خاص ـ الحقول / فاجأت واشنطن كل العالم باعترافها بما ورد في تحقيق صحيفة “نيويورك تايمز” يوم 14 تشرين الأول/أوكتوبر الماضي[1]، عن إصابة جنود أميركيين وعراقيين بأسلحة كيميائية في العراق بين عامي 2004 ـ 2011. على الأرجح أنها اضطرت. لأن الشهادات التي وردت على لسان الجنود ـ الضحايا، مزقت ستر الكتمان التي ألقتها وزارة الحرب الأميركية / “البنتاغون” على تلك الحوادث العسكرية الخطيرة.
جاء تحقيق الصحيفة الأميركية موثقاً. لكنه حمل عنواناً ملتبساً : “الضحايا السريون للأسلحة الكيميائية العراقية المهملة”. وقد رد المتحدث باسم الوزارة الكولونيل البحري جون كيربي على التقرير، باقتضاب، قائلاً: “إن عدد الجنود الأميركيين الذين تعرضوا لهذه العناصر الكيميائية هو حوالي 20 جندياً”. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أميركيين، أن العدد الحقيقي هو “أكثر بقليل ولكن الحكومة أبقته سرياً”.
تحرَّت “نيويورك تايمز” عن أوضاع 17 عسكرياً أميركياً، وسبعة عسكريين عراقيين ممن تعرضوا لمواد سامة وغاز الخردل، مصدرها “نحو خمسة آلاف رأس حربي وقذيفة وقنبلة جوية تحتوي على أسلحة كيميائية عثرت عليها القوات الأميركية” المحتلة. لكن الصحيفة زادت التحقيق غموضاً، والقارئ ارتباكاً، حيث كشفت عن أن “البنتاغون” قد أمر “بالكتمان” على حوادث تعرض جنود أميركيين وعراقيين لإصابات كيميائية.
بعد هذه المعلومات المفاجئة اندلع السجال مجدداً حول الإرهاب الكيميائي. أجرى وزير الخارجية الألماني فرانك ـ فالتر شتاينماير اتصالا هاتفيا بالأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، حثه فيه على طرح هذا الموضوع في مجلس الأمن. وتعهد بان كي مون بالتطرق لهذا الموضوع[2]، من دون أن يفعل حتى الآن. وموقف شتاينماير أقل تسييساً وأقل استهتاراً، من إعلان ألمانيا وفرنسا وبريطانيا في شهر أيلول الماضي عن “تشككها” في حيازة إرهابيي “داعش” أسلحة كيميائية، وتحديداً غاز الكلور السام[3]. ويشكل مصداقاً للتقارير العراقية عن استخدام تنظيم “داعش” أسلحة كيميائية ضد أفراد القوات العراقية وإصابتهم، خلال هجوم التنظيم على بلدة الضلوعية الواقعة شمالي بغداد[4].
عند مطلع شهر تموز الماضي، أي قبل أربعة أشهر من نشر تحقيق “نيويورك تايمز” المثير، أخطر العراق الأمم المتحدة، بأن عناصر “داعش” قد سيطروا على منشأة “المثنى” للأسلحة الكيميائية في شمالي بغداد. واستولوا على “بعض التجهيزات”. وهذا الإخطار ورد في رسالة محمد علي الحكيم سفير العراق الدائم لدى المنظمة الدولية إلى الأمين العام بان كي مون. وقد كشف الحكيم أن استيلاء “داعش” على هذه المواد جرى في 11 حزيران/ يونيو الماضي[5].
وأشار الحكيم في رسالته إلى أن مستودعات “المثنى” كانت تحوي سابقاً سيانيد الصوديوم المستخدم لإنتاج المادة الكيميائية “تابون”. وقللت وسائل إعلام من أهمية المواد الموجودة في منشأة “المثنى” لأنها قديمة. وكانت هذه المنشأة مركز إنتاج الأسلحة الكيميائية أثناء الحرب العراقية الإيرانية في الفترة ما بين 1980 ـ 1988[6]. لكن وكالة الأنباء الأميركية “AP” نسبت إلى مصادر عراقية، أن “داعش” نهب من “المثنى” 2500 صاروخ كيميائي مليء بغاز السارين، وهو غاز الأعصاب القاتل[7].
ومن المؤكد أن تحقيق “نيويورك تايمز” قد أثار الأسئلة أكثر مما جلى الأجوبة. فما هو السبب الذي دعى جيش العدوان والإحتلال الأميركي في العراق لـ”التكتم” على هذه الإصابات.
