في ذكرى وفاة عبد الناصر: الرحيل لا يعني الغياب*

في ذكرى وفاة عبد الناصر: الرحيل لا يعني الغياب*

من جديد .. ماذا يجري في الجزيرة السورية؟
العرب والجغرافيا السبرانية .. الجيوبوليتيك السبراني
وزير خارجية الهند : دور كبير على عاتق مصر والهند لتخفيف حدة حالة الاستقطاب العالمية

دعيني اروي لك يا صغيرتي شيئا عن أبي، جد امك، رحمه الله. في احد الايام، كان الصباح هادئا، استمتع فيه برفقة جدتي في منزلها الملاصق لمنزلنا قرب بحر بيروت. صباح من صباحات شهر أيلول الذي شارف على الانتهاء، هواء البحر يتهادى الينا عليلا من نافذة عريضة نفتحها بوضع عصا ما بين سقف النافذة ومسطبة الشباك العريضة. درفة الشباك نفتحها عل شكل رقم ثمانية ولطالما كنت استهجن شكل الشباك واقارنه مع نوافذ الابنية العملاقة الواقفة في محيط بيتنا. هذا البيت الشبيه بالبيوت الريفية القديمة. لكنها نافذة جميلة تطل عل حديقة ابي المزروعة بالبقول النفاذة الرائحة وبخاصة النعناع والخيار والبندورة.

كنت في السابعة من عمري ولم اتمها بعد، حين اطل ابي برأسه من تلك النافذة وقال لجدتي بصوت حزين رزين دون إلقاء تحية الصباح “ماما، مات الرئيس عبد الناصر” صرخت جدتي وهي تقوم من جلستها المستوية فوق طرّاحة على الأرض ” لا، لا” “يا صباح الشوم” ثم نظرت اليه وقالت “راحت فلسطين” واغرورقت وتمتمت رحمة الله رحمة الله عليك وانسحب ابي من النافذة متأثرا بردة فعل والدته دون أن يعيرني اي نظرة، ففهمت ان المصاب جلل ومنذ ذاك اليوم علق اسم الرئيس عبد الناصر  في ذاكرتي والتصق بوجداني.

ماذا أخبرك يا صغيرتي،  هذه حكاية حقيقية ،  حكاية تصلح ان تروى للكبار وللصغار معا، اتمنى الا تملين سماعها. لن نبدأ بالجملة الشهيرة لكل القصص المروية بلغتنا العربية الجميلة كان يا ما كان في قديم الزمان. أو أنك تفضلين الدخول إلى الحكاية دون مقدمات.

حكايتي يا حفيدتي الجميلة، عمرها اثنان وسبعون عاما ولا يجوز قدم الزمان في وصفها، ما زالت قريبة، ابطالها أحياء يرزقون وقد مات منهم كثيرون، شبانا وفتيانا واطفال وعجائز ونساء ورجال ورضع.

حكايتي مكانها رائع، فلسطين العربية،  لكن عنوانها مؤلم، النكبة، ما هذه الحكاية التي لن استطيع ان ارويها لك في امسية واحدة؟.

قد يغلبنا النعاس رغم قوة الحبكة والاكشن والرعب وخيالك المتعب من تصورات مشاهد اختطاف فلسطين. فلسطينك والأطفال يحبون ما لهم ويتعرفون إلى أغراضهم وما يخصهم منذ شهورهم الأولى.

اجل يا جميلتي، أخذوا فلسطين، خطفوها وعندما تكبرين سوف تسمعين صفات أخرى عن هذه الواقعة، هذه هي الحقيقة، في ذاك الوقت كانت بريطانيا إلى جانبهم والقوى العظمى تدعمهم وكنا ضعفاء لا نملك شيئا سوى أجسادنا وسلاحا ورثناه من إمبراطورية مهزومة رمتنا لقمة سائغة للطامعين. وايضا كان لدينا سلاحنا الأبيض الذي لم نقو به على زمننا الأسود.

ثم نبشنا الأرض ففاضت علينا بالنفط، ولو تعلمين كم أصبحنا دولا غنية وامتلكنا الجيوش والاسلحة وقامات تفهم في السياسة والديبلوماسية وسطع نجم الرئيس عبد الناصر من أرض الكنانة وشعرنا نحن العرب اننا أصحاب كرامة وحق. العربي الاسمر كان شجاعا، وصارت فلسطين قضية العرب الأولى. توافقنا من أجلها وعقدنا المؤتمرات ودعمنا منظمة التحرير وحق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين تشتتوا في بقاع الأرض مشرقها ومغربها، ودعمنا حركات التحرر في العالم وتحالفنا معها فكانت مصر بالنسبة الينا ام الدنيا.

رفعنا شعارات التحرير من البحر إلى النهر، ونظمنا الأشعار في حب فلسطين واقمنا مهرجانات الخطابات الحماسية وانتظمنا في صفوف حركات التحرر في العالم، وهبت الجموع العربية الشعبية لنصرة فلسطين. وبدأ الابطال يموتون شهداء على أرض الأجداد والآباء.

الله، الله، ما أجملها من ايام، او تدرين يا صغيرتي اللطيفة اننا كنا مخلصين انقياء. ثوار بكل معنى الكلمة، تصدح حناجرنا بكلمة فلسطين وبكلمة فدائيين. أصبحنا نعرف اسماء المدن والقرى في فلسطين وأسماء الشهداء والقادة

اليوم يريدون طمس فلسطين، يريدون ان ينفضوا ايديهم منها، اليوم غالبية “المناضلين” الذين اسبغ عليهم اسم “نشطاء”، هم تابعون، ثوار بالأجرة، وبمهلة، تصدح حناجرهم بشعارات من صنف الشتائم، شعارات ما عادت فيها فلسطين من النهر الى البحر وما عاد فيها لا حق ولا عدل ولا حرية ولا استقلال ولا وحدة ولا وطن عربي ولا …

اليوم، نسي الكثيرون من اهل القضية، اسماء مدنهم وقراهم الفلسطينية ونسوا معها اسماء القادة الحقيقيين ومعهم اسماء الشهداء العظماء وتآمروا على المعتقلين المحكومين بمحكمة باطلة، محكمة المحتل، حين حفروا بملعقة تحت السجون يريدون التحدي ومعه شيئا من انفاس الحرية.

غدا، لما تكبرين يا صغيرتي ستعرفين الكثير الكثير ومزيدا من تفاصيل حكايتي عن عبد الناصر وعن فلسطين، ستدركين اننا حاولنا وفشلنا ونجحنا وستعلمين كم اخطأ العربان بحق جمال عبد الناصر نصير فلسطين والامة العربية نصير فقراء مصر واحرار العالم، عبد الناصر المخلص لعروبته ولشعبه وقوميته.

في ذاك اليوم القادمة اليه يا صغيرتي لا تصالحي ولو منحوك الذهب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* في ذكرى رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، الموافق في 28 ايلول من العام 1970، تداعت هذه “الذكريات” في حكاية اهديها الى حفيدتي.

 

نجوى زيدان، كاتبة وروائية وصحفية عربية من لبنان

‏الثلاثاء‏، 28‏ أيلول‏، 2021

Please follow and like us: