تسعى الولايات المتحدة إلى تقليص مكاسب روسيا على محور سوريا ـ لبنان. تقارير سياسية من عاصمة عربية كبرى رصدت خطة أميركية لدفع ديبلوماسية أوكرانيا إلى تحريك ملف تتار القرم، في لبنان وبعض الدول العربية. التضييق على الدور الروسي في الإقليم هو الغاية، لا مصير التتار ولا سواهم من المسلمين. تأمل واشنطن، بهذا التدخل العدواني الجديد، أن ترد بالنقاط على الضربات القاسية التي تلقتها من موسكو وحلفائها على جبهات هذا المحور.
في خلفيات الخطة الأميركية ـ الأوكرانية، يجب أن نعود إلى بعض وقائع السنة المنصرمة. فقد حقق محور دمشق ـ بيروت، وطهران، تؤازره موسكو، نجاحاً مدويَّاً في صدِّ عبث السفارة الأميركية والسفارة البريطانية في بيروت، بالجزء الحساس من العمق القاري الإستراتيجي لمحور المقاومة والإستقلال، الممتد عبر حدود سوريا ـ لبنان. كان العبث الأطلسي ـ "الإسرائيلي"، الذي تكرر طيلة المرحلة الماضية، قد استخدم وسيلتين :
ـ الأولى، دعم وجود المنظمات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة في بلاد الشام/ جبهة النصرة، وتنظيم الدولة الإسلامية/داعش، في سلسلة جبال لبنان الشرقية. وقد تم تسليح وتموين وتمويل هذه المجموعات، من الأميركيين وحلفائهم "المحليين" والإقليميين، بما في ذلك "إسرائيل". لكي تقوم بتهديد الخطوط الخلفية للجيش العربي السوري في محيط دمشق، وتهدد الخطوط الخلفية للمقاومة الوطنية اللبنانية الرابضة عند جبهة الحدود مع فلسطين المحتلة.
ـ الثانية، التدخل الميداني المباشر في الوضع العسكري ـ الأمني في قضايا الحدود اللبنانية الشرقية ـ الشمالية. حيث عمد الأميركيون والبريطانيون، تحت ذرائع دعم القوات المسلحة اللبنانية، إلى نشر الإنقسام السياسي والإستراتيجي في صفوف المواطنين حيال هذه القضايا. وبلغ هذا التدخل ذروته مع نجاح الجيش اللبناني، والمقاومة الوطنية اللبنانية، بالتنسيق مع الجيش العربي السوري، في دحر الإرهابيين وفرض الأمن في جرود الجبال الشرقية.
حتى الجدل اللبناني الذي اندلع حول استئناف الإتصالات بين الحكومتين السورية واللبنانية، قبل أزمة إقالة الرئيس سعد الحريري واحتجازه في السعودية، عبثت أيادي واشنطن وأذنابها فيه. لكن قرار المحور بالحفاظ على خطوط التواصل عبر الحدود السورية ـ اللبنانية ظَلَّ حاسماً. وفرضت الحقائق الميدانية نفسها على الأميركيين وحلفائهم المحليين والأطلسيين. ويوم الخميس الماضي (14 كانون الأول، 2017)، عندما كان لبنان يعيش "فرحة" القرار الحكومي بالتنقيب عن النفط واستخراجه، وجهت موسكو عبر هذه الحدود ضربة إضافية لواشنطن، أثناء افتتاح السلطات الأمنية في لبنان وسوريا معبر جوسيه الحدودي بين البلدين، بعدما أقفلته التنظيمات الإرهابية في الجبال الشرقية منذ ست سنوات.
لقد جرى الإفتتاح باحتفالين رسميين متزامنين نظما عند جانبي الحدود، بحضور مدير الأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم ووزير الداخلية السوري اللواء محمد الشّعار، ومسؤولين آخرين. لكن موسكو كانت حاضرة أيضاً. وهي أعطت هذا الحدث طابعاً إقليمياً ـ دولياً هاماً. إذ تلقّى اللواء إبراهيم اتصالاً من السفير الروسي في لبنان ألكسندر زاسبيكين خلال افتتاح المعبر. وأكّد زاسبيكين لإبراهيم "تشجيع روسيا لهذا الأمر المهم"، وشدد على أنّ "من المهم أن تتطور العلاقات اللبنانية ــ السورية على الصعيد السياسي".
يأتي الدعم الروسي لتماسك العمق القاري لمحور المقاومة والإستقلال، عبر حدود سوريا ـ لبنان، ضمن جهود موسكو لتصليب التوازن الإستراتيجي على محور دمشق ـ بيروت، وتطوير الحرب على منظمات الإرهاب، ومن يقف خلفها إقليمياً ودولياً. وقد اصغى الأميركيون و"المحليون"، أثناء أزمة إقالة السعودية للحريري، إلى تصريح السفير زاسبيكين نفسه، وهو يقول : أن "لا حكومة [في لبنان] من دون حزب الله".
تبدأ الولايات المتحدة، إذن، حسب تلك التقارير، جولة التدخل العدواني في لبنان ودول عربية أخرى، متخفية برداء أوكرانيا، وحقوق تتار القرم المسلمين. وتمني نفسها بتعويض خسارتها المتواصلة بالنقاط أمام موسكو. ويريد الأميركيون تسجيل هدفين :
ـ الأول، استغلال الوضع في أوكرانيا، لتخفيف صعود الدور الروسي في الإقليم والعالم، بعد الإنجازات التي حققتها روسيا وحلفائها في سوريا ـ لبنان، والعراق، وفي إيران، في الحرب على الإرهاب، وضرب منظماته وتقويض "إماراته" المسلحة. وكذلك، بعد أن رفضت موسكو طلب "إسرائيل" بإقامة "حزام أمني" يأوي الإرهابيين في المنطقة الجنوبية ـ الغربية من سوريا.
ـ الثاني، عرقلة تنفيذ جدول الأعمال السياسي لمحور المقاومة في لبنان، بإثارة الإنقسام السياسي بين اللبنانيين، وتشتيت قواهم، وإشغالهم عن التحشد في الحرب على الإرهاب التكفيري ("القاعدة" و"داعش")، وفي المقاومة ضد الإرهاب الصهيوني ("إسرائيل"). إذ يظن الأميركيون والبريطانيون، أن رمي جمرة مسلمي القرم التتار بين بعض القوى المذهبية اللبنانية، قد يؤجج الإنقسام السني ـ الشيعي.
على أي حال، ليس غريباً استخدام الأميركيين موارد حكومة كييف لتحقيق أهداف واشنطن الخالصة. فهذا الأمر حدث ويحدث في أوروبا وأماكن أخرى، ونظام الحكم الأوكراني يتذلل إلى الأميركيين ضمه إلى "القطيع" الأطلسي. لكن الغريب أن تسعى الولايات المتحدة وأوكرانيا ـ بتواطؤ من تركيا أيضاً ـ إلى الضغط على روسيا، وإلى إضعاف دور محور المقاومة، في الحرب على الإرهاب، بإثارة ملف تتار القرم، أو حقوق مسلمي القرم، لضرب إجماع الرأي العام اللبناني والعربي على دحر قوى الإرهاب. لكن استغرابنا قد يتلاشى إذا ما لاحظنا أن الخطة الأميركية ـ الأوكرانية ضد لبنان ومحور المقاومة، تستجيب لغايات "إسرائيل" أيضاً، لأنها تستهدف حرف اهتمام اللبنانيين والعرب، وكذلك المسلمين، عن دعم نضال الشعب الفلسطيني في انتفاضته البازغة على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب مدينة القدس عاصمة لـ"إسرائيل".
مركز الحقول للدراسات والنشر
الجمعة، 15 كانون الأول، 2017
الأحد، 17 كانون الأول، 2017، آخر تحديث قبل النشر