“عتبات الجنة “… عند خط الاستواء

“عتبات الجنة “… عند خط الاستواء

بريد مؤجّل لأمي
“من شارع الهرم إلى …” : مسلسل كويتي يثير غضب المصريين
إميل لحود ماذا يتذكر… عن وقائع بدون "رتوش"؟

خاص ـ الحقول / العمل الروائى الكبير للكاتب المهندس فتحى إمبابى: “عتبات الجنة……. أسطورة الإثنى عشر” (2014) يضعك منذ البداية أمام عديد من التساؤلات التى قد تبعدك عما يقصده مباشرة، لكن القارئ سيمضى إلى محاولة الإجابة وحده من خلال هذا النص المكثف بالمشاعر، والمعارف…
نحن منذ البداية أمام عمل تراجيدى تتخلق فيه البطولة من مواجهة الخيبات، ومحاولات قهر الصعاب…. واستمرار التماهى مع الطموحات الكبيرة، في مناطق وعرة من العالم الجنوبي، الذي لم تصله الكثير من الاعمال الادبية العربية …

-1-
ففى أجواء موت الأم (الجدة) تحمل المركبات القديمة اثنى عشر ضابطاً عرابياً وجنودهم من محطات مختلفة على طول نهر النيل بقيادة “اليوزباشى الحسينى عبد الغفار” وقد افلتوا من حكم الإعدام بعد هزيمة الثورة العرابية وحل الجيش وتسلط الإنجليز، ليخرج هؤلاء بالأمر إلى المديرية الإستوائية جنوب السودان ليلتحقوا بثلاثة عشر الف جندي بالحملة المصرية هناك، وفق أهداف مختلفة سنعرفها، بين معنى النفى، والإبعاد، أو غرض أوروبى بحت لمقاومة تجارة الرقيق، ونفوذ المهدية المهدد للإمبراطورية وتوابعها (فى إنجلترا ومصر) أو أن تحقق الحملة الهدف الاسمى الدائم لرعاية الدولة الوطنية العتيدة فى مصر لمياه النيل ومتابعتها التقليدية لشئونه…
لكن المؤلف لا يدعنا مع ضباطه، من “جيش العصاة “كما اسماه احدهم، فى رحلة عادية، يعانون فيها آلام العقاب وأحاسيس الهزيمة، اذ يقودنا معه بأسلوبه السحرى، من “سكرات الموت” العقابى هذا إلى “برزخ عبور” الآلام، و”مطهر الرحلة”… حتى “سدرة المنتهى”، وهو فى تلك الخطى، يعبر رموز “سبعة عتبات”، يلم فيها تدريجياً تشظى العرابيين الإثنى عشر، حتى يلتئم شملهم فى “لادو” عند خط الاستواء ، الذى هو عند “فتحى إمبابى” سدرة المنتهى. وعند “جنة المأوى” هذه تتبلور الرسالة الغائبة… عن ” جمهورية وادى النيل، بين حصار قضبان الاسى على الجمهورية التى لم تولد وبين زنازين الوحدة فى قاع الوادى البعيد..”
هذا الملخص ينثره “فتحى إمبابى” من الصفحات الأولى، وحتى الصفحة الثالثة عشر بعد الأربعمائة، منطلقاً بنا بين عوالم الخيال الدرامى وأساطيره وتفاعل البشر معه، بل ورشح العلاقات الإنسانية على تصورات للكون والسحر والمنطق السماوى، أقداسه وغيباته وعوالمه الإنسية والجنية…!
التكليف البادى لهؤلاء “العرابيين” أو الذى استحضروه تعويضاً عن هزيمتهم- هو “إحضار كتاب النيل”، يذكرنا به على مدى فصول طويلة اليوزباشى “الحسينى عبد الغفار”- العرابى المتحمس ، خريج مدرسة المشاه الفرنسية ، وكأنها رسالة المصرى كيفما كان موقفه وموقعه ،لأنه يصل بهذا الهدف حتى يشاركه فيه الصاغ “حواش منتصر” عند “لادو” على رأس خط الاستواء ومشارف حوض الكونغو، وهو الرجل الدولتى القاسى، الذى لم يحب ضبابية العرابيين فى القاهرة، بينما هو يقيم المملكة عند منابع النيل….!
لذلك تتناثر خلال أخيلة “الحسينى” دائماًَ مهمة” سيف بن ذى يزن” التى ترويها مسيرته عن إحضاره كتاب النيل الذى هو فى بلاد الأحباش الذين هم باستيلائهم على هذا الكتاب قد حجزوا النيل عن مصر، فإذا ما استولى “سيف بن ذى يزن” على الكتاب أُجرى ماء النيل وأنشأ مصر التى أسماها باسم ابنه البكر… مصر..” (فاروق خورشيد: أصداء على السيرة الشعبية ص 124).
المؤلف يدفعنا دفعاً إلى الرحلة مع أبطاله العرابيين الذين يذكرون دائماً –وياللعجب- أنهم مهزومون، فذهب معهم إلى تعويضات كبيرة عن هذه الهزيمة التي تصلهم بحلم الجهورية المدنية والديمقراطية التى أراد العرابيون إقامتها..
أحلام أسطورية تذكرك بمهام “هرقل” الإثنى عشر التى تنتهي بمهمة القضاء على وحش جريون أو إحضار الكلب الوحشى حارس أبواب العالم السفلى… لكن الأحلام السماوية المباشرة عند” إمبابى” هى التى تجرنا إلى ثقافة للمؤلف ينتقل بها من عالم الأساطير والسير الشعبية إلى ثقافة جماهيرية أخرى عن مراحل السماوات السبع. فعنوان الرواية عن “عتبات الجنة” هى فى داخل الرواية فصول لعتبات سبع، مذكرة بإسراء النبي الذي شق السماوات السبع أو العتبات، ليعرف حدود العالم الذى يضع فيه أمته… وحيث يصلك ذلك بنقاء الرسالة إلى “سدرة المنتهى”، -وهى فى الرسالة المقدسة جنة المأوى- لكنها عند “إمبابى” حين يصل أبطاله إلى خط الاستواء ليكون اسما على مسمى!
لكن القارىء للمهندس “فتحى إمبابى” سيتجاوز كل ذلك بسرعة، ليبقى مع إيقاعات أنثروبولوجية مباشرة عما يمر به من شعوب وقبائل على طول مجرى النيل أو أحاديث تاريخية ينثر خلالها آراءه عن “الحملة المصرية” فى السودان، وعلاقتها بتجارة الرقيق، أو مدى تفهم ثورة المهدى فى السودان.
خلال رد “إمبابى” على عناصر التاريخ والجغرافيا فى هذه الرحلة، يرد بكثافة –ونعومة أيضاً- على كثير من كتابات المؤرخين والرحالة، فلا تشغله عناوين عن فتح السودان أو الحملات المصرية أو الإدارة الأنجلو مصرية هناك، على نحو ما جاءت به الكتابات عن المديرية الاستوائية (عمر طوسون- جميل عبيد) أو تقويم النيل (أمين سامى باشا)أو كشوف مصر الأفريقية (عبد العليم خلاف) كمرجعية تقليدية أمام عمل أدبى مبدع مثل “عتبات الجنة”.

– 2-

“فتحى إمبابى” يتحرك بك فى المياه السهلة لشمال الوادى ليفجأك بأنك لست مقبلاً على حدث بنفس الانبساط النيلى أمام أعينكم أيها الشماليون.. فها أنتم تحكمون بالإعدام على فدائييكم، فإذا عفوتم عنهم، فلإبعادهم إلى أقاصى الوادى، إقصاء يبعد عن المألوف مما كان يقال عن “طوكر” بألف كيلو جديدة، فطوكر ومثلها –علي نحو ماقرانا من ادب المذكرات -، ذهب إليها الأفندية،” رفاعة رافع ” وهيكل” باشا و” محمد صبيح”. ولم يعبر عنها بشكل إنسانى إلا “محمد توفيق” ، حاكم سواكن لأنه الضابط ” ذو الميول العرابية” عام1881. أما إخواننا العرابيون المبعدون عند “امبابي ” أمثال “الحسينى عبد الغفار” وزملاؤه، فشقوا غياهب النيل حتي ملتقى الوادى مع أحواض الكونغو ، ومنطقة البحيرات، يشترون حياتهم بدلاً من الإعدام… فقد نقل مقر القيادة الجنوبية إلى”لادو” هناك ، حتى يصبح الجيش الذى تم حله على يد “توفيق” باشا بدون معنى إلا ما قد تجود به الآفاق البعيدة، وبقدر ما يصمد فيه أبناء الفلاحين .
ونجدنا مع امبابى أمام راوٍ يحضر أحيانا ويغيب أخرى، وهو الذى فقد العائلة وترك “أمه تحتضر” مثل تركه لمصر وبقايا الثوريين فى حالة الاحتضار، لاعادة بناء أمة متخيلة، تحولت فى رأى البعض إلى قطيع من الأنعام.
كان علي اليوزباشى “الحسينى” أن يشحن جنوده إلى الجنوب وأن يكتشف عالماً آخر جديراً بالمعايشة، أو أن يلوك فيه ذكريات الثورة ولو تحت قيادات أجنبية هناك. كان طموح هدف الثورة عنده هو “الحداثة والدستورية والمدنية” حتى مع قيادة غير كفؤة (يشير إلى عرابى نفسه..) . لكن تظل” الهوية الوطنية” ، وحتى مشكلة الوقوع بين أصولية الشرق وحداثة الغرب، كمأزق لحالة التبعية ، تظل أكثر تحددا من هدف جديد لهذه “الحملة الاستوائية” التى لا يدرى هل هو للمشاركة فى حملة مواجهة تجارة الرقيق، واستغلال مصر فى السودان تحقيقا للأهداف البعيدة للإنجليز وتحت قياداتهم، أم أنها بحق أحد مهام الدولة الموروثة من محمد على مستمرة فى البحث عن أفق هذا المجرى النيلى وترغب فى السيطرة على منابعه مثلما سيطرت على مصبه ؟، ام أن الثورة لا يجب أن تكون عائقاً لهدف ثابت هو كشف وتسجيل قياس منابع النيل، والمشاركة –حتى فى مخيلتنا الأدبية- فى السيطرة على هذا المنبع للنفوذ! هذا هو الحلم الذى جعل المؤلف يردد ذكرى” سيف بن ذى يزن ” فى أنحاء من العمل، وهو الذى كان مكلفا بإحضار “كتاب النيل” من أرض الحبشة والسودان إلى هذه الديار.
هكذا يأخذنا الكاتب “فتحى إمبابى” بين فقرة وأخرى للتساؤل عن هذه الأهداف المشتركة، وينفذ بنا إليها بكفاءة وإيقاع لا يثير قلقاً أو ارتباكاً لدى القارىء.
هو يضعنا أمام عملية إبعاد مهين للضباط العرابيين، بعد تجريدهم من الرتب، وحرمانهم من الراحة والمستقبل، وتلقى الرأفة ممن كادوا أن يكونوا تحت مقصلة الثوار! لكن “فتحى” لا يصور دولة منهارة عقب فشل الثورة، إنها دولة مستمرة فى حضورها الدولى وتتعاون فى هذا الإطار، فترسل مندوبها ليحكم هرر (فى قلب إثيوبيا) وآخر إلى مملكة الباغندة وثالث الى شواطىء بحيرة فيكتوريا حتى أنه يؤكد على تجسيد شخصية كان لها حضورها التاريخي الفعلي (من المنوفية) لم تكن على وفاق مع العرابيين، لكنه ثابت العزم مع الدولة حتى أقام قلعة مصرية على خط الاستواء باسم قلعة “حواش منتصر” .. و الكل أثناء ذلك أليفون مع السودانيين لهم حزازات ومودات مع الشايقية تارة ومع الشكرية تارة أخرى. لكن كل ذلك لم يمنع تزاوجا يتم من منقباد وقنا إلى ملكال لإشاعة جو عائلى فى الحملة المتجهة ” لبلاد الكفرة”.
الواقف عند العتبة الأولى يجد نفسه دون حيرة مع مجموعة الإثنى عشر من الضباط العرابيين الذين كانوا يتطلعون للثورة وإلى الدستور والحداثة، وحتى التعاون الكريم مع شخوص الإمبراطوريات الكبرى ، وإذ بهم أمام سكرات الموت التى لا يرهبونها، وكأن المصريين منذ محمد على وعرابى معاً، لم يراجعوا موقفهم من النزوع الإمبراطورى الذى يتطور بسرعة إلى نمطه الكولونيالى، وإذ “بالضابط الحر”، سواء الحسينى ،”العرابى” القح، أو” حواش” العسكرى القح أيضاً، لا يجدون مرارة كبيرة فى هذا التطور، ما دامت الدولة الحديثة (المدنية الدستورية ) ممكنة عند الحسينى، أو إن الإمكانية هى للدولة العتيدة، المنضبطة الطامحة، عند “حواش منتصر” . إنهم دائماً يناقشون أصولية الشرق وحداثة الغرب، وقد تعاونهم هذه التوليفة مع قبولهم بالحياة الاسطورية للأتيان” بكتاب النيل”… وهذا هو الأساس.
منذ العتبة الأولى ينطلق الأشاوس فى هذا الإطار، فيعبرون بلاد النوبة وحدودها المتشابكة إلى السودان الشمالى مع زوجات؛ بعض أصولهن من قبائل أو عشائر سودانية، وبعض ميولهن مع الثورة المهدية، لكن ذلك لا يثير جدلاً كثيراً، بل يتبنوا المشاركة فى بناء الخرطوم مع أهالى السودان .. ولاينسى العرابيون طوال الرواية الحديث عن الهوية الوطنية لمصر، حتى بالحساب الإيجابى لدور سعيد باشا سىء السمعة فى تمليك الأرض للمصريين ووضع الفلاحين فى الجيش!
لا تنتهى العتبة الأولى إلا ونكون قد تعرفنا على أبعاد “الحملة” الجنوبية، متناثرة بين سلطة لدولة آخذة فى السقوط والسلطة البريطانية الصاعدة فى استعمار المنطقة مستخدمة المصريين هناك .. ولا يمنع ذلك ضباطنا العرابيين المتمسكين بوطنيتهم من القبول بغزل التسلل الفرنسى الناعم عبر “فرانسوا” الفنانة الجاذبة لبعضهم في هذه المناطق الموحشة مع ارتياح لوجودها، ومع اقترابها من ” الحسيني” نفسه، بما يذكرك بصداقات الشيخ محمد عبده، أو مصطفى كامل مع الفرنسيات أو فرنسا نفسها…..!

-3-
خليط يشكل زخم البداية فى برزخ جديد لمعركة صعبة عقب هزيمة أصعب –يتذكر أبطالنا خلالهادائما حروب “سيف بن ذى يزن” لاحضار “كتاب النيل” ، ويجد أبطالنا أن زهور الجنان الأولى تضعهم على عتبات الجنة كما تتصورها الآن القيادات الشابة المبعدة من جنة الوطن ، منفية إلى جنوب السودان ، وربما كان لهذا الشعور أثره في الأحاسيس الانسانية الجديدة لأبطالنا والتى تبدو لهم وللقارئ أكثر إنسانية من بعض تعليقاتهم أحياناً عن “استسلام المصريين” أو” ميل الفلاحين للخديوى رغم ثقافتهم تجاه الثورة، أو إعجابهم ببطولة مغتصبيهم!”
هكذا رغم أنه يستنطق سلطان “الشكرية” الذى ينبه العرابيين إلى أنهم انشغلوا عن السودان بثورة الفلاحين ! وها قد أصبحوا أمام “ثلاثية صعبة من مصر/النوبة/السودان ممثلة فى العلم ثلاثى الأهلّة”. وفى منطقة دخول السودان من الخرطوم وعقب عبورهم حكاوى الشكرية والشايقية عن قضيتهم مع مصر، يكتشف الجميع ألا خطة جدية لمصر تجاه السودان فى ذلك الوقت لأن الخديوى نفسه الذى دفع بهم فى”الحملة السودانية ” تابع لأصحاب الخطة البريطانيين “الذين جعلوا رعاياه ، وخاصة من الفلاحين ، يكتفون بعشر درجات من عالم واسع يضم مائة وثمانين درجة ، بينما قبائل السكسون لا تمل من ابتلاع بقية درجات العالم ”
لكن أبطالنا الإثنى عشر يعون أبعاداً أخرى لرحلتهم، يجعلها “إمبابى ” سبيلا لصمودهم أمام الاستحالات الأسطورية ، بل يتجاوزون بها مأزق مواجهة المهدية واختراق عالم القبائل والمستنقعات بدون خسائر كبرى، وكانو يتمسكون بعدم القبول باستمرار الاسترقاق لأبناء القبائل كعبيد ، والحرص على سلوك تحريرهم وتنسيق المسيرة معهم إلى غايتهم لعبور البرزخ إلى عتبات الجنة.. حيث صاروا قاب قوسين أو أدنى من السماء، هنا يتجاوز “إمبابى” سلوك الأنثروبولوجيين التقليديين ممن تذكر اعمالهم هؤلاء الناس ككائنات من خارج التاريخ، فى مناطق النوير أو الشلك أو الزاندى أمثال “رادكليف براون، وإيفانز بريتشارد… الخ “.
عبور بحر الجبل، وصور الأطفال مع الطيور فى النيل الأبيض، وتحول المستنقعات والسدود فى هذه المنطقة ، وكأنها “المراح” أو المراعى الرحبة فى نزهة عصرية ، يشهد فيها فلاح الشمال نيلا بلا معالم، منبسطا بلا ضفاف … مناقع شاسعة.. سلسلة من البحيرات تمتد من خط عرض عشرة حتي خط عرض خمسة ، وقد اختفي البران وتحول الوجود الي عالم مائي …سكون ازلي يستره الماء ” ….هناك “يتجادل الضباط والسودانيون فى خليط جميل من البلاغة العربية والحكى السودانى ، واستدعاء حكاية الجدة “بدرية “، مع حكايات الملاحم والرحالة عن مجىء النيل من الجنة ..!، لعل هذا الجو الشاعرى الذى خلقه فتحى إمبابى، هو نفسه الذى قاده لصياغته البليغة والعميقة عن مأزق العرابيين فى “حملة عسكرية” إلى السودان، فراحوا يقدمون لها مختلف الصياغات وسط هذا العالم الموحش . يقدم “إمبابى” صوراً رومانسية وتركيبات متعددة لقضايا خطيرة عن منطقة لا يعرفها إلا القليلون فى مصر، بل وفشل فى تصويرها معظم من ذهبوا إلى السودان قبلا ولم يصفها مجزاة إلا بعض الرحالة الإنجليز، وفق قواعد الأنثروبولوجيا الكولونيالية .
