خاص ـ الحقول / يمكن وضع دراسة عامر محسن («قناة» السويس الجديدة: من التدشين إلى التتويج، «الأخبار»، 6 آب 2015) تحت ثلاثة عناوين رئيسية: أولاً، اللاجدوى الاقتصادية لمشروع قناة السويس الجديدة. ثانياً، تطابق شخصية السيسي مع شخصيتَي الخديوي اسماعيل وأنور السادات. ثالثاً، تنصيب احتفالي للسيسي كخديوي جديد لمصر. وسنناقش بعض ما ورد في هذه الدراسة.
لقناة السويس، كممر مائي دولي للتجارة البعيدة المدى، أهمية اقتصادية وسياسية وعسكرية. ومنذ أن تم شق هذه القناة، قامت من حولها صراعات دولية للسيطرة عليها، وشُنت من حولها حروب عديدة. ولهذا التاريخ المديد من الصراعات ذكريات عديدة، يختلط مرها بحلوها، وانتصاراتها بهزائمها. ولأي مشروع يمسّ القناة وأحواضها رجع صدى يثير الكثير من الانفعالات، كما من الأحزان والآمال؛ ليس لدى جماهير مصر فقط، بل لدى الشعب العربي بشكل عام.
ونحن من جيل واكب ثورة الضباط الأحرار في مصر، وعاش نضال شعبها العربي لطرد المحتل البريطاني عن القناة، وعاش تأميم عبد الناصر للقناة بعد أن رفض البنك الدولي، بقيادته الأميركية، المشاركة بتمويل السد العالي، وواكب العدوان الثلاثي، كردٍ على تأميم القناة، كما واكب ردود الفعل العربية والإقليمية والدولية على هذا العدوان. نحن من جيل عاش أياماً سوداء في حزيران 1967، حين احتل الجيش الصهيوني، بقيادة خلفية أميركية، الضفة الشرقية لقناة السوس، وبنى عليها «خط بارليف»، الذي عُدّ من أهم وأمنع خطوط الدفاع العسكري، وما نتج من هذا العدوان من احتلال كل الأرض الفلسطينية، ومحافظة القنيطرة، وشبه جزيرة سيناء، وإغلاق قناة السويس، وتهجير أكثر من مليون مواطن من مدن القناة، قبل بدء حرب الاستنزاف التي شنها الجيش المصري، والذي أعاد عبد الناصر بناءه، بدعم كامل من الاتحاد السوفياتي. فقد اندفع أكثر من 200 ألف شاب جامعي للتطوع في الجيش ـ ومن دون رواتب ـ لمدة سنتين، لتحرير أرض مصر. واستطاع هؤلاء الجامعيون إدخال وعي جديد إلى صفوف الضباط والجنود، وردم الهوة التي بناها الاستعمار في دول العالم الثالث بين صفوف الضباط وصفوف الجنود. واستطاع هذا الجيش إسقاط خط بارليف خلال ساعات، لكن قيادة السادات وضعت حدوداً لهذا النصر، ميدانياً وسياسياً، وحولته إلى أداة لـ«تحريك» عملية المساومة، ما أدى إلى فتح قناة السويس، ووضع سيناء تحت «الاحتلال» الأميركي، وبشروط «إسرائيلية»، وأوصل إلى كامب ديفيد وتفكيك النظام العربي.
إن احتفالية تدشين قناة السويس الجديدة، أو مهما كانت تسميتها، لا تذكرنا بالخديوي إسماعيل ونابليون الثالث ودي ليسيبس، الذي حفر القناة بسواعد ملايين المصريين، بل تذكرنا بنضالات شعب مصر، الذي حفر القناة وقاتل لتحريرها والدفاع عنها؛ تذكرنا بدماء الشهداء من مصريين وعرب الذين هبوا للدفاع عنها ضد الغزاة، وتذكرنا بأيام الكبرياء والرؤوس المرفوعة، والسواعد التي امتشقت السلاح في وجه الأعداء، بالأناشيد المستنهضة للهمم والداعية للنضال، أناشيد «الله أكبر» و«دع سمائي» و«بهية»، ولا تذكرنا بـ«أوبرا عايدة» ويخت الخديوي إسماعيل. إن هذه الذكريات، ورجع صدى أيام النضال، هي التي دفعت جماهير مصر الضعيفة مادياً إلى أن تسارع لتمويل مشروع قناة السويس الجديدة، بدل اللجوء إلى القروض الخارجية، أو الاستدانة من المصارف، وهي التي دفعت ملايين المصريين للاحتفال بإنجاز هذا المشروع خلال سنة واحدة، بدلاً من ثلاث سنوات، واحتلال الساحات في كل المدن المصرية، خصوصاً في مدن القناة، وليس «البروباغاندا» التي أطلقها النظام.
وتذكرنا قناة السويس بازدهار العديد من المدن والحواضر العربية التي نشأت على «طريق الحرير»، أي طرق التجارة البعيدة المدى بين شرق آسيا وجنوبها من ناحية، وأوروبا من ناحية ثانية. تذكرنا بازدهار بعض المدن في أوساط الصحاري، مثل تدمر ومكة والبتراء، كما في دمشق والاسكندرية، وغيرها العديد من المدن، وتذكرنا اليوم بازدهار سنغافورة ودبي، وبأهمية قناة السويس على هذه الطريق، وإمكانية الاستفادة منها عبر المحاور الثلاث لمشروع تطوير القناة، والتي يمثل ما أُنجز منه المحور الأول.
الجدوى الاقتصادية للمشروع
يقول السيد محسن إن القناة الجديدة ستخفض وقت انتظار السفن من 18 ساعة إلى 11 ساعة، وهذه الساعات السبع التي يتم توفيرها هي، باختصار، مجمل الفائدة العملية من مشروع القناة؛ وهو بذلك يُسقط المحورين التاليين في إطار تقييم أهمية المشروع ككل. والمحاور الثلاثة متكاملة ومتساندة على الصعيد الاقتصادي.
فالمحور الثاني يهتم «بتوفير الخدمات البحرية وتطوير المنطقة المحيطة بالقناة»؛ أما المحور الثالث، فيتضمن «توفير الخدمات اللوجستية على جانبي المجرى الملاحي (بحيث) تتحول القناة من مجرد مجرى مائي إلى مركز تجاري وصناعي تتوافر فيه خطوط التجميع والتعبئة والتغليف، كما يتضمن الصناعات التصديرية».
ويقلل السيد محسن من أهمية الساعات السبع التي يختصرها المشروع من وقت مرور السفن. قديماً قيل إن الوقت من ذهب؛ وتزداد أهمية الوقت مع تقدم العلوم والاتصالات والمواصلات. وتتجه الصناعات في البلدان المتقدمة إلى اختصار المخزون stock من مدخلات الإنتاج، أو حتى إلغائه، توفيراً لرؤوس الأموال المجمدة في عملية التخزين، وذلك في إطار السعي لتنمية القدرات التنافسية.
وللدلالة على أهمية الوقت وإمكانية اختصاره عند عبور القناة، نذكّر بالمشروع «الإسرائيلي» البديل من القناة. في 28 شباط 2012، أعلن وزير المواصلات الصهيوني، كاتس، عن «عطاء» لنقل ميناء إيلات «الإسرائيلي» في خليج العقبة إلى عمق 4 كيلومترات داخل الصحراء، وربطه بخليج العقبة بقناة عريضة، بطول 4 كيلومترات أيضاً. وسيتم ربط هذا الميناء الجديد بمرفأ «تل أبيب» بخطوط حديدية. وتمت تسمية المشروع بـ«البوابة الجنوبية». وسيكون هذا المشروع بديلاً من قناة السويس، ومنافساً لها، لنقل البضائع من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، وبتوفير ساعتين من الوقت، مقارنة بالنقل عبر قناة السويس. وسيكلف حفر هذه القناة، وإنشاء المرفأ الجديد، 13 مليار شيكل (3.5 مليار دولار). وقال كاتس إن «دولاً عديدة أبدت اهتماماً بهذا المشروع الكبير، من بينها الصين والهند والولايات المتحدة، فضلاً عن شركات أخرى من كل أرجاء العالم». وأجهضت قناة السويس الجديدة، باختصارها مدة عبور السفن بسبع ساعات، المشروع «الإسرائيلي» الطامح لاختصار مدة العبور بساعتين. وبالقياس، وللدلالة على أهمية اختصار الوقت والكلفة في التجارة الدولية، تعمل حكومة بنما، وبعد استعادتها القناة من أميركا عام 1999، وبناءً على دراسات الجدوى، على تعميق القناة وتوسيعها، بكلفة مرتفعة جداً، لاستعياب السفن الكبرى، القادرة على حمل 12 ألف حاوية (بدلاً من 5 آلاف حاوية حالياً)، ليصبح نقل الحاويات من مدينة «غوانغ دونغ» الصينية، بحراً إلى لوس أنجليس، ثم بالقطار إلى نيويورك، أكثر كلفة من نقلها عبر قناة بنما، بحسب مجلة «ذي إيكونوميست»، بتاريخ 28/1/2012.
وتتعدد مشاريع تسريع نقل البضائع من الصين والهند، وإليهما، عبر خليج البنغال. فالصين تبحث عن الطرق التي تتخطى فيها مضيق ملقة المزدحم جداً، بمد أنابيب غاز ونفط عبر ميانمار، من مرفأ Sittwe إلى الحدود الصينية، ثم إلى عاصمة مقاطعة «أونان» الصينية، وذلك توفيراً للوقت والمال. وتعمل الصين، كأكبر منتج ومصدر للسلع في العالم (منذ عام 2010) على تنفيذ مشاريع نقل عملاقة، عبر إحياء «طريق الحرير» وتفرعاته، من وسط آسيا إلى بحر العرب، وما بينهما. وتمثل قناة السويس إحدى الممرات الأساسية لطريق الحرير. وتبدي الصين حماسة كبيرة للمشاركة في المرحلتين الثانية والثالثة في مشروع قناة السويس الجديدة؛ وتتقدم الهند على الطريق ذاتها.
ومع انزياح الثقل الاقتصادي العالمي من الغرب الأوروبي الأميركي إلى شرق آسيا وجنوبها (الصين واليابان وكورية الجنوبية واندونيسيا والهند)، حيث من المتوقع أن يكون معدل النمو الاقتصادي لهذه الدول حوالى 4% سنوياً، على الأقل، رغم الركود الاقتصادي العالمي، وحيث تشكل السوق الأوروبية أكبر سوق لصادرات تلك الدول مجتمعة، فإن طرق التجارة بين شرق آسيا وجنوبها من ناحية، وأسواق أوروبا وبعض أفريقيا من ناحية أخرى، ستشهد نمواً أسرع من معدل نمو التجارة الدولية. وسجّل نمو التجارة الخارجية في عهد الليبرالية الجديدة وفتح الأسواق، وفي ظل التطورات التقنية والعلمية، وتصدير العديد من الصناعات إلى خارج البلدان الرأسمالية الكبرى، سعياً وراء الأجور المتدنية والضرائب المنخفضة، نمواً بمعدل ضعف نمو الناتج الاقتصادي. وإذا كانت أزمة النظام الرأسمالي الدورية البنيوية قد قلصت معدلات نمو التجارة الدولية، فمن المنتظر أن يتضاعف معدل نمو هذه التجارة بعد خروج النظام من أزمته، أو بعد تجاوز النظام السائد، والذي تقوده وتهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية.
ويتم بناء المشاريع التحتية الكبرى لمدى طويل من السنين، وليس لسنوات معدودات. فالقدرة الاستيعابية القصوى للقناة يجب أن تلبي طلب العبور فيها بعد عقود. هكذا يتم التخطيط لبناء القدرات الاستيعابية للمطارات والموانئ والسكك الحديدية، كما للجسور والطرق الكبرى بين المدن وفيها. وبالتالي، فإن العمل على مضاعفة القدرة الاستيعابية لقناة السويس، والفائضة عن الطلب الحالي، أمر طبيعي وضروري.
أما الجدوى الاقتصادية للمرحلة الأولى من مشروع القناة، ولو لم نقم أي حساب للمراحل التالية، فهي مربحة جداً على الصعيد المادي. وحتى لو افترضنا أن التقديرات المستقبلية لإيرادات القناة مبالغ فيها، وأن الركود الاقتصادي العالمي هو أعمق وأطول مما تقدره مراكز الدراسات والمنظمات الدولية، وأن هامش الخطأ في هذه التقديرات يقارب الـ50%، فإن المشروع سيكون مربحاً جداً.
إن معدل المردود للتوظيفات في قطاعات الإنتاج في العالم، وطيلة عقود سابقة، هي في حدود 6%. وإذا افترضنا أن الدخل من القناة سيرتفع، ليس بـ8 مليارات دولار عما كان عليه، بل إلى نصف هذا المبلغ، فإن مردود التوظيف الجديد سيعطي، عام 2023، ما يقارب 9 أضعاف معدل المردود العالمي للتوظيفات، أي 50%.
أما الفائدة المرتفعة على سندات الدين لتمويل حفر وتوسيع القناة، وقدرها 12%، فهي فائدة منخفضة في حقيقتها. فكلفة الأموال تقاس بالفائدة الحقيقية، وليس بالفائدة الجارية، أي بمعدل الفائدة الجارية ناقص معدل التضخم الذي يحوم حول 12% في مصر، أي أن الكلفة الحقيقية للتمويل يحوم حول الصفر. ثم، ولو افترضنا أن معدل التضخم في مصر سينخفض إلى حدود الصفر، وترتفع الفائدة الحقيقية إلى 12%، فإن مردود التوظيف سينخفض إلى حوالى 7 أضعاف المعدل العالمي لعائد التوظيف، وهي نسب يسيل لها لعاب أكبر الشركات والبنوك والمؤسسات في العالم، ومهما ارتفعت المخاطر على هذه التوظيفات. فالتوظيفات العالمية اليوم في أسهم «الخردة» كانت حوالي 12%، وانخفضت كثيراً، إلى حدود 6%، مع تراكم فائض السيولة، نتيجة سياسات التيسير المالي quantitative easing للدول الرأسمالية الكبرى، وعلى رأسها أميركا.
ثم إن المردود المرتفع لسندات الدين هذه سيذهب معظمه إلى جيوب الطبقات الوسطى من المصريين، ويرفع من قدراتهم الشرائية، أي سيعيد توزيع الناتج عبر السياسة المالية، لمصلحة هذه الفئات، ويضيق الفروقات الطبقية في مصر، ولو بمعدلات بسيطة، ولن يذهب إلى الخارج ليصبح عبئاً على الاقتصاد الوطني.
في مصر «دولة عميقة»، ولا يقرر المشاريع فيها شيخ أو أمير نُصب على عرش بئر نفط. وفي مصر أبرز الخبراء والاقتصاديين العرب، وقد توزع بعضهم كأساتذة على أهم جامعات العالم ومؤسساته الاقتصادية الدولية. ولخبراء مصر تراث في التخطيط الاقتصادي، وأحد أبرز هؤلاء سمير أمين، الذي لا يحتاج لشهادة من أحد في قدراته وأخلاقياته والتزامه الفكري، ودفاعه عن مصالح الشعوب المستضعفة في العالم. ولكن السيد محسن يسارع إلى التهجم على سمير أمين لأنه أثنى على مشروع قناة السويس الجديدة، وقال إن المشروع قد بُني بتمويل مصري وطني، وأن جيش البلاد «أنجز المشروع بالكامل، تصميماً وإدارةً وتنفيذاً». ويعلق السيد محسن على أقوال سمير أمين، فيقول: «الموضوع لا يقتصر على البروباغاندا التلفزيونية، فقد أُثيرت لمديح القناة شخصيات مهمة، كالمفكر سمير أمين الذي أثنى على المشروع». لم يشارك سمير أمين في السابق في أي «بروباغاندا»، أي في كلام مضلل للناس وغير صحيح. وهذا اتهام لا يضير سمير أمين، ولكنه غير لائق، وغير صحيح، ولا يضير إلا قائله.
مصر تتجه شرقاً
كان النيْل من مشروع قناة السويس الجديدة مقدمة للنيل من سياسات مصر في عهد السيسي، ودور مصر الصاعد، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، من ركام عهدَي السادات ومبارك، وسنة من حكم الإخوان المسلمين. وفي وقت يُخرج عامر محسن الإخوان المسلمين من أحداث الماضي القريب والبعيد، يعمل على رسم خلفية «بانورامية» تاريخية وسياسية لحكم مصر ولنظامها القائم، مستعيناً بعهدَي الخديوي إسماعيل وأنور السادات.
وبحبكة دراماتيكية، يأرجح محسن القراء بين أحداث الحاضر الاحتفالية واحتفال افتتاح قناة السويس في عهد الخديوي، موحياً بالتطابق بين الحدثين وخلفيتهما السياسية والاقتصادية: حضور الرئيس الفرنسي الحالي، كما زوجة نابليون الثالث في الماضي؛ يخت الخديوي الذي أعيد طلاؤه وتغيّر اسمه، و«أوبرا عايدة» لـ«فردي»، والتي أُلّفت لافتتاح قناة السويس؛ وملكية القناة جزئياً لفرنسا، ثم لبريطانيا، نتيجة شراء ما تبقى من أسهمها سداداً للديون، ما أوصل بعد ذلك إلى احتلال مصر. كما ربط بين حليق طائرات «إف 16» الأميركية و«رافال» الفرنسية فوق القناة، وحضور محمود عباس، رمز الاستسلام الفلسطيني للاحتلال الصهيوني المدعوم أميركياً، والشاشات الإلكترونية في ساحة «تايمز سكوير» في نيويورك التي تزف «إلى الجمهور الأميركي خبر اكتمال قناة السويس». ثم يقول: «في حال السادات والسيسي، هناك رمزية ما، واعية أو غير واعية، في اللجوء إلى شخصية الخديوي اسماعيل بالذات، وتقمص دوره… إسماعيل، وفق الصورة النمطية التي ترسخت عنه في الوعي الشعبي، كان أكثر حكام مصر استلاباً بفكرة «الغرب»، وحلمه في أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، وجهد لفتحها أمام الرأسمال الغربي، ودمجها في الاقتصاد العالمي من دون شروط… وجل ما تمناه كان أن يُنظر إلى مصر «كقوة أوروبية أخرى»، وليس كمقاطعة أفريقية… وأن يكون عرشها عضواً شرعياً معترفاً به في عائلة الملكيات الأوروبية. لهذا السبب، ربما، كلما أراد حكام مصر استحصال شرعية «دولية»، أو تأكيد رضى الغرب وصداقة حكامه، يستذكرون الخديوي».
بالغمز واللمز، وعبر الاستخفاف بذاكرة القراء وذكائهم، قفز السيد محسن فوق وقائع التحولات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي أحدثها حكام مصر الجدد، ليزج السيسي في إطار الصورة البانورامية التي رسمها لعهدي الخديوي والسادات، زاعماً التطابق بين شخصية الخديوي وتوجهاته وأحلامه، وشخصية السيسي وتوجهاته وأحلامه. فأين هي الحقيقة من هذه المزاعم؟
في 6/8/2014، صارح السيسي الشعب بحقيقة تداعي مقومات الاقتصاد المصري، وضرورة اتباع سياسة تقشفية، تمس خصوصاً الشرائح العليا والمتوسطة من الشعب، وتصحيح سياسات «الدعم» لتقتصر على الطبقات الشعبية، دون الأثرياء، مع متغيرات ضريبية، ومضاعفة عدد المستفيدين من المخصصات الاجتماعية، من الفئات الشعبية، ورفع عطاءات الضمان الاجتماعي، مؤكداً ضرورة اعتماد المصريين على أنفسهم، واستخدام كل طاقاتهم، ليقف الاقتصاد المصري على قدميه، ولرفع مستوى المعيشة وخفض معدلات البطالة. وتشهد المؤسسات الاقتصادية الدولية على تحسن أداء الاقتصاد المصري على كل الصعد. وهذه السياسات، بالإضافة إلى رفض «مشروطية» قروض صندوق النقد الدولي، لا تمثل خيارات الخديوي اسماعيل، مثلاً، أو أنور السادات، بل خيارات عبد الناصر.
ويعرف الجميع أن محمد حسنين هيكل، الناصري حتى العظم، هو المستشار الأول للرئيس السيسي، والمؤثر إلى حد بعيد على توجيه سياسات مصر العربية والدولية. قال هيكل، في مقابلة مع قناة «سي بي سي» المصرية، إن السيسي «وبعد 6 أشهر من توليه الحكم… ما زال يعمل بالنظام القديم، إذ أن جهاز الدولة هو ذاته الموجود من عهد مبارك والإخوان المسلمين. لكن التوجه السياسي اختلف، حيث أنه أصبح يتم برؤى وبرامج اجتماعية مختلفة، ورؤى سياسية خارجية مختلفة». وشدد هيكل على أن يقوم النظام المصري بما يستطيع تقديمه إلى ليبيا، لحماية الأمن القومي المصري، والمحافظة على وحدة الأراضي الليبية، وكذلك الأمر بالنسبة لسورية.
فقد أعاد عبد الفتاح السيسي مصر إلى سياساتها الناصرية، على صعيدَي المحيط والعالم، وكنقيض لسياسات أنور السادات ومبارك. في أوائل أيلول 2014، زار رئيس الأركان الليبي القاهرة، حيث بحث مستقبل ليبيا وإعادة تأهيل وبناء الشرطة والجيش الليبييَن، وتأمين «الحدود» (جريدة «الأخبار»، 8/9/2014). وتقول الجريدة، نقلاً عن مصارد مصرية: «إن مكانة مصر، كدولة قوية ذات قيادة متميزة وإمكانات استراتيجية، تسمح لها بإعادة تصحيح الأوضاع في المنطقة بكاملها، وليس ليبيا فقط». كما حذّر الرئيس المصري من مغبة التدخل الخارجي في ليبيا، وأكد أن مصر لن تتهاون في الحفاظ على أمنها. واصطدمت سياسات مصر هذه بالسياسات الأميركية – الأوروبية في ليبيا، وكانت نقيضة لسياسات السادات تجاه ليبيا بعد معاهدة كامب ديفيد، حيث حشد جيشه لإسقاط النظام الليبي المعادي للإمبريالية.
وبحسب الجريدة نفسها أيضاً، بتاريخ 12/9/2014، أكدت مصادر مصرية، بعد توقيع مصر بيان التحالف الدولي المشترك لمواجهة داعش، رفضها الانضمام إلى الحملة التي تشنها الولايات المتحدة لمحاربة داعش. ونبه وزير الخارجية المصري «إلى أهمية مواجهة كل التنظيمات المسلحة التي تهدد المنطقة، وألا يكون الأمر محصوراً عند داعش، كما لمّح الوزير إلى ضرورة تجفيف منابع تمويل هذه الجماعات، قبل التحدث عن التصدي». وكان رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي، السيناتور هوارد ماكيون، قد نقل إلى القاهرة مطلباً بالتنسيق مع «إسرائيل» لمحاربة داعش، على ضوء مزاعم صهيونية بوجود أعضاء من التنظيم في سيناء والأردن. «لكن مصر رفضت أي تعاون، أمني أو استخباري، مع الجانب الإسرائيلي».
وعادت مصر في عهد السيسي إلى السياسات الخارجية الناصرية، التي قوضتها أميركا في عهد أنور السادات ومبارك والإخوان المسلمين، على الصعد العربية والأفريقية والدولية. تسعى مصر، على الصعيد العربي، إلى إعادة بناء «النظام العربي» الذي قوضته مصر الساداتية، عبر الانسحاب منه والصلح مع «إسرائيل»، مما كشف الوطن العربي، بمشرقه ومغربه، على سلسلة من الاعتداءات الغربية، بقيادة أميركية، ولو من الخلف: على العراق ولبنان وسورية والسودان وليبيا، وأخيراً على اليمن. وتدرك القيادة المصرية صعوبة إعادة بناء هذا النظام الذي لم يكن يوماً متماسكاً، ولكنه، وبقيادة مصر الناصرية، وضمن تحالفات دولية، كان مؤثراً وعامل استقرار على الصعيد العربي.
وتعليقاً على القمة العربية في شرم الشيخ، بتاريخ 30/3/2015، قال السيسي إن «بعض الأطراف الخارجية تستغل الظروف التي تمر بها دولٌ عربية، للتدخل في شؤونها، أو لاستقطاب قسم من مواطنيها، بما يهدد أمنها القومي بشكل لا يمكننا إغفال تبعاته على الهوية العربية وكيان الأمة». وأعرب السيسي عن ترحيب مصر بقرار تشكيل قوة عربية مشتركة، «لتكون أداة لمواجهة التحديات التي تهدد الأمن القومي العربي».
وعمل نظام السيسي على عودة الاهتمام «بالدائرة الأفريقية» التي عملت مصر الناصرية لها، بنجاح، بالمساعدة على تحريرها من الاستعمار الأوروبي، وإقامة أوثق العلاقات السياسية والثقافية والاقتصادية معها. وتم التخلي عن هذه السياسة مع سقوط مصر في براثن أميركا، في عهد السادات، واقتحام «إسرائيل»، بمساعدة أميركية، لمعظم دول القارة، والعمل على تقسيم السودان، والتحريض على سلب مصر والسودان الكثير من حقوقهما في مياه النيل. وتم افتتاح الطريق البرية بين مصر والسودان، ومن ثم إلى أفريقيا، بتاريخ 23/8/2014، والتي تختصر وقت نقل البضائع من 48 ساعة (عبر رحلة طويلة في بحيرة ناصر) إلى 4 ساعات، عبر الطريق البرية، قسطل – وادي حلفة، مما يرفع حركة التبادل التجاري بين البلدين. وفي 10/6/2015، وقّعت 26 دولة أفريقية، في شرم الشيخ، اتفاقاً للتجارة الحرة. وتمثل هذه الدول النصف الشرقي للقارة، ويبلغ عدد سكانها 625 مليون شخص، ويتجاوز ناتجها الإجمالي تريليون دولار. ويُتوقع أن يرفع هذا الاتفاق حجم التبادل التجاري بين مصر وهذه الدول إلى ضعفي ما هو عليه حالياً.
كما يتوجه النظام الجديد في مصر إلى تمتين علاقاته مع دول أميركا اللاتينية المتحررة من الهيمنة الأميركية. ولمناسبة زيارة وفد اقتصادي برازيلي إلى مصر، شدد الوزير المصري، منير فخري عبد النور، على أهمية الانفتاح الاقتصادي والتجاري مع البرازيل، موضحاً أن مصر «أنجزت إجراءات اعتماد اتفاق «ميركوسور» وتنفيذه، وننتظر مصادقة برلمانات الدول الأخرى الأعضاء في الاتفاق لإقراره ودخوله رسمياً حيز التنفيذ، ما يخدم اقتصاد مصر والبرازيل» (جريدة «الحياة»، 30/8/2014).
فقد وضع السادات مصر في أحضان أميركا، منذ وصوله إلى السلطة، لاجتثاث الناصرية وإيديولوجيتها القومية اليسارية، وسياسات التنمية المستدامة والتصنيع، وذلك بالتعاون مع الولايات المتحدة والإخوان المسلمين في الداخل. وتم إعطاء قواعد عسكرية لأميركا، للمراقبة في سيناء، بموجب معاهدة كامب ديفيد. وسرعان ما دفعت أميركا مصر إلى فخ المديونية، عبر سياسات الإفساد والتبذير وتعظيم الإنفاق غير المجدي، وشراء أسلحة لا حاجة لها بها، بعد صلحها مع «إسرائيل». واستعملت أميركا التزامها تقديم مساعدة عسكرية سنوية إلى مصر، بموجب اتفاقات كامب ديفيد، وقدرها 1.3 مليار دولار، لممارسة الضغوط على جيش مصر، والذي استطاع الحفاظ على جزء كبير من استقلاليته وتماسكه، منذ وفاة عبد الناصر. وفي مرحلة التحولات الكبرى في مصر، كتب سليم نصار مقالاً في جريدة «الحياة»، بتاريخ 9/11/2013، جاء فيه: «السؤال الذي يطرحه المراقبون خلال هذه المرحلة يتعلق بالدور الأميركي المريب الذي ساند محمد مرسي، ظناً بأن الجيش المصري سيخضع في النهاية إلى الأمر الواقع، ويعترف بشرعية رئيس إخواني. والمؤكد أن الجيش لم يأخذ في الاعتبار وجهة نظر واشنطن، وسارع إلى تنفيذ انقلابه، بعدما ثبت له أن مرسي يحاول نقل النموذج الإيراني إلى مصر، أي إقامة نظام ديني يعتمد في حكمه وأحكامه على تطبيق الشريعة، ورفض كل الدساتير المدنية. كما ثبت له أن مرسي قد كلف عصام العريان بإعادة تنظيم كوادر الحزب، بحيث يتحول تدريجياً إلى «حرس جمهوري يحل مستقبلاً محل الجيش النظامي»… وتجمع الصحف على القول إن الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير خارجية أميركا، جون كيري، إلى القاهرة كانت بمثابة المؤشر على تراجع واشنطن (عن) تأييدها للإخوان. وفي هذا السياق، يرى بعض الإعلاميين أن انفتاح قيادة الجيش المصري على موسكو كان سبباً إضافياً لتشجيع واشنطن على فك عزلها عن مصر».
ولكن العلاقات المصرية الأميركية أخذت بالتدهور على الصعد كافة منذ وصول السيسي إلى السلطة، فقد تراجعت صادرات مصر إلى الولايات المتحدة في عام 2013 بنسبة 37.6% عما كانت عليه في السنة السابقة، في اوقت ارتفعت صادرات مصر إلى دول العالم بنسبة 5.9%. وفي الوقت ذاته، تراجع عدد السياح الأميركيين إلى مصر بنسبة 17.6%، وتراجع عدد لياليهم السياحية بنسبة 37.2%.
مقابل التوترات في العلاقات المصرية ـ الأميركية، هناك نمو متصاعد لعلاقات مصر مع روسيا الاتحادية والصين والعديد من الدول الناشئة. فقد زار السيسي موسكو مرتين، ويُنتظر أن يزورها مرة ثالثة هذه السنة؛ كما زار بوتين القاهرة. وفي زيارة السيسي الثانية إلى موسكو، في 11/8/2014، والأولى له كرئيس للجمهورية، إلى خارج العالم العربي، تم الاتفاق على زيادة نسبة الصادرات والواردات مع روسيا، وتم البحث في إنشاء منطقة للتجارة الحرة مع الاتحاد الجمركي الذي تقوده موسكو مع روسيا البيضاء وكازاخسان، فضلاً عن زيادة المشروعات الروسية الصناعية في مصر، والتي قد تصبح أحد مكونات مشروع قناة السويس الجديدة، مع الوصول وشيكاً إلى تعاقد على صفقة شراء المقاتلة الروسية، ميغ 29- م2، ومنظومات الصواريخ س-300. «وأكد السيسي تطابق وجهات نظر الطرفين، الروسي والمصري، حيال الملفات الإقليمية، وخصوصاً الوضع في غزة وسورية وليبيا والعراق» («السفير» و«الحياة»، 13/8/2014).
