خاص ـ الحقول / تريد فرنسا دفع الإرهاب التكفيري عن أراضيها[1]. وفي نفس الوقت تشجع[2] أو لا تحارب الإرهاب التكفيري[3] على أراضي الآخرين. هذه إشكالية سياسية وأخلاقية في نهج “المعايير المزدوجة الذي تتبعه في السياسة الخارجية، حيث يصعب الجمع بين الحق المشروع وانتهاك الحقوق المشروعة.
لمسنا هذا الفصام الذي يجافي مبادئ العدل والمساواة، لدى ظهور مجرم الحرب الصهيوني نتنياهو على رأس تظاهرة التضامن ضد قتلة ضحايا “أسبوعية شارلي”. سربت المصادر الفرنسية “روايات” كثيرة لتبرير ذلك. منها مثلا، أن رئيس حكومة العدو قد “فعلها” غصباً عن إرادة الرئيس هولاند[4] الذي انسحب منها. وأن رئيس الحكومة فالس قد “احتج” أو ردَّ على دعوة نتنياهو اليهود الفرنسيين لترك بلادهم، والهجرة إلى فلسطين المحتلة، بزعم أن “إسرائيل” أقدر على حمايتهم[5].
يمكن أن ينشغل كتاب التعليقات الصحفية بالتدقيق في صحة هذه “الروايات”. لكن “فعلة” نتنياهو ليست نشازاً. لقد كانت عملية (وفق خطة) “إسرائيلية” بيّنة لاستغلال جرائم الإرهاب في فرنسا، ودول الغرب. النظام الصهيوني يستغل، حقاً، الدعم الأطلسي و”الخليجي” لقوى الإرهاب التكفيري في سوريا ولبنان والعراق، من أجل تقويض اركان “الجبهة الشمالية” العربية التي ـ ما زالت ـ تقاوم العدوان “الإسرائيلي” حتى اليوم[6].
يبدو انتقال الجريمة الإرهابية التكفيرية إلى فرنسا[7] واوروبا[8]، أشبه بنتيجة “منطقية” للمساندة التي تلقاها الإرهابيون من حكومات أوروبا، بما في ذلك فرنسا، وأميركا، ودول عربية نفطية وغير نفطية، وكذلك تركيا، منذ عام 011. أما علاقة الكيان الصهيوني بالإرهاب التكفيري مذاك وحتى الآن، فقد كانت أكثر تعقيداً.
لقد “أصبح الإرهاب معولما بسبب الأحداث في سوريا والعراق، وهو يعني الجميع ولا يميز بين الأمم والقارات”[9]، هكذا اشتكت الحكومة الفرنسية ظلامة التكفير وتهديده المدمر أمام مجلس وزارء داخلية الغرب. لكن اتخاذ “قرار بمحاربته معاً، وفي إطار مقاربة شاملة”[10]، لا يستقيم من دون اعتراف “الشاكي” وحلفائه بمسؤوليتهم عن اضطراد انتشار الإرهاب في أراضيهم[11].
مع الأسف، توضح جريمة “شارلي إيبدو” ولواحقها انفصام المفهوم السياسي الإستراتيجي الفرنسي / الغربي في شأن الإرهاب. أولا، بفعل إغفال الشبهات التي تحيط بدور الإستخبارات “الإسرائيلية” في تدبير أو تسهيل هذه الجرائم. ثانيا، لأن تعريف فرنسا والغرب للإرهاب التكفيري، ينطوي على ذرائعية وانتهازية، تبدأ من تحديد قوى الإرهاب، وشروط حظرها، ووسائل مكافحتها، لا سيما ردع المغذيات الفكرية ـ الروحية والسياسية واللوجستية والإعلامية لهذه القوى سواء في الرياض الوهابية، أو في أنقرة “الإخوانية”.