فى صراع العرابيين مع الواقع السوداني هنا مثلاً يقدم”الحسينى” وصحبه تعاملاتهم الإنسانية، للتعبير عن ثورة شعبية ترددت أمام الثورة المهدية فى السودان بسبب مثير يذكره “إمبابى” عن الفجوة الحضارية بين الثورتين رغم ضرورة لقائهما، رغم انتقال بعض افراد الحملة العسكرية الي محاربي المهدية ، ..كما يقدم “إمبابى” صورة أخرى للضابط “الدولتى”، الخديوى الميول و الساخر من العرابية، لأنه ملتزم فقط بإقامة نفوذ الخديوية المصرية فى هذه المنطقة فيما سمى “بقلعة أو” مملكة” حواش.”. وتنعكس الاتجاهات الإنسانية والدولتية المصرية معا تجاه تجارة الرقيق، فاذا كان الحسيني يرفضها كعرابي وطني فان “حواش “يمتنع عنها كانساني امام رفض التجار المسلمين تحريمها، وهنا يرتبك نفوذ الدولة مع العلاقة المرتبكة اصلا مع السلطات الاستعمارية الأخرى.
فى هذه الفترة التى لم تشغل العمل الأدبى تفاصيلها، ربما لأسباب فنية يترك للإشارات والمشاعر فقط التعبير عن طبائع الصراع ، حيث يتصارع الاستعمار التقليدى الإمبراطورى أو الإمبريالى الصاعد مع مصالح محلية لدولة تبحث عن الإمبراطورية الخديوية مثل مصر، فيما أسماه البعض نوعاً من “الإمبريالية الفرعية”… لقد بدا المصريون فى هذه الفصول الوسطى للرواية فى صراع نوايا تجاه السودان، وصراع سلطة استعمارية مع الإنجليز، وتتجسد صورة الإمبريالية الفرعية-فى عمل أدبى- من تردد الموقف الإنسانى تجاه الرقيق، وتمثل خطوات الوصول للنفوذ الاستعمارى فى أوغندا والكونغو. فبريطانيا تقيم بعض مصالحها معتمدة على جهد “الجنود” المصريين فيما سمى ” بالحملة السودانية “، والمصريون يؤسسون لنفوذ يحمى مياه النيل بالأساس ويتصدى لنمط التسلط الاستعمارى أمام ممثلي الإنجليز فى القاهرة…
صراع جعل مكر “الاستعمار” يرتبط بمعالجة تجارة الرقيق لصالحهم، بينما الدولتية المصرية-كما يقدمها امبابي تحمى مياه النيل، وتنشىء المزارع وتدخل بذوراً جديدة ووسائل حديثة لهذه المزارع ، ويتحدي ” حواش” القيادات الاوربية في المنطقة والتي تحفظت علي نفوذه الذي وصل به، إلى “خط الاستواء” يقيم عليه المواقع الرمزية، عند “جوندوكرو”، كما يصل إلى “لاتوكا” بعد “لادو” وكلها مواقع هامة فى جنوب السودان تمهيداً للوصول إلى “نيمولى” و”راجوبا” ليعرض على ملك “الباغندة” خطته لقياس النيل …الخ أثناء ترحيب “الكاباكا ” موتيسا” بممثل أخيه السلطان المصرى الذى يعلن له إسلامه”. وهنا تتحدث الرواية عن تدمير هؤلاء الاوربيين لمملكة “حواش ” الواقعة في شمال الكونغو- بل وسمعته واخراجه من الجنة ” بكل ما يعكس العلاقات بين عناصر هذه الرحلة
ويذكرنا فتحى إمبابى هنا بالشبق المصرى مع مياه النيل، أنه بوصول” الحسينى” و “حواش ” والجنود إلى منطقة الصراع الحقيقية فى حوض النيل ومنابع النيل، تبدأ مجموعة مسميات لها فى ذاتها كل الدلالات التى يريد تقديمها عن “الواقع” وإن بصور مثالية. هنا نقرأ الكثير عن “أسطورة خط الاستواء” وعن طائر النيل المقدس “إيبيس”، وعن طقوس “الدم والمطهر”، “وعن مهد البداءة” بل وعن الشاعر “ديمترى كفافيس” باسم شاعر الحملة حتى نصل إلى طريق سيف بن ذى يزن إلى كتاب النيل.
ولا يتركنا” امبابى” فى واقع خيالى حتى يجعلنا نكتشف معه مراسلات بين شخصيات مصرية يهودية مقيمة فى المنطقة مثل “فيتا أفندي حسان” قرب خط الاستواء تنشغل بالمشروع الصهيونى الذى يرتب للوصول إلى “الاستوائية” وحوض الكونغو.
ورغم أننا لا نعرف إذا كان ذلك روائيا او وثائقيا، إلا أننا نشعر أنه كان يريد أن ينبه القارئ إلى أن رحلته العرابية الوطنية هذه لايمكن أن تخلو من وعى شامل بأعداء هذا “المشروع” الوطنى سواء كانوا من الاستعماريين الانجليز أو المتسللين الصهاينة…
وفي موقع اخر لا ينسي امبابي ذكر وجود ضباط من الحملة يحاول احدهم الزواج من بنت احد التجار المصريين الاقباط في الجنوب نتيجة اندماج الضباط بالعائلات المحلية مسلمين واقباطا. وفي فصل رقيق التعبير يرصد ” تباريح الهوي ” بين “انجي ” القبطية والضابط ” مقلد” ….

4 – –
من زاوية أخرى نشعر أن ما يسيطر على “فتحى إمبابى” أيضا هو رغبته فى كشف الوجدان بأكثر من وقائع التعامل اليومى ، إلا إذا كان انعكاسا لهذا الوجدان. فعلي طول الرواية يدرك القارئ دور المراة في دفع الاحداث، وفق ظروف الموقف طبعا ، … تحركات مبكرة في قصور القاهرة ،او مظاهرات زوجات الضباط من اجل مطالب في الرحلة ، الي حوارات بشان بعض التنظيم لها .. بما لم يدفعه لابراز شخوص معينة للتعبير عن هذا الدور ممثلا لوجدان المراة اواخر القرن التاسع عشر .. و قد تجد ذلك ايضا فى جدلية مستمرة عنده يمثلها تصارع القسوة الدولتية والاستعمارية الصغرى عند “حواش” الذى وصل “مونبوتو” على الحدود الكونغولية وبلاد نيام نيام. وعنفه مع هؤلاء “الزنوح” وسخريته من العرابيين فى نفس الوقت وحديثه عن طبول الحرب، وبين اتجاه آخر إنسانى طول الوقت يمثله ذلك ” العرابى ” الذى ما زال يحمل آلام ثورته الفاشلة ….. “الحسينى” الذى لا يتردد فى نقد هذه الثورة حتى أمام “حواش”، و نقد ترديها فى أنماط التخلف التى عوقت وصولهم لمعالجة تحديثية لأساليب المقاومة. وثمة مبالغة، قد يجدها القارئ عند “امبابى”، فى صدام الحداثة والدولتية مع الوطنية العرابية إلى حد أن تمنى البعض من زملاء “الحسينى” أن يكون قائد العرابية شخص مثل “الصاغ حواش” لكن الحسينى كان يذكر دائماً بأن الواقع نفسه قدم شخصية مثل “محمد عبيد” لم يأخذ حقه بين واقع العرابية نفسها، ولا فى تقدير قيمته للثورة فى ذلك الوقت، لكن تظل رواية فتحى إمبابى دائمة الإنحياز لاسم “عبيد” الذى يقدسه “العرابيون” وأن أبعدوا إلى خط الاستواء.. اذ يبدو بقاء حلمهم هو إقامة “جمهورية وادى النيل” بعدما يملكون “كتاب النيل” ويصلون إلى” صفحاته الأخيرة” “باعتبار ذلك آخر عتبات الجنة السبعة وعندها سدرة المنتهى “… عندها يرفع العلم المصرى على حدود الكونغو.. ويستحضر الكاتب سيف بن ذى يزن الذى يعمل سيفه فى منطقة الجنوب، ويسوق النيل- حسب الراوى للسيرة – من ارض الحبشة والسودان إلى هذه الديار!
فى أجواء يخلقها الكاتب ببراعة وحرفية مضيئة ، ينقلك “إمبابى” من “تباريح الهوى” فى العلاقات الداخلية بين عناصر “الحملة” إلى نوع من التماهى مع الطبيعة، وما يحكمها هناك من عوالم الجن والمردة، واخيله عن مضاجعة الإنسان للكائنات الحيوية فى الطبيعة، وفق مغامرات خيالية تحسبها واقعة أمامك، من كثافة سيطرة الحلم على الفعل، فى منطقة تبعث الخيال الساحر بطبيعتها التى يجيد إمبابى تصويرها إلى درجة لا تعرف كيف تفصل بين أخيلته وبين الشائع الأنثروبولوجى عن “أكلة لحوم البشر” وبين الموروث من أدب الرحلات عن بلاد “نيام نيام”… والبداءة الاستوائية…..
إن “فتحى إمبابى” حين يدخل بك عالمه السحرى فى قلب المديريات الاستوائية لأعالى النيل يجعلك تذوب هوى بين الحقيقة والخيال وبين أن تحب الواقع السحرى، وحالة البداءة الاستوائية هذه، وهو لايثير دهشتك مما ينثره أحيانا من أحاديث أكلة لحوم البشر التى يستملحها البعض، فى جو “الجماعات السرية” التى كتب عنها “أنثروبولوجيون عن” قبائل فى غرب أفريقيا مثلا نعرف نحن عنها أصالتها الحضارية وممالكها الشهيرة مثل “المندى” و “الفولا” و “ممالك الماندنج “…..
ولكن المرء يحتاج لدراسات أخرى تخرج عن نطاق النقد الأدبى ليعرف كيف انضمت منطقة حوض الكونغو أيضاً لقائمة أكلة لحوم البشر عند الرحالة الذين عرفت منطقتنا العربية ترجماتهم أكثر من غيرهم حتى كادت كثير من الأخيلة أن تبدو كالحقائق على نحو ما أوقعنا فتحى إمبابى أحياناً فى حبائلها.. وهو مع ذلك الذى يجعلك فى قلب أبطاله حين يندهشون عند مداخل الجنوب مما يرونه من روعة الكائنات و الطبيعة ليقولوا أن الجنة هى الجنوب” أو من يصيح أمام مساحة النهر المفتوحة، بالمستنقعات والسدود.. ليتساءل عما إذا كانوا أمام “نهر للسماء أم برزخ للموت” أو أنهم أمام بوابة الجنة التى طرد منها الإنسان حين طرد من الفردوس …! ولذا يصر” الحسينى” دائماً أنهم” يجتازون عتبات الجنة التى آخرها سدرة المنتهى” (العتبات فى سبعة فصول) عندما يكمل النفوذ المصرى إلى خط الاستواء ومخارج النيل من سفوح الكونغو وأوغندا..
أبطال “فتحى إمبابى” ليسوا فقط أفراداً متحابين أو متصارعين، تجمع بينهم عناصر الحكمة والجنس والطعام والسلطة السياسية والاجتماعية! إنهم السجانة والضباط، والنوبة والشكرية والشايقية، والدناقلة، والمكراكا.. والماهاجى والمميورو فى حوض الكونغو وأوغندا.
ويربكنا فتحى إمبابى أحياناً بين حالة الرغبة المصرية فى الاندماج بحيوية فى عالم حوض النيل ، وبين ارتباكهم كمواطنين أمام الصراعات الخديوية هناك مع الأهالى تارة ، أو السلطات الأوروبية تارة أخرى… ولعل فارق الحكى والتعامل مع الدنقلاوية وقبائل الجنوب من ناحية، واستقبال تجار الرقيق، ورفض سلوكهم من ناحية أخرى، ويبن هؤلاء وأولئك استقبال الفرنسية “فرانسوا…” الفنانة التى تراوح غرامياتها بين كل الجنسيات والأجناس لتقول رسالة أوربية عن التسلل الفرنسى الثقافى الناعم فى هذه المنطقة ، مما يحتاج بدوره إلى شرح مطول للأساليب الأوروبية وغيرها فى الزحف إلى هذه المناطق.
وينتهى فتحى إمبابى من أخيلته الروائية إلى طرح ” مشروع الوطنية المصرية” تجاه السودان وأعالى النيل… ليبرئ المشروع من الأطماع التقليدية التى ارتبطت “بالاستعمارية”، ويدخله فى العباءة الوطنية الشعبية التى تدرك إمكانيات المصرى فى الاندماج فى هذا السودان شماله وجنوبه، وهذا ما يبدو أنه موضع قلق دائم بين بعض النخب وحتى الجلابة الذين كانوا فى الجنوب ، وليس بالضرورة قلق شابات وشباب تزاوجوا وما زالوا يتزاوجون دون كل هذه المخاوف التقليدية، بل أن “فتحى” يقدم صوراً لعلاقات الشماليين والجنوبيين يحلم بها الواقع الحالى فى “الدولتين”..!
