أقام الإتحاد الفلسفي العربي مؤتمره الخامس(1)، تحت عنوان : “حقّ الاختلاف وسؤال الهويّة”، في قاعة المؤتمرات في كليّة الآداب الفرع الثالث في طرابس، بالتعاون مع الجامعة اللبنانيّة ـ كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، الفرع الثالث، وبلديّة طرابلس. وقد حضر المؤتمر نخبة من العاملين في الفلسفة والمفكّرين في غمارها : ناصيف نصار، مطاع الصفدي، يوسف سلامة، أحمد ماضي، ريمون غوش، محمد شيا، حسن العبيدي، موسى وهبة، محمد المصباحي، أدونيس العكرة، محمد الكبسي، علي الجابري، أحمد عطية، يوسف المعلوف، حسن الكحلاني، جاويدا جاري، عفيف عثمان، علي حميّة…. ووفد المشاركون من تسع دول عربيّة : لبنان، سورية، الأردن، العراق، فلسطين، المغرب، تونس، الجزائر، مصر). أبواب المؤتمر وجلساته كانت متشعبة من “سؤال الهويّة” إلى “الهوية والعولمة”، فـ”الهويّة بين الثقافي والديني والوطني”، و”سؤال الاختلاف”.
أنجيلو البعيني
من اليوم الأوّل وجد المؤتمرون أنفسهم أمام مشكلتين منفصلتين لكلّ واحدة منهما شروطها التي ينبغي وضعها في تفاعل فيما بينها، إذ أن كلّ من “الاختلاف” و”الهويّة” مشكلة قائمة بذاتها لا تتناسب في المبدئ مع الأخرى، كما أكّد د. ناصيف نصار مترئساً الجلسة الأولى – ذلك الجبار بمعرفته، المتواضع بحضوره، مشعل طريق الاستقلال الفلسفي، محجة كل من أراد التفلسف اليوم بالعربيّة – راسماً حدود المفاهيم الغشائيّة كي لا يدخل المؤتمرون في شطط النظر، في حين انه حضر الأيام الثلاثة مستمعاً، مداخلاً، مربّياً، محاججاً كلّ صاحب قول بما لاق بسيّدة المعارف من أسلوب ومنطق.
ما الذي يجعل جماعة من الناس مشغولة بسؤال الهويّة من أزيد من قرن؟ وهل هو سؤال حقيقي أم زائف؟ الهويّة أداة تمييز ولأنّها كذلك فهي معلم من معالم الاختلاف؛ فمتى تصبح الهويّة مشكلة؟ على حد قول د. أحمد برقاوي، (جامعة دمشق)، “الهويّة لا تغدو مشكلة إلاّ إذا كان هناك وعي بها لنصبح أمام وعي متعدد (أيديولوجي) متصارع، هو “التعصّب الهويّاتي”، أي حين تصبح الإيديولوجيا “هويّة معنّدة”. وإن البشر ولحاجات عمليّة ينفضوا التراب عن الهويّة القصديّة ولو كانت مدفونة في أعمق الأعماق”. من هنا رأى برقاوي أن المنطقة العربيّة تعيش فيها هويّات متعدّدة في ظلّ غياب الدولة وتسلّط أكثري يبدع “طغيانه” من “عواء كلاب السلطان”. إن الوعي الإيديولوجي بالهويّة يحوّل الهويّة إلى أساس لسلوك سياسي ولأوهام حاضرة وأخرى مستقبليّة. وفي مقابل طغيان الأكثريّة، شوفينيّة الأقليّات لا تقلّ خطراً، بحيث أن الإنتقال من التحديد الأنثروبولوجي إلى الإيديولوجي للهويّة يتم تحت وطأة الإنحطاط والتبعثر. من هنا أكّد الفيلسوف الدمشقي أن صراع الهويّات يعود مردّه إلى عدم انتصار فكرة الدولة والاكتفاء بفكرة “السلطة”؛ “فما من سلطة في الوطن العربي إلاّ وكانت متّكئة على هويّات متناحرة”.
وإن ترفّعت الفلسفة تاريخيّاً إلى المجرّدات والأفاهيم النظريّة فـ”حذاء الزيدي” حضر بقوّة في عمق القول الفلسفي أثناء المؤتمر. “في بغداد أمس”، قال د. علي حميّة (الجامعة اللبنانيّة)، محاضراً، “تصادمت الذات القوميّة الممثّلة بالزيدي والعولمة الممثّلة بجورج بوش، فكُتب للأوّل الكرامة وللثاني المهانة”. من هنا كان لمنبر المؤتمرين أن يستحيل مسرحاً سياسيّاً يجمع السيادة الوطنيّة مع الحريّة الفلسفيّة والكرامة الوطنيّة مع الإرادة الذاتيّة.
أمّا د. يوسف سلامة (جامعة دمشق) فتكلّم في وهم الهويّة حين تكون تراكمات لماهيّات الماضي. وإن لم تعد للحاضر الممتلئ حريّة وإرادة تظلّ مغتربة عن نفسها؛ حاضري هو هويّتي وليس المستقبل الطوباوي الذي أصنعه بهروبي الذهني ولا الماضي الذي أبعثه من تاريخ انتقائي. وفي ظلّ العالم الذي نعيش تبقى الهويّة هي “الوهم الضروري” لنكون ما نحن عليه. ثم ختم سلامة “أوهام الماضي هي التي تفرض على الحاضر كوميديّتها وللفيلسوف وحده أن يضفي على هذه الكوميديا تراجيديّتها”.
ونحن أمام المجتمع المشهدي، مجتمع العولمة كما وصّفته د. وفاء شعراني (الجامعة اللبنانيّة)، يجب أن نمتلك عقلاً نقديّاً وفكراً حرّاً لنستطيع أن “نتلذّذ” بالعولمة ومنجزاتها التي رأى بها د. علي الجابري (جامعة بغداد) ألعوبة حقّ الاختلاف الذي يراد به تغيير الواقع وتسويق الهويّة الأميركيّة الليبراليّة الواحدة؛ من هنا كانت دعوته إلى الوقوف في وجه مشروع معولم ينفّذ فيه المواطن مشاريع السيّد الأميركي ويفجر الناس في الشوارع.
“الإختلاف بأي حق؟” كذا وصّف د. موسى وهبه (الجامعة اللبنانيّة) واقع التفكير العربي المعاصر بخرافة قوس القزح الذي يحوّل جنس كلّ من يمرّ من تحته إلى عكسه. فهذا الفكر المتشظّي بين العلمانيّة والأصوليّة، الليبراليّة والماركسيّة، كيف له أن يفتي بقتل المرتدّ؟ من أين له تلك القدرة على هذا التناقض البارح؟ لذا يدعونا وهبه لترك الفكر الهيغلي المتناقض والعودة إلى فكر إيمانويل كانط لنخرج من “خيال الظلّ” الممتدّ من هيغل فنيتشه ثم هايدغر الذي ورثت عنه تيارات نقد الأنسيّة الإصرار وتناهي الإنسان ونهاية الميتافيزيقيا، وبالتالي عودة الأديان بسخط أصوليّاتها. “الناس متساوون لأن العقل “موزّع بالتساوي”. وإذ تمّ طرد العقل من الميتافيزيقا لا يمكن طرده خارج التفكير”.
فرض موضوع الجلسة الأخير “الهويّة بين الثقافي والديني” مع د. يوسف المعلوف، (الجامعة اللبنانيّة) نقاشات مستفذة. لأنّه قلَّ أن نَجد مسألة شائكة ومعقّدة في أيّامنا تضاهي مسألة الحقيقة في الأديان والعلاقات فيما بين أَتباعها. يميل العديد من الناس، يقول معلوف، اليوم إلى التفكير في أنّ الأديان كلَّها تتساوى، ولكن هل في وسع المؤمن الانفتاح على الأديان الأخرى من دون الوقوع في النسبويّة، ومن دون أن يكسر بالتالي الصورة التي لطالما كوّنها عن دينه؟ يعتبر البعض أنّه لا بُدّ من أن يكون هناك سوء نيّة للشك في العمق المشترك نفسه الموجود بين مختلف الأديان، فضلاً عن ذلك، هل سيكون بوسع هذا المؤمن إثبات معتقداته الرّاسخة وإبداء الاحترام للأديان الأخرى من دون أن يسعى إلى تبخيسها أو شيطنتها؟ وأجاب المعلوف في خاتمة محاضرته مستخلصاً: “قبل بضعة أيّام من موته، اختارَ الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أَن يضع الشِّـعار الآتي ، كتصـدير لمجموعــة مُؤلّفاتـه الكاملة : « طرق – لا مؤلّفات ». لقد أراد أن يشير بذلك إلى أنّ فكره يجب ألاّ يختزل إلى مجموعة من الأطروحات ، وأنّ هذا الفكر القائم على التساؤل الدائم ، سيحافظ على طابعه كطريق لم يكتمل. إذا صدّقنا الأديان ، بأنّ الله قد اتّصل بالإنسانيّة بطرق عدَّة عبر التاريخ، يمكننا القول بأنّ التّراثات الدينيّة هي « طرق » خلاص لأتباعها وليست « حقائق » نهائيّة.”
بهذا أنهى المؤتمر الفلسفي العربي أعماله للسنة الخامسة مؤكّداً على أن الفلسفة الحيّة داخل مجتمعها، الحاملة همومه ومشاكله على راحاتها الجريحة بآلاف المصائب التكفيريّة وحرمان القول، لا يمكن لها أن تموت حتى لو لطّخت بآلاف تعابير الزندقة من بعض مجتمع يسعى جاهداً بعقاله وجهاله أخذها والإنسان إلى ظلمات لا يصحو فجرها.
COMMENTS