خاص ـ الحقول / ايقظ المؤتمر المنعقد هذه الايام في مبنى الامم المتحدة في نيويورك، لمناقشة وتقييم مقررات مؤتمر المرأة العالمي الرابع الذي استضافته الصين في اواخر آب من العام 1995، ايقظ ذاكرتي اذ كنت واحدة ممن شاركن في المؤتمر الرابع.
عشرون عاما انقضت، لكن اوراقي لا تزال مملوءة بما سمعت وبما شاهدت على مدى عشرة ايام منذ عقدين من الزمن، رغم ما اعتراها من اصفرار.
قرأتها مجددا ووجدت انه من واجبي ان اتشارك شهادات تقدمت بها نساء من انحاء العالم يختلفن في العمر واللون لكنهن يجتمعن في مصيبة تتمثل بالعنف والتمييز والاغتصاب والتهميش، علماً بأنني كتبت عن تجربتي حول هذا المؤتمر، الا انني احتفظت بالكثير الكثير مما سمعت من افواه النساء.
بين اوراقي الصفراء وبخط يدي كتبت بعضا من شهادات نساء شاركن في المؤتمر، وقد استفظعت في ذاك الحين ما سمعته. اما وانا اقرأ اليوم ما كتبت، فلا يغلب على تفكيري الا صور اللاجئات في بلادي من سوريا ومن العراق : عربيات، اشوريات وسريان، وصور السبايا الايزيديات، وصور النساء المرجومات والمذبوحات، واخبار الفتيات اللواتي يتم بيعهن في مخيمات اللجوء.
عشرون عاما والعنف يتناسل من رحم الحروب التي تقودها بلاد ترسل لنا وصفات في مكافحة العنف والتمييز ضد المرأة، وتصنع الحروب وتجند المجرمين لخوض الحروب واستهلاك السلاح المصنع في مصانعها.
جئن من آسيا، من افريقيا ومن دول عربية، سطَّرتُ قصصهن في اوراقي ودفنتها، الا انني في كل يوم اسمع قصصا مشابهة وربما اكثر قسوة وفظاعة!
امرأة من الفلبين:
” استنكر الحرب لانني مررت بمأساة كبيرة، بدأت قصتي لما كنت في الرابعة عشرة من عمري في العام 1944، كنت اغسل ملابسي على النهر، مر ثلاثة جنود يابانيين وامسكوا بي واخذوني الى ثكنة عسكرية، اغتصبوني طيلة ليال وايام كثيرة. لم اعرف حينها لماذا يحدث لي ذلك، حاولت استنجادهم، لم افلح. اخذني وقت طويل لكي استعيد قواي، ولكن بمساعدة مجلس المرأة الآسيوية نجحت، الا ان هذه التجربة تؤرقني وتقلقني. يجب ان نقف ضد الاغتصاب في السلم والحرب معا. اطالب بتعويض من الحكومة اليابانية لرد اعتبارنا حتى لا يكرروا ما فعلوه عندما يفكرون بالحرب. الحروب التي يجب ان نقف ضدها. اناشد الرجال الذين استمعوا، ان يلاحظوا الالم واطالب بمعاملة منصفة”.
هذه الشهادة كانت في الثاني من شهر ايلول 1995 وكانت المرأة التي تدلي بشهادتها باكية صارخة، قد بلغت من العمر 61 عاما ولا زالت تحمل جرحها.
تبع هذه الشهادة حسب تدويني في اوراقي عرض فيلم مخيف ومؤثر عن الحروب في العالم، كما عُرض فيلم عن مجازر صبرا وشاتيلا كنت قد شاهدته في بيروت وادلت سعاد سرور الناجية من المجزرة بشهادتها التي سبق لي واستمعت اليها في محكمة النساء العربيات التي عقدت في بيروت من 28 الى 30 حزيران من العام نفسه، تمهيدا لمؤتمر بكين. وسعاد كانت قد تعرضت للاغتصاب من عدة جنود في ميليشيا القوات اللبنانية واصيبت بشلل في رجلها بعد ان اطلقوا عليها النار الا انها نجت لتكون شاهدة على فظاعة ما حدث في ذاك اليوم.
ثم وقفت امرأة اسمها ميليسيا لتتلو شهادتها بعد نجاتها من حرب البوسنة والهرسك:
“تعرضت للاغتصاب مع امي واختي، فشلت في زواجي وانا اتعالج اليوم في سراييفو”.
وعن رواندا عُرض فيلم مفزع عن حرب عرقية طاحنة ذهب ضحيتها 70 % من السكان بفعل القتل الجماعي، وكان اغتصاب النساء احد الاسلحة التي استخدمت في هذه الحرب.
شانتال من هيئة الارامل في رواندا شهدت بالقول انها اغتصبت من مائة رجل واصيبت بالايدز:
“كانوا يدوسون على بطني”. وكانت المرة الاولى التي تتحدث فيها امرأة من رواندا في محفل عالمي، فأخبرتنا عن الذين فقدوا عيونهم واطرافهم في الحرب وعن فتيات حملن سفاحاً، وطلبت الوقوف دقيقة صمت على ارواح الضحايا كما ناشدتنا ان نخبر شعوبنا ليتضامنوا مع رواندا وتضامنت بدورها مع البوسنة ومع فلسطين، لتشكيل حركة اعتراض على ما حصل ويحصل للنساء.
عجوز من كوريا اغتصبت واجبرت على تعاطي المورفين مع عدد من النساء، عادت الى ديارها لتجد ابوها قد مات وامها مقعدة “صممت على ان اعيش بدون الم، وان اترك المورفين، كسرت اسناني خلال محاولاتي خمس مرات”. وتضمنت شهادتها رواية سيرة حياتها بعد الجريمة التي تعرضت لها وكيف فقدت مشاعرها ولم تستطع ان تكون زوجة فبقيت الى جانب الزوجة الثانية “نريد منهم الاعتراف بما فعلوه وان يشعروا بالخزي والعار هم الذين فسدت نفوسهم”. واعتبرت انها قتلت مرتين حين استعبدت جنسيا وحين انكروا ما قاموا به.
وفي اندونيسيا انشىء صندوق للتضامن مع اسر ضحايا الحرب من النساء.
ومن الجزائر مناضلة ضد القوى التكفيرية حمت ارملة لديها 6 اولاد، احرق منزلها الارهابيون ومات ابنها في الحريق، فاخذتها واسكنتها في بيتها، فحكمت عليها المحكمة الشرعية بالموت. كما اخبرتنا عن فتى لا يتجاوز عمره 13سنة، اطلق الرصاص على امرأة لا ترتدي الحجاب. واخبرتنا انه في العام 1994، صحافية كانت عائدة الى منزلها اوقفوها وطلبوا بطاقتها ثم اطلقوا النار عليها، قتلوها وسرقوها وهي المعيلة لاولادها. “انهم يأخذون الفتاة من بين ايدي ابيها من دون ذنب. يجبرون الفتيات المخطوفات على تعاطي المخدرات. اجبروا امرأة ذات ستين سنة بعد ان عصبوا عينيها واخذوها الى مكان لتقوم بتوليد فتاة اغتصبت من عشرة رجال وبعد الولادة ضربوا المولود بالحائط حتى الموت”.
عرض شريط مصور عن المرأة في العالم، موسيقاه مذهلة وساحرة بعنوان I am the river of silence.
جاء دور مصر، تلت المتحدثة شهادة عن فتاتين مصريتين نورا واميرة لا يتجاوز عمريهما الـ 11 سنة. “كنا نلعب ونساعد امهاتنا، اخبرنا انه يجب ان ينتزع منا جزء لنكون نساء حكيمات ونظيفات, وعلمنا ان ذلك يتم من اجل الا تنحرف البنات واننا سنحصل على فستان وفرخة وسنعامل كالبنات”. الام رفضت ان يتم ذلك على يد رجل يمتهن الامر منذ عشر سنوات، واصرت ان يكون في مستشفى وعلى يد طبيب، الا ان الحلاق هو من اجرى العملية وكان مصير الفتاتين الموت. وذكرت ان 90% من البنات تم ختانهن.
اما الشاهدة من جنوب الهند كانت مشكلتها مختلفة “قتلوا الطفلة التي انجبتها وأداً، انجبت طفلة ثانية فتزوج بأخرى، وفي حملي الثالث كنت انام على الابر ظناً مني انني سأحمل ولداً. بعد ذلك اصبح زوجي متوترا ومحبطا، ضربني ضربا مبرحا ورمى علي المياه الساخنة، في المرة الرابعة جلبت دواء من السحرة. هجرني لعام كامل”.
لم يخل الامر من شهادات باردة، تدعو الى التساؤل فيها الكثير من تقنيات التشويق كأنك في حضرة فيلم بوليسي كما تشعر مع هذه الشاهدة من رومانيا. “اردنا الانفتاح، وجدنا العالم رائعاً والبلدان الغربية تتمتع بالديمقراطية. نحن جزء من هذا العالم. المرأة في اوروبا الشرقية تريد ان تغير العالم معكم. في العام 1973 سجن والدي لاسباب سياسية، وكانت رومانيا فقيرة، فعانينا من صعوبة في الاعالة، حاولت مساعدة امي لنعيش افضل، درست بتفوق في جامعة بنسلفانيا وعشت بمسكن خاص وادخرت المال لوالدتي. تعمل زميلتي في المانيا بمرتب جيد فحصلت على وظيفة مماثلة وسررت. حصلت على المال بصورة شريفة. بعد ذلك صاحب العمل اخذنا الى مقاطعة فرنسية وقدم لنا الغذاء والمسكن وكان فيه ثلاثة اشخاص، شعرت بالخطر بصحبة هؤلاء وبينهم شخص اسمه محمد، صاحب العمل طلب منا التعاون، صرخت فضربني محمد ضربا مبرحا واغتصبني، ساعدتني امرأة كانت تعمل في منزل الرجل، ما جعلني اعيش صورة امي وايماني بالله. بقيت طوال الليل ائن من آلامي. في احتفال تناول محمد مع صحبه العقاقير والخمور، حاول اشراكنا في الليلة الحمراء الصاخبة، لكننا هربنا. جاء رجل لنجدتنا من بوليس المانيا واتصل بالقنصلية وساعدنا مساعدة كبيرة وقبضوا على المجموعة”. نهاية سعيدة تشبه النهايات البطولية في افلام سينما هوليوود!