لذلك يحاول فتحى مكثفاً فى فصوله الأخيرة عن “العتبة السحرية” وفردوس الفطرة، وحتى “سدرة المنتهى” أن يصل لصيغة سياسية مدهشة خلال تأملات “الحسينى العرابى” فى واقعة. وكإنما “الدولة الدولتية” التى تطمع فى التسلط فى الجنوب (الصاغ حواش) وهى العاجزة التى تم حل جيشها بأمر الإنجليز، تخضع لاستحضار إمبابى للآية الكريمة فى مخاطبة الرب لأدم “ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين”…. أما الدولة العرابية التى حلم بها.. فقد فرحت بالاقتراب من كتاب النيل، وبشرت نفسها بعودته “يوم رفع أحدهم العلم المصرى على شمال هضبة الكونغو” ويردد “العرابى” ذكرياته وأحلامه عن الحصار الذى بات فيه بعد الفشل، متسائلاً: لماذا مات الإميرالاى محمد عبيد وعاش عرابى ؟ لماذا ظهرت الحركة المهدية فى هذه اللحظة؟ لماذا ماتت الجمهورية قبل أن تولد…؟ وقد كان العرابيون من رفاقه ” يطمعون أن يلتقى أبناء وادى النيل مصريون وسودانيون عربا وافارقة ممن كان باستطاعتهم إعلان الجمهورية من خط الاستواء إلى البحر المتوسط….”لكن: كيف للحلم أن يولد فى رحم المستقبل إذا لم يجد آباء يؤمنون به؟؟!….. وهكذا يلقي امبابي “ببيانه ” للناس في الصفحات الاخيرة من الرواية دون حرج من اية مباشرة تتجاوزها رؤاه واخيلته الفنية طول الوقت.
والملفت أن يذكر إمبابى أن أحد صعوبات مشروعه ذاك كانت” الفجوة بين الثورة العرابية والحركة المهدية التى صنعتها عقيدة المهدى الأصولية المغرقة فى بدائيتها وبين عقيدة الضباط العرابيين التى تنتمي لدولة ” دستورية مدنية حديثة”… أو هكذا كان يحلم العرابيون بقيادة محمد عبيد.
لكن بنية العلاقات فى الرواية لم تكتمل رغم اكتمال مبنى “امبابى “، وهذا ما شعرت بالقلق نحوه أحيانا ، مع قراءتى لهذا العمل الهام ، إلا أن أقول أنه محتاج لقراءات متعددة .
ومع ذلك، فلابد أن أسجل لفتحى امبابى أنه يكتب روايته مثلما يرسم كمهندس ولا يقدم المشهد مرة واحدة. “فالعتبات” مثل الطوابق مثل أى عمل هندسى “يمارسه هو فعليا فى الحفر والتركيب”، يحتاج تراكما يجيد امبابى بناءه فى تتابع ظهور شخصياته، حتى يصل الجميع إلى ما يسميه ” سدرة المنتهى “. عندها تتوافق شخصيات بدأت فى الأساس “بالحسينى” (العرابى) ليظهر
“الدولتى حواش ” وسط العمل …ويظل البناء المعمارى فى الصعود إلى خط الاستواء، الذى يهيأ لنا أنه “سدرة المنتهى” .. وما هو كذلك ، لابالنسبة للعرابيين ، ولا بالنسبة لرجال” الدولتية المصرية ” فى رؤية امبابى الكامنة فى العمل ..حيث يظل الانجليز من وقتها أصحاب اليد العليا ..كما ظلت “العرابية “، و” ثورة الفلاحين ” حلما…
وعند هذا الحلم وفى آخر صفحات الرواية يعيد “فتحى امبابى” اقتراحا لبنية الرواية الحقيقية عنده عن النيل ومصر ودولة حوض النيل علي النحو الذي قراناه في بيانه
ويخرج إمبابى من كل صيغ الخيال السحرى الذى اصطحب فيه قارئه فى مسيرة أبطاله الاسطوريين، وقد أصبح أمام دافع الجمهورية “جنة الماوى”… ليقول “ليس هناك من مرجانة وزيرة الزمان ولا الملكة منية النفوس… لم يكن هناك الملك سيف بن ذى يزن، يقطع سيفه الجنوب والضلوع، ويقطف الكفوف والرؤوس من الأعناق كأوراق الشجر…
بذلك نفيق من خيالات إمبابى.. أمام سدرة منتهاه، عندما تتوقف الحملة النيلية وتتوقف الاحلام، عند خط الاستواء!.

Please follow and like us:

COMMENTS