم من العائلات حُرمت اليوم من حلوى العيد في بلادي؟

ما زلت اذكر حلوى الضيافة الملونة من الشوكولا والبونبون بطعم جوز الهند والفاكهة المجففة الصفراء المعدة كل قطعة منها في ورقة شفافة تُبرز لونها وحبوب السكر التي تغطيها فيسيل لعابنا لرؤيتها، وكان يسميه ابي “كباد” ولا اعلم اذا كان الاسم مصدره زهرة ” كباد الشمس” بسبب لونه، هذه الضيافة كانت تضعها امي في علب خشبية ذات اصداف، من مصنوعات الشام الحرفية والرائعة ، التي ما زلت احتفظ باحداها بعد مرور عقود من الزمن عليها: ضيافة لستر الوجه امام الزوار المهنئين بالعيد او لشوفة الحال، الا ان هذه الضيافة لم تكن بمنأى عن تدخلاتنا بين الحين والآخر حين نستل مفتاح الدرسوار ونغني كي لا تسمع امي صوت الدرفة وهي تفتح ونستل كل منا حبته المفضلة ونعيد الامور الى نصابها ونحن نضحك بوجل!

وكان ابي الكريم بالعادة، يزداد كرما ويجهز العيدية باحضار اوراق نقدية جديدة لطالما ادهشتنا اذ يتعذر الحصول عليها في الايام العادية ، العيدية لنا ولاولاد عمومنا واولاد عماتنا وبعض اولاد الجيران.

وكان ابي اذا عجز عن تقديم الاضحية وذبح الخروف الذي نحصل على اقل نصيب منه، اذا لم يتيسر له الامر كان يعوضنا بشراء ضلع من لحم الخروف وحشوه بالارز الابيض مع قليل من المكسرات الطازجة، انها وجبة اول ايام العيد.

كنا نرتدي الملابس الجديدة والاحذية الجديدة، وكنا نحضر للعيد قبل شهر واكثر وعلى مراحل حتى يضمن الاهل انهم امنوا لاولادهم كل ما يجعل العيد بهيا، رغم فقرهم ورغم قلة مداخيلهم.

العيد في بيروت بهجة للفقراء ومتوسطي الحال، كان فيضا من الحب والابتسامات المتبادلة والالفة والزيارات على مدى ايام وايام ، البعض يحمل معه كعك العيد الذي يصبح طعمه اطيب كلما ابتعدنا عن ايام العيد، كأنما يحمل بركة تلك الايام، ومنهم من يحمل الحلوى المقدور على شرائها في تلك الآونة من مصنوعات معامل وطنية ذات جودة واسعارها ترأف بذوي الدخل المحدو…

كانت احياء بيروت تضج بالمراجيح الخشبية الكبيرة التي تتسع لعشرة واكثر من الصغار، مراجيح منصوبة واهازيج مغناة يتردد صداها في البيوت والازقة واشهرها ” يا ولاد ابو شرشوبة” التي ما زلت اجهل حتى اليوم مصدرها وكيفية دخولها الى تراثنا.

هو العيد، عيد الاضحى، ، عيد حقيقي، عيد ابي، يبدو فيه سعيدا مشرقا محبا للحياة على عكس حاله باقي الايام وكأنما يتجدد فيه الامل في ايام يعتبرها فضيلة مع بداية عاشور العيد، الايام العشرة التي تتقدم حضوره الينا، لعل ابي كان يأمل برزق وراحة بال وآمال معلقة تتحقق مع صلاة العيد وتكبيراته العظيمة وابتهالات ذوي الحاجة.

سنة بعد سنة، كان حبي للعيد يضعف واهتمامي يتلاشى على وقع بهتان بهجته ومعناه في نفسي، رغم انني حملت طقوس ابي الى عائلتي واطفالي وواظبت على الكثير منها.

مات ابي وذهبت معه بهجة العيد التي اعتدت عليها، مهما حاولت جاهدة من ترجيع صدى هذه البهجة بين اولادي واحبائي، كان العيد يغيب رويدا رويدا الى ان هاجر اخوتي ورفاقي ومن بعدهم اولادي فما بقي من العيد سوى اسمه الجميل.

واليوم هلّ عيد الاضحى علينا، ولكن ها انا وحيدة، بعيدة عن بلدي واهلي واخوتي واولادي، كل منا في مكان من هذا العالم الفسيح، الذي مزّق إلفتنا، وترك لنا رسائل الكترونية جامدة ومعدة سلفا نتبادلها على هواتفنا المحمولة ببرودة مع البعض وبحميمية مع البعض الآخر.

ها انا يحلو لي ان اتذكر مآذن بيروت تردد تكبيرات العيد، واترحم على ابي وعلى عيد ابي، بعيدة يتخيل لي انني سمعت ضحكات الاطفال المتدافعين الى ساحات العيد التي تتوسطها المراجيح الحاملين في جيوبهم نقودا تتيح لهم التمتع بأجواء العيد، هذه النقود التي لم تعد متاحة للكثيرين اليوم من اطفال لبنان في احزمة البؤس ومخيمات اللجوء.

بعيدة عن ذاك العيد قريبة من ذكرياته التي اسعدتني وآنستني في وحدتي، وحيدة اليوم في عيد الاضحى افكر في غربة اولادي وغربتي القسرية الى جانبهم، اتخيل مشهد الفقراء من ابناء شعبي في بيروت وطرابلس وصيدا وصور وبعلبك وغيرها من المدن، واتخيل معهم الفقراء واللاجئين من ابناء شعبنا العربي في سوريا الجريحة وفي فلسطين المغتصبة، الذين لن يعرف اطفالهم معنى العيد الذي عرفته انا يوما في طفولتي!        

 

نجوى زيدان

20/7/2021

Please follow and like us: