خاص ـ الحقول / يجسد ديوان “ليلى حتى الرمق الأخير” المحطة الثانية للشاعرة اللبنانية سوزان عون في مشوارها الإبداعي بعد إصدار ديوانها الأول” إليك الرحيل فاذكرني”.
يتكون هذا الديوان من واحد وأربعين قصيدة وقصيدة مترجمة باللغة الإنجليزية، تشع منهن طاقة نورانية من الحب تبثها الشاعرة في ثنايا قصائدها؛ لنشعر بعبق الحياة وطلاوتها في ظل هذا الكائن العجائبي، الذي تتوق له كل نفس، ويهفو إليه كل قلب، حيث تستند إليه الشاعرة كحلقة وصل تربطها بالعالم من حولها.
ويأتي عنوان الديوان “ليلى حتى الرمق الأخير” معلنا عن وهج المشاعر وتدفقها في سكون الليل، فالشاعرة تجتر ذكرياتها الموجعة في دجنة هذا الليل الحالك السواد، وتفيض الذكريات في قصائد الديوان، وتنبئ عن نفسها من خلال محورين رئيسين هما:
الأول: ملحمة العشق الخالدة التي ما زالت تنبض بين جوانحها، وقد تصدَّر هذا المحور أغلب قصائد الديوان، مثل ما نجده في القصيدة التي تحمل عنوان الديوان وقد بدأت بضمير المتكلم المنفصل “أنا” لرصد واقع الذات الشاعرة وتمثلها للأنا بصورة معمّقة لكل مشاعر النفس الإنسانية.
تقول من القصيدة ذاتها:
سأهدمُ كلَّ الجدرانِ التي هزمتْ هجماتِ ليليَ الأسودِ/فأنا والنّجومُ أحبّةٌ ومن أعلنتِ الحربَ عليكَ في البداية/وها هي الخطوبُ تتسارعُ كنيزكٍ/فرّ رجماً لمحنةٍ، ولأعلنكَ بعدها ملكاً لأوجاعي/لا تلحقني وانظرْ خلفكَ/هطلَتْ من اسمي أيقوناتٌ، طرنَ كليلٍ حالمٍ سِكّير/وبعدها تسألُني من أنا؟ /عدْ لمهدكَ الترابي وانهلْ منه حتى تشبع.
تريد الشاعرة أن تطلق لنفسها العنان، حتى تتحرر من قيودها وأغلالها التي تمنعها أن تحلق كطائر أسكرته نشوة الحب، فهي ستهرب من تلك الجدران التي تحيط بها لترنو مع النجوم في ليلٍ حالم تاركة خلفها سرابيل من أوجاع دثّرها لها رجل، لم يكترث أنها جسد وروح معا، فالمرأة كائن رقيق تريد من يتفهمها، لا من يقمعها ويشعرها بأنها كائن بلا قيمة.
وأيضا تعمّق في قصائد أخرى منها قصيدة قرابين العشق تقول:
لن أحزن/ ولستُ حاقدةً على تاريخي/ ولا على أشواقي/ فقلبي لا يرتادُ دهاليزَ مظلمة، ولا يرتوي من بحارٍ مالحة/ ولا يراودُ الحياة عن نفسها، فأنا من تربة سقاها حلم الصباح/ خَطّ َعلى جبينها اسمي/ فتكحلتْ كعروسِ الفرات الخصيب / اسمع أيها الآدمي/ أنا شوكةٌ داميةٌ في خاصرة الحصاد/ أبرعُ كما نسائم الساكنين على رمشك/ متوردةٌ أنا في حشاشة الصّبا/ يقتبسُ مني كلّ المجادلين في أزليّة الحب/ فيخفقون/ وأنتصرُ أنا/ وأنتصرُ أنا/ وينهزم العدم/ فخذْ من حرفي حتى ترقى.
نتنسم من القصيدة نبضات حالمة لكل ما تتوق إليه الشاعرة من الحظوة بالحب.
وجاءت الألفاظ “أشواقي، قلبي، تكحلت، كعروس، متوردة، الصبا، تؤكد أنها ستعيش للحب مهما صادفت من آلام مبرحة تعوق مسيرتها إليه، وستنتصر وسيخفق كل من يخالف دربها، وجاء أسلوب التكرار وأنتصرُ أنا/ وأنتصرُ أنا؛ ليكثّف المعنى ويعمق الدلالة; لأن التكرار يعطى دفقة شعورية تستجلي أحاسيس الشاعرة وما تحس به من زهوة الانتصار الذي ترويه من نبع قصائدها السامقة.
وأيضا في قصيدة “غريبة بين الوجوه ” تقول: لا يعلمونَ بأنْ الجسدَ ارتفعَ والروحُ لا زالتْ حولنا تحوم/ يرحلونَ ويزرعونَ دروبنا اشتياقاً/ وذكرياتٍ ودموعاً في عبر/ تومض صورهم كنجوم في ليل طويل/ تجتاحنا أشياؤهم/ ألوانهم/ أصواتهم/ صورهم/ كلماتهم/ نتألمُ أكثر حين نحتاجُ صِدقهم وحديثهم/ فما أصعب إفراغ الذاكرة منهم/ رحلوا وتركوا بصماتهم حيّة تنبض فينا/ ما أوجعها.
تستحضر الشاعرة الفراق بكل عذابه وشجونه، فما أقسى فراق الأحبة.
فحرقة الأكباد من سقم الحب، وألم الوجد تجتاحهما مشاعر الفراق المضنية التي تجعل الإنسان يتذكّر كل شيء لمن يحب، فهل سننجح في إفراغ الذاكرة منهم؟
فالذكريات هنا تصبح كالبصمة التي تطبع في نفس كل موجع أضناه الحب.
وأيضا قصيدة “ليوسف” تقول: إن تشبّهتُ بيعقوبَ الملك/ ستأتي سنون الخصبِ سريعاً/ وستسمنُ البقراتُ العجافُ ثانيةً/ بعدها سأحملُ معي/كلَّ القمحِ الذي حفظتُه في سنابله/ وأدسُّه في أروقةٍ محايدةٍ/ ما قبل السفرِ لِيختمر/ وأقدّسُ المكانَ ككعبةِ الوجدِ عِندَ زليخةَ الطاهرة، فأتحررُ/ يا يوسف/ لا جدوى من شمسٍ إنْ لم تهبكَ احتراقاً/وتطغى سُمرتُها على القصائدِ عزّاً واقتراباً.
ترتوي الشاعرة هنا من نبع فياض تمثله قصة يوسف في القرآن الكريم التي تناصت معها شكل ومضمون القصيدة فالعنوان “ليوسف” تختزل فيه قصة يوسف بروعتها وسلاستها، وقربها إلى النفوس لما تحمله من قدسية وطهارة، وجاءت العبارات، يعقوب الملك، سنون الخصب، كل القمح الذي حفظته في سنابله، كعبة الوجد، زليخة الطاهرة، يا يوسف.
تكثفْ المعنى وتعمّق لكل قيم التضحية والصبر والتفاني والطهر التي تغتسل منها كل أدران النفس الإنسانية.
وتستجلي تلك المشاعر الفياضة أكثر في قصيدة “المسرح باهت” تقول: أهٍ ما أوجَعَها/وألفُ آهٍ ما أجَمَلكَ/وآهٍ تخرجُ مَعَها زفراتُ الروحِ شوقاً/ لضمةٍ وعناقٍ ما التمستِ الروح قدسيّةً مِثلهُما/ حاربني بِكلِ ما أوتيتَ من قوةٍ/صارعني، اهزمني/ فالهزيمةُ بين يديكَ علوٌ وانتصارٌ/ سأغرزُ إغرائيَ فيكَ بكلِّ ما أوتيتُ من أنوثةٍ/وأتقلّبُ بينَ ناظريكَ كهاربةٍ مجرّدةٍ من أوراقي.
تمتلك على الذات الشاعرة هواجس كثيرة فلا تجد متنفسًا لها غير نبضات كلماتها تبث فيها ما تشعر به من هواجس، وسط جو من التوتر والقلق وأشياء كثيرة تحاول أن تعبر عنها، وتتكرر الآهات ” أهٍ ما أوجَعَها/وألفُ آهٍ ما أجَمَلكَ/وآهٍ تخرجُ، لتكثف من آلامها وعطشها لحب جارف يصرع مشاعرها ولما لا وهي أنثى تمتلك كل أسلحة الأنوثة القادرة على إغواء الرجل؛ لأنه في عينها وطن بكل ما تحمله الكلمة، وبوح كائن في أعماقها تسطره لنا بخطاب مشحون بأحاسيس عمرها.
فكان خطاباً مفعما بكل ما تكنّه من آلام ومعاناة تنبض بداخلها.
تستكمل هذا المعنى في قصيدة “استقّلت الفجر يراعا” تقول: أنتَ في عينيّ وطنٌ/ تَبَتّْلْتُ في مِحرابِه فاستوى بعدها صوتيَ المغرم/ كنْ لبوحي حبراً أزلياً/ لحينَ موتي/لا يلينُ ولا يُعدم/سردي هذا خطابٌ مثقلٌ بالشجن/ أهَمّهُ الرحيلُ، فاعتكفَ كمريم.
ودلالة لفظة “مريم” هنا تستحضر القديسة مريم بكل ما تمثلّه من طهرها وعفافها واعتكافها في محراب الذكر الإلهي، ولكن ذكر الشاعرة هنا هو سردها النابض بانفعالات عمرها، وأشواقها المكتوبة في لحظة انكشاف، وبوح لرغباتها الدفينة المتحررة من الخوف.
أما المحور الثاني: هو “الاغتراب” فالشاعرة هنا لم تكن تقليدية مشغولة بمحور ذاتها فقط بل حداثية، قد عايشت مرحلة الاغتراب المعاصرة، ومعاينة الأسئلة والهواجس الكبرى التي تؤرقها وتشعرها بالاغتراب عن الذات والآخر، والاغتراب عن المكان، فنجد لها القدرة على التعبير عن خصوصية هذه التجارب الإبداعية، وعلاقتها الواعية بالوطن.
وهذا الوطن واقعه ما زال يئن من جراء أحداث كثيرة وما أقسى أن يكتوي المغترب بأنات وطنه وهو بعيد عنه.
يكثف الاغتراب حضوره في قصيدة “كأنني كنت هنا” تقول: منْ يعرفُ زوايا الاغتراب/ وعجنَ الرحيلُ ذاكرتها مثلي/كأنني كنتُ هنا/ أو كأنني ولدتُ هنا/لا، هناك/ وتاهتْ خلفي خطواتي/ وتاهَ دربي الذي تأرجحَ بين دروب العمرِ/ وما عادَ يزعجني/ أزّفُ روحي للحريةِ كلّ مساء/ وأرقبُ أسرابَ المغادرين والعائدين/ لا يقلقني الغد/ ولا الموت ولا تلك المسافات الفارهة/ التي بيني وبين المستقر/ لا أضجر ولا أيأس/ ففانوس الحلم في يدي/ وسندباد رحلتي لم يقلع بقاربي بعد.
فالشاعرة المقيمة في استراليا بعيدة عن نسمات وطنها الحبيب، تحلم به في كل زفرة من أنفاسها، أضحت لا تأبه الموت، ولا يغتالها الضجر أو اليأس، فما زالت ترقب أسراب من الناس تذهب عنه وتأتي إليه، وجاءت لفظة “أسراب” لتعبر عن محنة الوطن وما يموج به من قلق واضطراب وأحداث دامية يقبع فيها إلى الآن، ولكن ما زال الأمل معقوداً طالما الحلم موجود لغد أفضل إشراقا لوطننا الجريح.
من قصيدة ” ترنيمتي إليك تقول: أحلمُ بأجراسِ مدينتي تقرعُ في ليالي اللقاء/ ترفعُ الغربةَ عن الصدرِ المتعطشِ لحضنِ الوطن/ تُصدِرُ أصواتاً كأنّها أغرودات المشتاقات لحبيبٍ تأخر/ هذا نحنُ يا وطني، لا زلنا تلكَ السفن التي تحنُّ لمرافئك يوماً ما/ نحلمُ بسمائكَ الزرقاء خالية من غيوم سوداء/ نرنو لحقولكَ المترعة بمواسمِ الحصاد/ ونبتسمُ لزهرات متورداتٍ حانيات/هذا نحن يا وطني/ تُسَيّرُني النُجُوم إليكَ/ لأبلُغَ مَدَارَك المزروعَ بالنور/ فعلّمني قراءةَ خواطرِك/ تُسامرُني النغماتُ لأكونَ لحناً جميلاً/ في ترنيمتي إليكَ.
وما زال الحلم ديدن الشاعرة تريد وطنا تزهو حقوله لاستقبال المتنزهين، وتبسم زهراته في أعين المارين، فالوطن حضن لأبنائه وبلسم لمن عزَّ شفاؤه، يتداوى به كل صدر متعطش لحضن الوطن الدافئ.
من قصيدة “بالله عليك قل لي” تقول: متى ستجتاحك عاصفة الأمان والسكينة يا وطني؟/ متى يلّف مطر الحب/ قلوب أهل بلدي؟/ متى ترتفع في سمائك مظلات/ الفرح والحنان؟/ متى تقف سفن الراحلين عن مغادرة أرضكَ وتُنْزلُ أشرعة الفراق؟/ قل لي بالله عليك متى يا وطني؟.
ونختم بلسان حال كل شاعر يلهج بذكر وطنه والدعاء له، وتشاركهم الشاعرة داعية أن يمن الله بالأمان والسكينة على وطنها الغالي، ويضحى وطنا بلا حروب، بلا ضغائن، تمطر عليه سماء الحب، وتنتشر زغاريد الفرح والسرور، وكل مفارق يعود، وتأتي التيمة الدلالية الخاتمة للقصيدة” قل لي بالله عليك متى يا وطني”؟!
لتعمّق المعنى وتكثف الدلالة، وتختزل كل ما يجيش بخواطرنا، وتنشغل به أذهاننا بكل ما يحفظ كرامة هذا الوطن الحبيب.
تعتمد القصيدة النثرية ذات الشعرية المسرودة هنا على حكي موسوم بفيض من المشاعر العطشى للحب، قصيدة النثر هنا سيمفونية، تعزف على أوتار الحب؛ لترصد لنا أنشودة مفعمة بالحيوية والنشاط والدهشة، نسجتها الشاعرة بحرفية متقنة في كل شبكات القصيد، ونقول للشاعرة ما زال إبداعك لم ينضب بعد؟!
COMMENTS