خاص ـ الحقول / يُعَرِّفْ عفيف عثمان الكتابة والترجمة والتعليم بأنها تعبير عن التزام اجتماعي. هذه النظرة الفلسفية العميقة، تميز فئة الكتاب ـ المقاتلين الذين عاشوا تجربة الحرب الأهلية وشاركوا في مواجهة العدوان الصهيوني. نشر في الآونة الأخيرة عددا من الكتب، وهو يتحدث عنها في هذا الحوار
يوجز كتابك الموسوم “النظر يأتي قبل الكلام” تاريخ الفن الغربي؟ لماذا الإهتمام بالفن، هل المقصود التأريخ للفن؟.
علينا بادئ ذي بدء النظر في طبيعة العمل الفني، إذ هو يتسم بطبيعة معقدة، مفردنة بذاتها، نقطة تلاق، حيث يُبرز الشخصية الخَلاقة وأيضاً الجمعية التي تحيط به والتي هي محددة في المكان والزمان. فهو يقدم في آن واحد فعلاً نادراً ووحيداً ومعزولاً ونقطة مرجعية ضمن شبكة منسوجة بالتاريخ والجغرافيا وعلم الإجتماع والفلسفة. لذلك يبدو صائباً القول “إن تاريخ الفن هو تاريخ الأساليب التي رأى الإنسان العالم من خلالها”. فالفن تجربة غنية ومستمرة، يقدم لنا تجربة الحياة نفسها في عمل يتسم بالجمال. وجانب الإهتمام يتلاقى مع ملاحظة شاكر اللعيبي في كتابه “الشرق المؤنث” حول النقص وقلة التبصر بتاريخ الفن “مادة يجري تجاهلها بإصرار في مدارسنا ومن قبل مثقفينا المنهمكين بالآدب لوحده, ضاربين صفحاً عن انواع المعرفة الأخرى التي لا تقل أهميةً” كما يقول.
حسناً، ولكن العرب اهتموا بالمسائل الفنية أو “الجمالية” إذا جاز التعبير؟
صحيح، في تراثنا مساحات مضيئة وانشغالات متعددة عالجت مسائل التصوير والمصورين والأشكال والألوان، فنجد مثلاً عند إخوان الصفاء معالجة للتناسب اللوني، وفي مؤلف ابن الهيثم “كتاب المناظر” نجد قواعد تتعلق بالبصريات وتقنيات العين والبصر والإنعكاس والمنظور. بيد أن ما ساد، على ما لاحظ اللعيبي بكل ألمعية، فهو استبعاد التشخيص كله، والإنحناء على ممارسة من نوع آخر، تجد تعبيرها في الرسم النباتي بشكل واضح، والحيواني بدرجات أقل، وفي الخط المتحول إلى لعب شكلي وبصري محض، وكأنه التجلي الوحيد لقدرة الخلق الفني لدى العرب المسلمين.
اذاً، ثمة “استطيقا” “جمالية” عربية؟
بالفعل، لقد شغل الفن، حيزاً واسعاً من اهتمامات الفكر العربي والإسلامي، حتى إنه يمكن بالعودة إلى كتابات الفارابي والأصفهاني والجاحظ والتوحيدي، بناء علم جمال عربي، أي”استطيقا عربية” تمتد جذوره في فكرنا، بحسب ما رأى عفيف بهنسي، الذي قدم لنا نموذجاً في كتاب “فلسفة الفن عند التوحيدي”.
هل تريد القول أن على الحاضر أن يستلهم الماضي؟
ليس هذا هو المقصود، وإلا نقع في مفارقة تاريخية. ما أشدد عليه هو هذا الإنقطاع الذي حصل بين حاضرنا والماضي المجيد الذي عرفته أمتنا العربية والإسلامية، إذ أن الناس المنقطعة عن ماضيها الخاص هي أقل حرية في الإختيار والفعل من الناس القادرة على وضع نفسها في التاريخ.
ما انجزته في الكتاب هو مساهمة متواضعة تعمدت الإيجاز ورصد التواريخ والتيارات والمدارس التي أدت دوراً رئيساً في ولادة الفن بتعبيراته مُعطى كونياً ساهم في صوغ وجداننا.
اشرت في ما سبق إلى قصور الإهتمام بمادة الفن وتاريخه عند العرب، واللعيبي نفسه يشير ايضاً إلى قصور في الترجمة، فهل سلسلة “ترجمات” التي أنجزت فيها ثلاثة كتب، تندرج في إطار استدراك ما؟
لنقل إننا نعيش الآن “يقظة” عربية معتبرة على الترجمة. فالوعي بأهميتها ثابت في الوجدان في آلاف الكتب المنقولة إلى الأحرف العربية، على يد أفراد أفذاذ مجتهدين. ولكن الجديد الآن هو ذلك الطابع المؤسساتي الذي بدات تأخذه هذه العملية، ونستطيع أن نضرب مثلاً على ذلك في جهود وانجازات “المنظمة العربية للترجمة”، كما رصد عدد من المؤسسات الثقافية الخليجية مبالغ طائلة لإنجاز مثل هكذا مشاريع.
