خاص ـ الحقول / ثمة مسألة شائعة في بحوث «مدرسة التبعية» التي سادت الفكر «العالم ـ ثالثي» في السبعينيات والثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن المنصرم. تلكم هي مسألة العلاقة الجدلية بين الهياكل المحلية والمؤثرات الخارجية في البلدان التي خضعت لمسار الاستعمار الأوروبي الحديث.
وترد هذه المسألة واضحة نصاً، على سبيل المثال، في كتابات «أندريه غوندر فرانك» مثل: «التراكم التابع» Dependent Accumulation و«التنمية والتخلف» Development and Underdevelopment وقد انعكست هذه المسألة كذلك في عدد من الكتابات العربية الرائدة في الحقبة المعاصرة، ومنها كتابات المفكر الجزائري «مالك بن نبي» في أطروحته حول ما أسماه «القابلية للاستعمار».
وقد سبق أن تعرضنا لهذه المسألة في مقالة لنا بعنوان: «نحو نظرية عربية في التخلف والتنمية» نشرت في مجلة «الوحدة» الصادرة عن «المجلس القومي للثقافة العربية» من الرباط بالمغرب (العدد 89 ـ نوفمبر 1992، ص 89 – 101).
«القابلية للإستعمار»
وخلاصة ما توصلنا إليه منذئذ أن الهياكل المحلية في البلاد المعنية، حينما تتعرض للسيطرة الأجنبية، فإنها تكون قد بلغت حالة من الضعف النسبي الذي يجعلها معرضة للتأثير والاختراق الأجنبي بدرجة أكبر من غيرها، فكأنها تكون لديها «قابلية» للخضوع على رأي قريب من مالك بن نبي. ويتخذ الضعف صوراً متنوعة، أهمها ضعف البنية العميقة للكيان الاجتماعي والسياسي، والاقتصادي أيضا، بل ربما الاقتصادي في المقام الأول، وكذا الكيان العسكري مقصوداً به القوة العينية المجسدة في حمل «السلاح» واستخدامه.
وهناك ضعف المقدرة على إدارة الصراعات، وبناء التوجهات والسياسات، حين يصيب العوار انحيازات «القيادة السياسية» وتصميم الأولويات التي تتبناها في الإطار الاستراتيجي و «الجيوـ سياسي».
وتتخلق من ضعف البنية أو الهياكل المحلية، ومن العوار في نمط إدارة الصراعات، «ثغرات» قد تتسع في أبعادها الكمية والعمق النوعي، بحيث تسمح بهامش معين من التدخل للأطراف الخارجية، على اختلاف مواقفها من البلد المعني: من العداء الكامل إلى عداء نسبي إلى منافسة جيويوليتكية ذات طابع صراعي، إلى صداقة فموالاة.
وتطبيقاً للمنهجية السابقة، يمكن القول إن بلادنا العربية في مطالع العصور الحديثة كانت قد بلغت درجة من الضعف أغرت الدول الأوروبية القوية الطامعة باستضعافها وإخضاعها، وهذا هو تفسير السيطرة الاستعمارية في ما يقابل لفظة Colonialism. هذا بصورة عامة. وبصورة خاصة، فإن المنهجية السابقة تنطبق على المنطقة العربية خلال الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية، لا سيما في المنطقة المركبة: «المشرق العربي ـ شبه الجزيرة العربية». فهذه المنطقة المركبة تعاني أصلاً من عيب بنيوي وتركيبي جوهري للكيانات السياسية بفعل التجزئة الاستعمارية الحديثة للمنطقة، ما جعلها في حالة «قابلية دائمة» للخضوع. ويشتد مفعول هذه الحالة في ما يتصل بما أسماه البعض بمنطقة الهلال الخصيب «العراق + الشام» حيث تتسم بالهشاشة الجيويوليتكية العميقة، انطلاقاً من «الذرية» التكوينية التي لم يجمعها في العصر الحديث إلا رابط «العروبة» الضامّ، ولما لم تتحول رابطة الهوية الثقافية والتاريخية ـ الحضارية للعروبة إلى رابطة للهوية السياسية «الدولتية»، فإنها أصبحت قابلة للانفراط الدائم.
