في حزيران 2004، تقدّم قطاع الشباب والطلاب في «حركة الشعب» بطلب من محافظ بيروت آنذاك يعقوب الصراف لتنظيم مسيرة سلمية شبابية طلابية على الدراجات الهوائية والحمير وسيراً على الاقدام، احتجاجاً على الاوضاع الاقتصادية والمعيشية وغلاء البنزين.
أعطى الصراف موافقته الفورية على تحرّك تصدّت له لاحقا القوى الأمنية من خلال منع «مشاركة» ستة رؤوس من الحمير في المسيرة التي انطلقت من أمام مركز الحركة في وطى المصيطبة على الرغم من وجود مذكرة من المحافظ المغضوب عليه حريريا، الى قائد شرطة بيروت تقضي بمواكبة القوى الامنية للمسيرة والمحافظة على الامن وتأمين السير لها!
حادثة بسيطة لكن معبّرة. الرجل الذي يهرب من الضوضاء الى الظل ليعمل بصمت يلتصق بهموم الناس وبقضاياهم المحقّة حتى لو وسيلتهم الحمير لاستفزاز السلطة.
يحمل «المزعج» القانون ويمشي ولا يلتفت حتّى لطلبات «جماعته» وأقرب المقرّبين إذا اتت من «خارج السياق» القانوني. هنا قيمته المضافة، ومشكلته مع محيطه ومع الآخرين.
مشكلة أخرى إضافية. الحملة التي تعرّض لها قبيل تعيينه وزيرا للدفاع لمجرد ذكر اسمه من ضمن فريق عمل رئيس الجمهورية ليس فقط لأنه كان محافظ بيروت الذي اتعب «الحريريين»، وليس لأنه الوزير المسيحي الذي استقال مع الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة وارتبط اسمه سابقا بأميل لحود، بل لأنه يعقوب الصراف الذي يستحيل ان يتعايش مع أي تركيبة سلطوية عوجاء.
مسيرته كمحافظ لمدينة بيروت ثم تعيينه وزيرا للبيئة في حكومة السنيورة تعطي أفضل توصيف عن ابن منيارة الزاهد بكل شيء إلا بسعيه لإضفاء بصمة ناصعة وتغييرية حيثما ينوجد.
محطتان أساسيتان في مساره السياسي تعكسان مناعة الرجل على التأقلم مع الواقع مهما كان يشّع فسادا واستفادة. هما في الوقت نفسه نقطة ضعفه لدى أخصامه الذين يتكئون على سجل «المزعج الذي لا يردّ على أحد» ليرفضوا عودته الى السياسة من الباب العريض. من تعوّد على «كَرَم» الرخص والخدمات «الدسِمة» من وزارة الدفاع سابقا سيضطر للتأقلم مع واقع جديد!
هي حرب «حريرية» منظّمة شنّت ضده حين كان محافظا لبيروت من 1999 حتى العام 2005 وصولا الى انفجار ملف الاستقالات الجماعية من مجلس بلدية بيروت بوجهه فقط لأنه كان يلتزم بحرفية قانون البلديات وممارسة صلاحياته كاملة مع ما يعني ذلك من إزعاج لأولياء المجلس البلدي.
«حاكم العاصمة» سيّج نفسه يومها بعازل حماه من إغراءات «حيتان المال» وحتى من ثقل النفوذ السوري، وبعض الطلبات الأجنبية مع أنه يحمل الجنسية الفرنسية.
في وزارة البيئة، لم ينظّر او يتفرّج، ولديه شهادة حسن سلوك منذ الـ 2007 بالوزير اكرم شهيب وبأدائه البيئي وأزمة النفايات لم تخطئ ظنه به. ومن يقبل بإشراك حمير في تظاهرة شبابية لن يتردّد بالقول «إن بعض الوزراء من خلال أدائهم في وزارتهم هم اول أعداء البيئة!».
لكن «معاليه» كان شريكا في حرمان الرئيس فؤاد السنيورة «اوكسجين» الميثاقية، والحساسية عليه لا تزال طافحة في الجلد الحريري والقواتي.. لكن بوجود ميشال عون بلع الجميع الموسى!
هي ليست المرة الاولى التي طرح فيها اسم يعقوب الصراف ولحقيبة الدفاع تحديدا. حصل الامر نفسه في الأسابيع الأولى لمفاوضات تأليف حكومة نجيب ميقاتي في العام 2011.
لا يطلب، لا يحرد، لا يساوم ولا يعاتب. ميشال عون و «حزب الله» كانا يومها على رأس الداعمين لدخول المهندس العكاري الى السرايا، لكن الضرورات تفوّقت على الرغبات وبقي ابن عكار خارج الحكومة الى ان أتت الفرصة مجددا.
كان الصرّاف قد تقدّم باستقالته من حكومة فؤاد السنيورة في تشرين الثاني 2006 في عهد الرئيس اميل لحود والتحق بالوزراء الخمسة الشيعة المستقيلين، على خلفيّة الموقف من المحكمة الدوليّة، حيث أعلن يومها في رسالة مكتوبة «أنه لا يجد نفسه منتميا الى أيّ سلطة دستوريّة يغيب عنها تمثيل طائفة بأكملها»، فكان أول من شرع بسلوكه استخدام سلاح الميثاقية إذا تم تخطي الخطوط الحمراء.
ما لا يعرفه كثيرون عن الصراف المؤمن بخطّ المقاومة «حتى العظم»، وصفحته الفايسبوكية شاهدة على ذلك، أنّه ومنذ سنوات طويلة، يتولّى منصب «وزير ظل» في الوزارات «الاصلاحية». كان يقدّم استشارات مجانيّة في الكثير من الملفات الشائكة، ولاحقا صار حاجة لا غنى عنها ضمن فريق عمل «التيار الوطني الحر».
خبرته المكتسبة في الادارة العامة والقوانين حوّلته الى «مرشد أعلى» لشؤون تفنيد جدول أعمال مجلس الوزراء وتعطيل الافخاخ بين سطوره وإعداد مشاريع الاقتراحات الوزارية، كما أنه مشارك دائم في اجتماعات «تكتل التغيير والاصلاح».
الصراف ابن عائلة سياسية اقتحمت الشأن العام منذ العام 1919. جدّه هو ابراهيم الصراف أول نائب مسيحي في الشمال. والده الاصلاحي طبيب الفقراء رياض الصراف. لم يتلوّن يعقوب يوما بأي من الالوان الحزبية الى حين حمله «البطاقة البرتقالية» وتعيينه مقرّر المجلس السياسي والهيئة السياسية في «التيار الوطني الحر».
صفحته على «فايسبوك» تعكس بأمانة عمق التزامه الديني. «الشماس» يعقوب، ابن الكنيسة الأرثوذكسية، إيماناً وممارسة وارتباطاً وثيقاً برجالاتها، كان واحداً ممن يستمتع البطريرك الراحل اغناطيوس الرابع هزيم بمجالستهم.
يصعب ان يمرّ «ويك اند» من دون ان يسلك الصراف طريق الشمال صوب عكار. يخدم ابناء القضاء بحسب القدرة والمسموح. ترشّح للنيابة لكن القانون الجائر كان بالمرصاد.
خرج «أبو رياض» من السلطة وعاد اليها من دون ان يلتقط عدوى استغلال السلطة. «حسابه المصرفي» في وفائه لأبناء منطقته وايمانه بالاصلاح، وفي إجماع كل من يعرفه على توصيفه بـ «الآدمي».
ملاك عقيل
السفير، 22 كانون الأول، 2016