ما هي خلفيات شهادة كبير مفتشي الأمم المتحدة السابق عن الأسلحة في العراق هانز بليكس، أمام لجنة تحقيق رسمية في لندن، أن العراق لم يكن يمثل تهديدا خلال العام 2003، وأن فرق التفتيش لم تعثر على أي أدلة تشير إلى امتلاكه أسلحة دمار شامل[8].
لماذا انسحبت جيوش واشنطن من العراق، من دون أن تؤمن للعراقيين قدرة السيطرة على هذا المخزون الهائل من الأسلحة الكيميائية المنتشر فوق أراضيهم؟. من يقدر على تقديم القول الفصل في طبيعة وخطورة الأسلحة الكيميائية التي نهبها “داعش” : السياسيون أم العسكريون؟.
هل يكفي وعد الوزير جون كيري بإجراء تحقيق أحادي الطرف تقوم به الأجهزة الأميركية، حتى نعرف الحقيقة في شأن مسؤولية حكومة الولايات المتحدة عن ظهور الإرهاب الكيميائي في العراق وسوريا[9]. وهل يُغني التحقيق الأميركي ـ إذا حصل ـ عن تحقيق دولي يجري بإشراف مجلس الأمن وفق ما نلمح من اتصال شتاينماير ـ بان كي مون[10].
تزيد هذه الأسئلة من المخاوف والقلق من احتمال انتشار السلاح الكيميائي “الداعشي” في دول المشرق العربي. لبنان هو إحدى الدول القريبة من هذا الخطر[11]. هناك تفشل الديبلوماسية الأميركية في كسب ثقة المجتمع السياسي. يقول سياسي لبناني بارز: إن “الأميركيين يغشون الجميع، وأنهم اختاروا الآن، أن يكشفوا عن وقوع أسلحة كيمائية في يد داعش، وذلك لتبرير خطوة اللجوء لاستخدام القوات البرية، أي الإحتلال العسكري في العراق وربما في سوريا وغيرهما”.
وتضيف صحافة بيروت نقلاً عنه : إن “كتمان الأميركيين سر هذه ترسانة السموم يؤكد أنهم تركوها ورقة ابتزاز قد تفيدهم لاحقاً، لا سيما وأن هذه الأسلحة مصدرها الولايات المتحدة، وقد سلمت للنظام العراقي السابق، من خلال وزارة الزراعة ووزارة التجارة الأميركية، تحت إسم مبيدات زراعية وحشرية، وذلك في مخالفة صريحة لاتفاقيات الحد من الأسلحة الكيميائية”، متسائلاً : “ألا يوجب هذا الخطر الناشئ فتح تحقيق دولي مع واشنطن حول مسؤوليتها عن حصول إرهابيي داعش على السلاح الكيميائي”؟[12].
مركز الحقول للدراسات والنشر
10 تشرين الثاني 2014
[1] The Secret Casualties of Iraq’s Abandoned Chemical Weapons, By C. J. CHIVER. October 14, 2014.
Source :
http://www.nytimes.com/interactive/2014/10/14/world/middleeast/us-casualties-of-iraq-chemical-weapons.html?_r=1
[2] الرياض، السبت غرة محرم 1436 هـ ـ 25 اكتوبر 2014م
المصدر :
http://www.alriyadh.com/987890
[3] وكالات، 25 تشرين الأول 2014.
[4] عراق برس، بغداد. 26 تشرين الأول / أوكتوبر 2014.
المصدر :
http://www.iraqpressagency.com/ar/archives/100849
[5] وقال السفير العراقي لدى الأمم المتحدة “محمد علي الحكيم” في رسالة للأمين العام للأمم المتحدة “بان كي مون”، إن “مجموعات ارهابية مسلحة تحركت إلى موقع المثنى في شمال غرب بغداد وعملت على تجريد الجنود والضباط المتواجدين في الموقع من أسلحتهم، وسرق المسلحون بعض التجهيزات وعطلوا كاميرات المراقبة”.
وأضاف “الحكيم”، “بعد السيطرة على موقع المثنى فإن العراق غير قادرة على الوفاء بالتزامها وتدمير الأسلحة الكيميائية، وذلك بسبب تدهور الاوضاع الامنية”، وتابع قوله “ستعمل العراق على تدمير الاسلحة الكيميائية بعد تحسن الاوضاع الأمنية في البلاد واستعادة السيطرة على المنشأة الكيميائية”.
COMMENTS