وقد تولى الحكم في هذه البلدان، لفترات متفاوتة، أنظمة تسلطية المنبت والطابع، متسمة بالإخفاق التاريخي المزمن في إدارة الصراعات وبناء التوجهات والسياسات وتصميم الأولويات، برغم «النيات الحسنة» للبعض من القيادات المشخصنة، ومنابتها الفكرية الراجعة في جانب منها إلى إيديولوجية «القومية العربية». وقد أدى ذلك إلى الوقوع في خطايا جوهرية في كل من التوجهات الداخلية والخارجية، فتحت ثغرات واسعة، وتولدت «القابلية للاختراق»، فحدث التدخل الاستعماري على أوسع نطاق وبأعمق ما يمكن، وعبر الزمن، ما أدى في نهاية المطاف إلى غزو أجنبي لبعض الأقطار العربية كما حدث في العراق (2003) وإلى تدخل عسكري هدام كما حدث في ليبيا (2011)، وتكالب بعض القوى الاقليمية المجاورة والقوى العالمية المهيمنة على كل من سوريا واليمن (2011 ـ 2015).
والحق أن المرض العضال الذي أصاب المنطقة العربية المشرقية خلال الآونة الأخيرة يمثل تطوراً عن تيار «الإسلام السياسي» الذي ترعرع بعد العدوان الاسرائيلي في حزيران 1967 وما تلاه من نكسة عسكرية مؤقتة كما هو معروف. ولقد كان استواء عود الجناح الدموي الساعي إلى امتلاك دولة ذات إقليم وحكومة وشعب، حسب الفقه الدستوري، بفعل ظروف متعددة معقدة، يتفاعل فيها العاملان الداخلي والخارجي بطريقة جدلية.
على الصعيد الداخلي، نلحظ بيئة ثقافية حاضنة قائمة على الفهم والتفهم العربي الواسع للتراث الإسلامي كرافعة للحضارة العربية الإسلامية الموجدة للقومية العربية، وفي المقابل ـ داخليا دائما ـ أنظمة تسلطية استعانت بالتيار الإسلامي تارة، وجاهدته جهاداً عنيفاً تارة أخرى، وكان للجناح الدموي ما أراد في الحالين: توسع وازدهار تدريجي عميق.
ولا ننسى في المقام ما يمكن أن نطلق عليه «إفلاس النخب السياسية العربية» حاكمة ومحكومة في الوقت نفسه، سواء منها النخب ذات «الفكريات» الليبرالية أو الإسلامية أو اليسارية الاشتراكية أو القومية العربية. ونخص بالذكر إفلاس النخب الإسلامية التي تسيدت الساحة العقائدية العربية طوال الأربعين عاماً الأخيرة، فلم تفلح في إنتاج «قماشة» للإيدلوجيات السياسية الإسلامية وتقديمهما لقادة الرأي ثم للرأي العام، ونشير بصفة خاصة إلى التيارين «الإخواني» و«السلفي». ما فتح الباب واسعاً أمام الدخول «الهجومي» لتيار العنف المجسد، ومن ثم للجناح «الدموي» ممثلاً في «القاعدة»، ثم الجناح «الدموي ـ الدولتي» ممثلاً ثم داعس ـ بالسين وليس بالشين!. ومن يدري؟ لعل «الحاوي» يخرج من جرابه الثعباني السام أفاعٍ أخرى في مقبل الأيام.
هذا كله على الصعيد الداخلي؛ وأما على الصعيد الخارجي، فامتداد وتعمق لميول الهيمنة الغربية بالقيادة الأميركية على امتداد الوطن العربي بالمعنى المحدد والعالم الإسلامي العريض، واستعمال مزدوج من قبل قوى الهيمنة وقيادتها المعتمدة لبعض التيارات الإسلاموية وخاصة منذ الدخول السوفياتي في أفغانستان عام 1979، عبر التشجيع تارة، والاحتواء تارة أخرى، والعداء العنيف غير المبالي تارة ثالثة.
ومن اجتماع العاملين الداخلي والخارجي، يمكن فهم جدلية «النشوء والارتقاء» لـ«الجناح الدموي الدولتي» من «التيار الإسلاموي» المتولد بدْهيا من تيار «الإسلام السياسي» العريض.
وفى خلاصة، لقد بلغ الوطن العربي منعطفاً حاداً، حيث فعلت فعلها العوامل الداخلية أو المحلية، وبخاصةِ الأنظمة التسلطية وقرينتها الحركات الدموية ذات التأويل الديني المتعسف، وفتحت من الثغرات أمام القوى الخارجية، إقليمية وعالمية، ما لم يكن يخطر على بال بشر منذ ربع قرن فقط: فالدول «القطرية» أو «الوطنية» ممزقة مهددة بالتلاشي، والموارد العربية مستباحة، والقواعد العسكرية الأميركية قائمة في العديد من الأرجاء وخاصة في الخليج، والقوى «الثورية» (!) يتسابق بعضها في استدعاء الأجنبي والخارجي لمقارعة بعضها الآخر أو غيرها، والكيان الصهيوني يتدلل ويتدخل دون خوف حقيقي في اللحظة الراهنة، أو هكذا يبدو.
آخر المستجدات في سياق الاختراق الأجنبي لوطننا العربي هو ما يعبر عنه شطر من بيت الشعر العربي الشهير: كالمستجير من الرمضاء بالنار. إذ من الملاحظ أن بعض القوى العربية والإقليمية، مدفوعةً بضغط قوي من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، أخذت تستعين على تنظيم «داعش» بشراذم تنظيم «القاعدة». وهذا ما نراه في الآونة الراهنة في سوريا على وجه خاص، من خلال دعم أميركا ومحورها الإقليمي المعروف والمكون من بلدين، لما يسمى «جبهة النصرة» ـ فرع تنظيم «القاعدة» في الشام، ولو من خلال التشجيع «السلبي» بترك هذه الجبهة تتمدد على حســـاب منافسيها داخل التيار الدموي الإسلاموي المدعوم من بلدان عربية أخرى في الخليج. وفى ليبيا عملت القوى الغـــربية على أن تترك شراذم «داعش» في مواقعــها بمدينتي درنة وسرت، وربما تركها لتتمدد، ما دامت تصلح «فزّاعة» لتأديب الأطراف الأخرى جميعاً، من إســلاموية وغير إسلاموية. وأما في اليمن فإن التعامل الغربي ـ الخليجي ـ من تحـت المائـــدة ـ مع «القاعدة» لم يعد أمراً خافياً لمواجهة «أنصار الثورة» ممن يسمون بالحوثيين نكاية في إيران.
وهكذا، فإن مواجهة «داعش» بـ «القاعدة» تكتيك مجرب (غربياً ـ عربياً) للقضاء على عدو راهن بخلق عدو مستقبلي محتمل، فيما يمكن أن يسمى «تربية الوحش»! وهذا ما تم على سبيل المثال في أفغانستان منذ الثمانينيات، بتربية وحش «طالبان» من الجهاديين لمقارعة السوفيات، فكان أن قامت «طالبان» باحتضان الجماعات التي سرعان ما شكلت ما صار يعرف بـ «القاعدة» بزعامة «بن لادن».
ولما قويت «القاعدة» لدرجة مهاجمة الولايات المتحدة في عقر دارها، من خلال الحدث الرمزي لإسقاط بُرجَي «مركز التجارة العالمي» في 11/9/2001، قامت الولايات المتحدة (ومعها تابعتها أوروبا) بابتداع استراتيجية ـ أو تكتيك ـ احتواء واستعمال ما يسمونه «الإسلام المعتدل» ممثلاً بصفة خاصة في جماعة «الإخوان المسلمين» ونظيراتها من الحركات والتنظيمات المثيلة، كحزب «العدالة والتنمية» الأردوغاني بتركيا، لمواجهة ما أسموه «الإسلام المتطرف». وذلك ما لاحظناه من السلوك الأميركي في السياسة الخارجية بعد الثورات والاحتجاجات الشعبية العربية 2011 التي أطلقوا عليها غربياً مسمى «الربيع العربي». ولما صار الإسلام المتطرف إسلاميْن متطرفين مؤخراً، أخذت أميــركا وأوروبا تبتدعان إستراتيجية ـ أو هو «تكتيك» على الأرجح ـ للاستعانة بالمتطرف لمقارعة الأكثر تطرفاً، وإن كان يجمعهما معاً مسمى «التطرف العنـيف» في المصطلح الأميركي Violent Extremism.
ولا بأس أن تتبع دول الغرب بالقيادة الأميركية إستراتيجيتها الموصوفة أو تكتيكها المشهود، ما دام وطننا العربي و«المنطقة العربية ـ الإسلامية المركزية»، هما «الملعب» و«ميدان الرماية» ليس غير، حيث اللعب والرماية بعيدان عن مرمى «ضرب النار» في عقر دار الغرب والولايات المتحدة. فلا تثريب على الغرب أن فعل. وأما نحن العرب والمسلمين، بغير فضل من الأنظمة التسلطية المتحالفة مع القوى الأجنبية، فسنظل نعاني من تربية الوحوش المستقبلة لمقاتلة الوحوش الراهنة حتى إشعار آخر. ويحدث ذلك بفعل بيئة محلية حاضنة: هشة وفاقدة للقدرة «وقابلة للاستعمار» فيأتيها الاستعمار هرولة إن سارت إليه هوناً. فإلى متى؟
الاختراق الأجنبي ليس بدعة
إن الاختراق الأجنبي، الأوروبي الغربي ـ الأميركي، لبلداننا ليس بدْعاً أو انفراداً خاصاً بنا نحن العرب. طوال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثامنة حتى انهيار الاتحاد السوفياتي أول التسعينيات من القرن المنصرم، ثم منذئذ حتى الآن، كانت وظلت بلدان «العالم الثالث» ـ عالم القارات الثلاث لأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية هي «الملعب» الأثير للغرب وأميركا بوجه خاص.
ولنبدأ بأميركا اللاتينية الـــتي اعتبرت «الفناء الخلفي» للولايات المتحدة منذ إعلان ما يسمي «مبدأ مونرو» العام 1823ـ التصريح الصادر من الرئيس الاميركي جيمس مونرو بعدم السماح للقوى الأخرى خارج الأميركتين بالتدخل في شؤون القارة الأميركية الجنوبية.
ونثنّي بالقارة السمراء، التي قسمت بين الدول الأوروبية، لا سيما بريطانيا وفرنسا، وخاصة منذ «مؤتمر برلين» العام 1884. ولم تزل أفريقيا بعد استقلالات بلدانها جميعاً على دورات متتابعة حتى استقلال «المستعمرات البرتغالية» العام 1974، نهباً لأوروبا الغربية ولوريثة السيطرة الأوروبية: الولايات المتحدة في ظل ما أسماه القائد الغانيّ التاريخي الفذ كوامي نكروما الاستعمار الجديد في كتابه المعنون بالاسم ذاته: Colonialism ـ Neo.
أما عن آسيا ـ وبخاصة شرق آسيا ـ فحدّث ولا حرج. فقد تلاعبت بريطانيا وفرنسا بمصائرها تلاعباً، حتى الحرب العالمية الثانية، بل وحتى أواخر الخمسينيات، حين تصدرت الولايات المتحدة المسرح وحدها تقريباً من دون شريك، بعدما كانت «الأولى بين الأنداد» كما يقال باللاتينية Primus inter pares. بدأت الولايات المتحدة باحتلال اليابان في نهاية الحرب، ورعت فصل الصين إلى شطرين بعد انتصار الثورة الصينية بقيادة ماوتسي تونغ العام 1949، ثم رعت انقسام شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين في غمار الحرب الأهلية الكورية العام 1953. وتصدّت لثورة الشعب الفيتنامي التحررية شمال البلاد لتحل محل فرنسا في قيادة الحرب المضادة، انطلاقاً من فيتنام الجنوبية، وتشعل حرب فيتنام وخاصة منذ 1959 ولنحو خمسة عشر عاماً حتى عقد «اتفاق السلام» العام 1973.
طوال الستينيات، خاضـــت الولايات المتحدة حربها المقدسة المستمرة «ضد الشـــيوعية» ـ صينية كانت أو روسية، ولكن صــينية بالذات ـ وصاغت إستراتيجية جديدة قائمة على ســــاقين: أولاهما تغذية الانقسامات الآسيوية المتولدة من الـــتاريخ القريب والبعيد، وخاصة بين اليابان والصين، وبين كل منهما و«الإخوة الصغار» على الجانبين. ومع تغــــذية الانقسام، تعميــــق الاختراق، وشراء العملاء والوكلاء المباشرين، وخـــوض «حروب بالوكالة» خلال السبعينيات ومطلع الثمانينـــيات، في لاوس وكمبوديا، فضلاً عن تأكيد السيطرة على بلدان تابعة تاريخياً للولايات المتحدة مثل الفيلبين.
والساق الثانية، المساعدة على إقامة «منصات إنمائية» في عدد من البلدان الآسيوية، لمواجهة الشيوعية بتقديم مثال رأسمالي للنمو التابع، بدءاً من «الجيل الأول» لما يسمى إعلامياً بالنمور الآسيوية من كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وشبه جزيرة هونغ كونغ في السبعينيات والثمانينيات.
مع إطلالة عقد التسعينيات، وانفراط العقد السوفياتي، وترويض «العملاق الصيني»، شبت «النمور الآسيوية» عن الطوق، وانجذبت إلى الفلك الآسيوي النامي نموراً جديدة من الجيل الثاني مثل ماليزيا، واجتازت اختبار «الأزمة المالية الآسيوية» العام 1996 ـ 97 بخسائر محتملة بصفة إجمالية. وقد مضت الولايات المتحدة تمارس سياستها المجربة بوسائل جديدة كالسعي إلى بناء تجمعات وكتل اقتصادية جديدة، مثل «المنتدى الاقتصادي الآسيوي ـ الباسيفيكي» (آيبك) ومن بين أعضائه الصين واليابان وكوريا. أو تدجين بعض ما هو قائم، أو التعاون معه، مثل «رابطة بلدان جنوب شرق آسيا» ـ آسيان ASEAN.
ومع الجديد من الوسائل، ظل العمل بالآلية التقليدية عبر التاريخ الاستعماري الطويل، سياســة فرِّق تسدْ من خلال الاختراق، والتحكم من قرب: بالقواعــد العســكرية كما في اليابان وكــوريا الجنوبية. و«التحكــم عن بعد» عن طريق الحكومات «الطـــيّعة» في عديد الأقطار الآسيوية مثل تايلند والفيلبين. وتغذية الانقسامات كما هو الحال في نزاعات الدول الآسيوية حول السيادة في «بحر الصين الجنوبي» بين اليابان والصين، وبين الصـين وكل من كــوريا الجنوبية وفيتنام، والنزاع المزمن بين الكوريتين.
ولم يزل رفع راية «التهديد الصيني الوشيك» في شرق آسيا أسلوباً أميركياً مميّزاً، من أجل استدامة الاختراق والتغلغل على الطريق الطويل لممارسة «الهيمنة». فلسنا نحن العرب إذاً بدْعاً من اختراقات الهيمنة الأميركية المعاصرة.
بين شرق آسيا والوطن العربي
الفارق الرئيسي في مسيرة «الاختراق» المقارن بين شرق آسيا والمنطقة العربية، فارق في «الهياكل المحلية» بصفة أساسية أو «العوامل الداخلية» ممثلة بصفة خاصة في طبيعة تركيب النخب الثقافية ـ السياسية ونظم الحكم. في شرق آسيا، كانت النخب والحكومات من «الذكاء السياسي» بحيث استفادت من تناقضات النظام الدولي لتحقق من علاقة التبعية التقليدية مع الغرب وأميركا أكبر مكاسب اقتصادية ممكنة. أما النخب العربية والحكام ـ وأبرزهم في هذا الشأن الرئيس المصري السابق أنور السادات ـ فقد دلت على «غباء» منقطع النظير في الإدارة السياسية للموارد الوطنية بدون إرادة ذاتية حقيقية. لقد تخلى هذا الحاكم عن أوراق قوته المحتملة قبل وبعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 قبل أن يبدأ النزال الحقيقي مع الولايات المتحدة بمناسبة العلاقة مع إسرائيل، وأقام علاقة «تبعية إدماجية» كاملة في المعسكر الغربي ـ الأميركي من دون أن يجني منافع إستراتيجية أو اقتصادية مناظرة. وعلى الدرب سار الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك الذي اندمج نظامه اندماجاً تاماً في المنظومة الغربية ـ الأميركية ـ الإسرائيلية من دون أن يحقق نفعاً يذكر، ولو تحت سقف «الديكتاتور ـ الكومبرادور» أو «المستبدّ السمسار». وفي المقابل، أقام المستبدون السماسرة في شرق آسيا أنظمة اقتصادية وسياسية تابعة للغرب وأميركا، عبر ما يمكن تسميته التنمية التابعة وبالأحرى «النمو التابع».
أما الحكام العرب الآخرون الذين وقفوا في وجه الغرب في الثمانينيات والتسعينيات، (وخاصة في العراق) وبافتراض حسن النيات، فلم يستطيعوا إدارة المعركة بما ينبغي من حصافة وحكمة، وكانت النتيجة أن جنت الأمة العربية على أيديهم الحصاد المر الذي أسهم في تمهيد الطريق أمام القوى الأجنبية لتفعيل «العامل الخارجي» سلباً، إلى حد الغزو المباشر لبعض الأقطار العربية (2003) والاختراقات اللاحقة المتسلسلة حتى الآونة الحاضرة.
كيف يمكن أن نعيد العافية، والصحة الجسدية والنفسية، للمنطقة العربية المشرقية بالمعنى الواسع، شاملة وادي النيل وشبه الجزيرة العربية وكذا ليبيا كحلقة وصل عضوية مع سائر المغرب الكبير؟
هل يمكن أصلاً أن نعيد مثل هذه العافية وتلك الصحة إلى جسد عليل، انتابه مرض عضال على حين غرة، بتسلل جماعات العنف الدموي الإسلاموي، وتحولها إلى «شبه كيانات سياسية»؟
أباحتضان تيار «ليبرالوي جديد» يزعم السعي إلى إقامة دولة ديموقراطية حديثة، من دون توفير شروطها اللازمة اللازبة وأولها الاستقلال الوطني ـ القومي، وتقوية الاقتصاد، وحماية الكتلة الشعبية من الضعف وبله الانقراض المعنوي؟
أم بإيقاع «الطلاق» مع التراث العربي ـ الإسلامي العتيد، سعياً إلى خلق عصر الأنوار العربي المحاكي لعصر الأنوار الأوربي منذ أربعة قرون؟
وإلا ليس بهذا ولا ذاك نستطيع استعادة العافية المفقودة والصحة المضيّعة واللحمة الاجتماعية لأقطار ممزقة في منطقة مشرقية مفتتة، ووطن عربي مصاب في الصميم ومخترق من قوى الهيمنة الخارجية ومن دول الجوار الإقليمي الطامعة، لا سيما دولة عضو في حلف الأطلنطي وجار لسوريا. وإنما نستطيع المضي في العمل على المسار السليم لو عملنا على تصليب «التوجه الوطني ـ القومي التقدمي اجتماعياً» واتخاذه «بوصلة» لتحديد الاتجاهات الصحيحة وترتيب الأولويات.
ولنفـــعل ذلك انطلاقاً من مقولة «استئنــاف التطور الحضاري العربي» منعاً لاختطـــاف تراثنا الأصيل على يد مدَّعي مواجهة «التغريب» بزيف دعوى احتكـــار الانتـــماء الحضاري، على سبيل الانفراد أو التفرد المزعوم.
COMMENTS