تجلى هذا الإنفصام في “المقاربة” العنفية التي اتبعتها الحكومات الغربية، منذ عام 011، لإملاء التغيير السياسي الذي تحبذه، وفرضه بالقوة، على بعض المجتمعات والدول العربية، كما هو الحال في ليبيا، وسوريا، والعراق، وكذلك مصر. وهذه “المقاربة” المتوحشة تستعمل قوى الإرهاب التكفيري، كوسيلة لإسقاط النظام السياسي وتكييف أو تقويض الدولة، لتمرير أو تسهيل حل أزمة النظام الرأسمالي الدولي، على حساب العرب، في المرحلة الراهنة.
يقوم توحش السياسة الخارجية الغربية في الوطن العربي، حالياً، على ثلاثة أركان : الأول، تدمير تيارات الدولتية العربية المستقلة. الثاني، تقديس “النموذج الديموقراطي الإسرائيلي”[12]. الثالث، حماية الدور السياسي لتنظيم “الإخوان” في هذه المجتمعات والدول[13]، بكل ما يحمله هذا التنظيم الطائفي والمذهبي من ميول رجعية معادية لقوى التحديث الإجتماعي والدولتي[14].
لا شك في أن دعوة فرنسا دول الغرب إلى وضع مقاربة شاملة[15] لمكافحة الإرهاب هي تغير سياسي حميد قد يضع حدَّاً لهذا التوحش الغربي. نية تغيير “المقاربة” العنفية إيجابي طبعاً. لكنها وعد غامض. مفعوله فيما يخص فرنسا سيتأخر، وقد لا يتحقق. وذلك، بسبب غلو الحكومة الفرنسية ـ منذ 011 على الأقل ـ في الإنحياز إلى صف “إسرائيل”، وتالياً، إرهاب “إسرائيل”.
مثلاً، اللبنانيون الذين اطلعوا على مشروع القرار الذي قدمه François Delattre مندوب فرنسا في “مجلس الأمن الدولي، حول عملية المقاومة الوطنية ضد جيش الإحتلال “الإسرائيلي” في مزارع شبعا يوم 28 كانون الثاني/ يناير 015، شعروا بالتآمر الفرنسي على لبنان[16].
المشروع كان مثيراً للتشاؤم من صدقية الدعوة الفرنسية إلى وضع “مقاربة شاملة” بديلة ضد الإرهاب. كل من تمعن في سطور مشروع القرار، أحس بوصول نفوذ “إسرائيل” إلى أعلى دوائر القرار في الدولة الفرنسية، وشعر بتحطم السقوف التي فرضها الجنرال ديغول على تمدد النفوذ الصهيوني فيها.
لقد سارع Delattre إلى إبداء “القلق” لمقتل جنود الإحتلال “الإسرائيلي” في “المزارع”، وقدم إلى مجلس الأمن مشروع قرار يحابي “إسرائيل” ويظلم لبنان”[17]. وهذه “المبادرة” لا تعني سوى أن باريس قد “بلعت ضرب” نتنياهو في تظاهرة التضامن الكبرى مع ضحايا “أسبوعية شارلي”. وصمتت عن تأثير صورة هذا المجرم بجانب “العالم الذي اجتمع” في فرنسا، إذ بعثت الشجاعة في نفوس وحوش الإرهاب التكفيري وشياطين “الإسلاموفوبيا” معاً[18].
لا يمكن إثبات الصدقية الفرنسية والغربية ضد الإرهاب من خلال التصريحات المنمقة لموظفي الديبلوماسية[19]. يجب تغيير الأفعال لإثبات الأقوال. فالإرهاب التكفيري والإرهاب الصهيوني متداخلان. تشابه آثار علاقاتهما ما تحدثه عضات “مصاصي الدماء” في أفلام السينما : العدوى، التخالط، الإفتراس. إن تخلي فرنسا والغرب عن “المقاربة العنفية” التي تغذي ديناميات الإرهاب، تخلياً تاماً[20]، ووضع مقاربة بديلة ضد تنظيماته ودوله، لا معنى له سوى التوقف التام عن دعم الحرب الإرهابية ضد سوريا، ولبنان ودول عربية.
بالإنتظار، لن يبارحنا التشاؤم والحذر من عضات “مصاصي الدماء”، ومن ـ غلو ـ انحياز باريس صوب تل أبيب.
COMMENTS