واليوم، ثمة استعادة لمقولة سابقة ترى في الترجمة شرطاً ضرورياً وجسر عبور إلى نهضة مأمولة تشبه تلك التي عرفها العرب في غابر الأزمان. والحال، فالترجمة ليست نقلاً من لغة إلى أخرى، أنها كما يقول أحد الباحثين : “حوار حضاري وتجربة انطولوجية ذات أبعاد ثلاثة : بُعد الفهم وبُعد الفكر وبُعد التأويل”. وفي رأيي، أي ترجمة على هناتها، قد تنجح أقله في نقل مناخ ثقافي ما، وتقربنا من فضاء حضاري معين، وهي في كل الأحوال جهد يُلامس حدود الإجتهاد. فمن أخطأ فله أجر ومن اصاب فله أجران.
وكتبي الثلاثة المترجمة هي عبارة عن نصوص فكرية وبحثية، نشرت سابقاً في دوريات متخصصة، لكنها تحوز فضيلة تحررها من الحدث. وهذه النصوص محملة بأفكار لا تزال راهنة وموضوع نقاش ساخن، قد تسدي خدمة إلى قارئ نتخيله، وهو يتحضر لحوار يجريه مع ناطق بلسان آخر غير لسانه، يقيم على الضفة الأخرى من البحر المتوسط.
هل تتفضلوا بتعريف القارئ عن ذاتكم، نشأتكم وعملكم؟
باحث واستاذ في الجامعة اللبنانية ـ كلية الآداب، قسم الفلسفة (الفرع الرابع ـ البقاع) منذ العام 1993. ولدت عام 1956، في الشياح/منطقة ساحل المتن الجنوبي التي أخذت بفعل التغيرات الديموغرافية والثقافية تسمية الضاحية الجنوبية. وفي ذلك دلالات تحتاج إلى دراسة وبحث خاصين، فالضاحية منطقة تركز فيها قسم لا بأس به من أفراد الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود. إن وجودها قرب العاصمة المزدهرة بيروت من جهة، ومن المصانع التي أنشئت وانتشرت في الشويفات والمكلس وغيرها من جهة ثانية، وفي الشياح نفسها حيث كان يقوم مصنع آل غندور قبل انتقاله، قد جعلها ملاذاً لكثير من النخب التي كانت تتركها آن ترقيها الاجتماعي.
وقد ازدهرت في منطقة الشياح أفكار اليسار بكافة أطيافه واجنحته، وفاقاً للتركيبة الاجتماعية التي ذكرناها، والتي تضررت كثيراً من سياسات النظام اللبناني الطائفي، ومن اقتصاده المرتكز اساساً على قطاع الخدمات والمصارف.
وتعتمد البيئة الإجتماعية للضاحية، بما فيها الشياح، اساساً، على المدرسة الرسمية في عملية التعليم، الذي يُعد حلقة من حلقات الصعود الإجتماعي. وكان يمكن استكمال هذا التعليم بالدراسات العليا او دراسات الطب والهندسة وغيرها التي كانت متاحة من احزاب اليسار على شكل منح إلى بلدان (الاتحاد السوفياتي السابق، بلغاريا، كوبا، الجزائر، سوريا، العراق ..الخ).
وبالتالي، نحن أبناء هذا المسار الاجتماعي ومآلاته، رغم أني شخصياً تابعت دراسة الدكتوراة في فرنسا على نفقة والدي في عام ،1983 وأنهيتها عام 1989. وبقينا (كوني أتحدث عن نفسي وعن جيلي ) مأخوذين بالهم الإجتماعي والقضية الوطنية التي حملت عنوان “فلسطين” وآثارها على لبنان. والنشاط السياسي الفاعل الذي مارسناه أيام التعلم أخذ شكلاً جديداً مع الإنخراط في سلك التعليم، والبحث عن محاولة خدمة الأهداف آنفة الذكر، تفكراً وترجمة ومساهمات، في سبيل إيفاء مجتمعنا بعضاً مما له علينا.
صدر للمؤلف :
ـ النظر يأتي قبل الكلام، موجز تاريخ الفن الغربي (بيروت، دار النجوى، 2007 )
ـ ترجمات1، العولمة، الدين،اسرائيل (بيروت، مركز الدراسات الإستراتيجية، 2007)
ـ ترجمات2، أ.باث،ب.بيكاسو… وآخرون (بيروت، دار النجوى، 2007)
ـ ترجمات3، الماء في القرآن، أوديب والقانون… (بيروت، دار النجوى، 2007)
COMMENTS