تشكل الأغنية الشعبية جانباً مهماً من الذاكرة التراثية في الساحل السوري ـ اللبناني ـ الفلسطيني. فالجزء الأكبر من هذه الأغاني قد استقى موضوعاته و مفرداته من نسغ الحياة اليومية وطقوسها المختلفة إلا أن المدونات التراثية لم تطل إلا بعضاً من هذا التراث الخصب في تهميش مقلق لمخزون واسع من النماذج الغنائية الأصيلة.
ويشتغل الباحثون المتخصصون رغم قلتهم في هذا الحقل على توثيق الأنماط الموسيقية التراثية والتاريخية وإعادة تسجيلها و نشرها كوظيفة فنية ضرورية و توثيقاً لسفر من المحتوى الإنساني و التاريخي العميق في المنطقة.
وقد أوضح الموسيقار والباحث الموسيقي زياد عجان أن كل ما تردد من الأغاني في الريف الساحلي جاء كأداة تعبير عن الوجدان الشعبي في هذه البقعة من الأرض و عمقها الإبداعي الفطري ما جعلها تمتلك مقومات البقاء و الاستمرارية في الذاكرة الشعبية من جيل إلى آخر.
وكذلك فإن معظم هذه الأغنيات كما أضاف قد حافظت على لحنها الأصلي رغم مرور الزمن أما التغيرات التي طرأت عليها فقد جاء أغلبها متصلاً بالكلمات التي تؤلفها و التي خضعت لبعض التغيير من وقت إلى آخر فكان منها ما تم حذفه و استبداله أو إضافة مفردات جديدة له.
وأكد الباحث عجان أنه عمل على مدى عقود في هذا الحقل فجمع ما تيسر له من الأغاني الشعبية المتوارثة و قام بتدوينها موسيقيا مع ضبط الإيقاع الخاص بكل منها بحيث يتطابق هذا التدوين مع اللحن الأصلي للأغنية تماماً.
ولفت إلى أنه عمد في بعض الأحيان إلى إضافة ألحان على بعض مقاطع الأغنية التراثية حتى تأخذ المادة المنقولة شكل الأغنية وقالبها الفني من جهة و تجنبا للرتابة بين فاصل غنائي و آخر من جهة أخرى مؤكداً أنه استمد الألحان المضافة في كل أغنية من اللحن الأساسي لها.
وذكر أن هذا العمل التوثيقي تم وفق أربعة محاور الأول تناول الأغاني التي عرفت في اللاذقية فقط مثل سالم و يا شجرة الليمون و بلبل عالشجر غنى و لولح و يا بو العيون الدبلانة و غيرها أما المحور الثاني فقد اختص بالأغاني التي انتشرت لعلاقتها الوطيدة بالبيئة الساحلية مثل يا ماريا و يا محلا الفسحة و صيد العصاري.
وتابع القول إن المحور الثالث الذي اشتغل عليه جاء حول الأغاني التي عرفت في اللاذقية و سواها من المدن الساحلية أمثال عاليادي و يا طير يللي عالشجر و قومي اخطري و الدلعونة و سواها أما المحور الرابع فقد اختص بالأغاني التي جاءت لتحاكي التراث الساحلي في مختلف جوانبه مثل زهورية و التنور و يا ليل الضيعة و يم عيون الخضرا و ضيعتنا نبع الريحان و الكثير غيرها.
وقد رصدت الأغنية الشعبية في موضوعاتها المتنوعة مختلف جوانب الحياة التقليدية كشكل من أشكال التوثيق الشفاهي لكل مرحلة على حده فكان لها على سبيل المثال أن تطول النواحي الاجتماعية والعلاقات الإنسانية كما في المقطع الآتي من أغنية منين أجيبو..
لبست بياضي ..لبست بياضي
راحت للقاضي.. تشكيلو حقا
وفي وصف المهن و الأعمال الريفية تقول أغنية على روض الحبيب..
أشوفو مع الغنم سارح .. يا شعرو عالكتاف سارح
وفي الأغنية ذاتها وردت أسماء الأشخاص ..
أشوفو ماشي متمشي .. عزمتو قلي متعشي
يامين يجيب دكتور عشي .. يداوي العلة اللي فيا.
وكذلك كان للبحر نصيب واسع من الأغاني التراثية في المنطقة الساحلية نظراً للعلاقة الوثيقة التي تربط أهلها به كما في أغنية حبيتك لا تجافيني..
رحت عالبحر أتصيد.. إجو الحبايب صادوني
لا هو شبك و لا صنارة.. لكن بسود العيوني
وفي الإطار ذاته وردت أسماء الكثير من المدن و القرى الساحلية في هذه الأغنيات كما في أغنية يا ويل ويلي..
هي روحتنا على جبلة ..هي جيتنا من جبلة
لنجيب للحلوة الدبلة.. و لبسها بدياتي
والأمر نفسه بالنسبة إلى أصناف الطعام الشعبي فيرد في أحد مقاطع أغنية طلع النهار..
ما قلتلك يا خي ..عامر جرى علي
طعمتني كبة نية..يلعن أبوها كلا بهار.
ونوه الباحث عجان إلى أنه اضطلع بنفس الجهد في توثيق الأعمال الموسيقية التاريخية المتعلقة بمدينة أوغاريت بالاعتماد على الرقيم الأوغاريتي الشهير 5-6 و الذي تم اكتشافه خلال موسمي التنقيب 1950-1952 واحتوى على أنشودة الابتهال المدونة موسيقيا وفق الطريقة الأوغاريتية.
وأشار إلى أنه استعان بالفواصل الموسيقية المستخدمة آنذاك لصياغة كل من أعمال الشروق في أوغاريت و الغروب في أوغاريت و العيد في أوغاريت و أيضاً لصياغة الكثير من الألحان الأخرى لأعمال أدبية أوغاريتية قام بصياغتها باحثون أمثال سجيع قرقماز و الراحل محمد سوسو.
وهناك العديد من الأغاني الأخرى التي تم استقاء كلامها من الأدب الأوغاريتي كما أوضح عجان و وضعت ألحانها وفق المعطيات الموسيقية في الرقيم المذكور ذاته منها حواريتا النور والحياة و النداء الأزلي بالإضافة إلى نشيد المطر و النصيحة و عنات و أقهت و الرسالة.
COMMENTS