وفي 18/9/2014، أصدر رئيس الحكومة المصرية، إبراهيم محلب، قراراً بتشكيل لجنة وزارية باسم «وحدة روسيا»، برئاسته، وبعضوية وزارات الصناعة والتجارة، وكان قد أصدر قبل أيام قراراً بتشكيل لجنة وزارية باسم «وحدة الصين»، للعمل على تطوير العلاقات مع الأخيرة، في المجالات كافة. وخلال زيارة بوتين للقاهرة، تم الاتفاق على تعزيز التعاون العسكري والاقتصادي بين البلدين، وإقامة منطقة صناعية روسية في شمال جبل عناقة في السويس. وأشار بوتين إلى ارتفاع التبادل التجاري مع مصر بنسبة 80%، وزيادة واردات روسيا من مصر بمقدار الضعف، وتعزيز علاقات التعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة الذرية. وفي 14/6/2015، وعلى أثر اختتام المناورة البحرية المشتركة بين مصر وروسيا، «جسر الصداقة 2015»، والتي جرت في المياه الإقليمية المصرية، تعهد الجانبان «دفع علاقات التعاون العسكري المشترك قدماً في المجالات كافة».
وكانت علاقات مصر بالصين تتقدم بموازاة علاقاتها مع الاتحاد الروسي. فقد زار وفد عسكري مصري الصين، برئاسة مساعد وزير الدفاع لشؤون التسليح، بتاريخ 19/8/2014، بهدف تطوير علاقات التعاون العسكري بين البلدين، وللاطلاع على أحدث الأسلحة الصينية، خصوصاً في أنظمة الدفاع الجوي والأنظمة الصاروخية، بهدف الحصول على بعضها، بالإضافة إلى «دفع التعاون في مجالَي التصنيع المشترك والتدريب»، بحسب تصريح مسؤول عسكري مصري. وكان رئيس هيئة الأركان الصيني قد زار القاهرة في أوائل شهر أيار 2014، بغية دفع التعاون العسكري المشترك. وصرّح المسؤول الصيني أن بلاده تسعى لإمداد مصر بنسخ مطورة من الصواريخ المضادة، وأسلحة أخرى يتم وضعها على المروحيات. كما زار وفد مصري الصين قبل أسابيع، واطلع على المقاتلة «جيان إف 10 إي»، التي تسعى مصر للحصول عليها. وتقول جريدة «الحياة» في 20/8/2014: «تُعتبر المقاتلة كي 8 – إي أكبر المشاريع العسكرية بين مصر والصين في الوقت الحالي، إذ تقوم مصر بتجميعها وتصنيعها في مصنع طائرات «الهيئة العربية للتصنيع» التابع للجيش، بالتعاون مع الجانب الصيني».
وقام السيسي بزيارة إلى الصين، بتاريخ 21/12/2014، للتوقيع، مع الرئيس الصيني، على وثيقة الشراكة الاستراتيجية الشاملة، والعديد من الاتفاقات؛ وفي مؤتمر شرم الشيخ، أبرم وزير النقل المصري، هاني ضاحي، مع شركة «افيك انترناشونال» الصينية القابضة اتفاقاً لإنشاء أول مصنع للعربات والجرارات الخاصة بسكك الحديد والمترو («الحياة»، 16/3/2015).
وفي مؤتمر منظمة شانغهاي الأخير في مدينة أوفا الروسية، قدمت مصر طلب انضمامها إلى هذا الحلف الدفاعي، والذي انضمت إليه الهند وباكستان، وتقدمت إيران أيضاً بطلب الانضمام إليه.
هذه بعض الأمثلة على توجهات مصر في عهد عبد الفتاح السيسي، والتي تظهر بوضوح خيارات مصر الجديدة، على الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية، المتطابقة مع توجهات مصر الناصرية، والمناهضة لتوجهات السادات وانجذابه نحو الغرب الاستعماري الامبريالي. ولا شك أن السيد محسن قد اطلع على كل هذه المتغيرات في السياسة المصرية، فكيف يرى التطابق بين السيسي والخديوي اسماعيل وأنور السادات؟ ربما إنه يرى ما يريد، أو ما يُراد.
COMMENTS