شاهدة من فييتنام “اخذنا رجلان الى بومباي وخلال الاستراحة في المنازل سرقونا واغتصبونا. استغلونا وباعونا بمبلغ. حاولنا الهرب ولم نستطع. وتاجروا بنا جنسيا. العالم مليء بالطيبين وليس الخبثاء فقط”.
من شمال شرق تايلند “انا من اسرة فقيرة لم انه دراستي، عدت للعمل في بانكوك ثم ذهبت الى السعودية لاعالة اسرتي. يأتي سمسار الى القرية ويختار بنات ويأخذهن الى اليابان ليعملن مضيفات. اقنعني بالذهاب للحصول على زوج. قدم 1000 $ للتحضيرات. اول ما وصلت وجدت الكثير من البنات. هددنا اذا تحركنا بالضرب. اخذنا الى بانكوك وانزلنا بأحد الفنادق. ثم جاء بسوانا عندها علمت انه سيتاجر بي وان احدهم سينام معي لانني فتاة او اغتصب. ارسلنا الى ماليزيا وبعدها الى اليابان، لكنني لم ادخل وعدت الى الفليبين. السمسار يطلب الفوائد”. وناشدت الآباء الا يوقعوا على عقود بيع بناتهم.
من الفلبين “عانيت من حكم ماركوس الوانا شتى، زوجي سجن، لجأت الى امستردام وهناك حجزوني لانهم اعتقدوا اني داعرة، توقعت تفهما عندما وصلت الى الغرب، كنت اتوقع حرية وديمقراطية لكن وجدت عددا كبيرا من اللاجئات يتعرضن للترحيل. هناك مساعدات لكن في هولندا نحن ممنوع علينا الحصول على فرص تعليم ونعيش في خوف دائم من ان تسحب منا اوراقنا. يقولون لنا ان عالمهم ليس متاحا للجميع. هناك سياسات صارمة على اللاجئات. العنصرية هي مشكلتنا”.
وكانت تلك الجلسة الاولى اما الجلسة الثانية فخصصت لمناقشة: العنف الناتج عن غياب التنمية. وعُرض شريط جميل بعنوان I m the song of the earth. انا اغنية الارض.
وفي هذه الجلسة تحدثت عليا من تونس والتي لا تجيد العربية بشكل واضح عن اثر التشريع الديني على القانون المدني، وطالبت بقانون للاسرة بتوجهات جديدة تحت شعار ثلاثي: الحرية- المساواة- عدم التمييز، معتبرة ان هذا القانون من تحديات الحداثة وعددت المقترحات المئة التي استطعت ان اسجل منها التالي: الغاء الاكراه على الزواج، حرية الزواج (اختلاف الاديان ليس عائقا)، منع تعدد الزوجات، طلاق قضائي بين الزوجين، ابطال التمييز العرقي او الديني، التبني والمساواة في الميراث.
وكلمة باكستان اعتبرت ان القانون الاسلامي دكتاتورية عسكرية تتذرع بالاسلام لتسلب حقوق المرأة والعمال، واعتبرت انه قانون يستخدم بطريقة غير محايدة، واخبرت الجلسة ان الرجم بالحجارة معمول به وان الحجاب مفروض كهوية اسلامية.
هذه العينة من الشاهدات اوصلت رسائل شتى الى المؤتمر في العام 1995 الذي اولى اهمية كبرى في ان توقع الدول على اتفاقية مناهضة العنف ضد المرأة، وعلى حماية المرأة والطفل خلال الحروب، والغاء اشكال التمييز ضد المرأة، وعلى احلال السلام…..
منذ العام 1995 حتى اليوم، كم من النساء اغتصبن وضربن وتعرضن للعنف اللفظي والجسدي، وكم من امرأة هُجّرت مع اطفالها بسبب الحروب التي عصفت في اكثر من بلد في العالم وفي منطقتنا العربية وكم من امرأة يتاجر بها ونضيف اليوم على القائمة الطويلة كم من امرأة تُسبى وتباع، في مشهد يتناقض مع كل الاعراف والقوانين. كم من مؤتمر ومؤتمر سوف يلزم ما استجد على ساحة المرأة؟
واذا كانت التنمية كما تدعي الوصفة الغربية الجاهزة لبلادنا سوف تكبح العنف، فلماذا نراه متفشيا وبوحشية في الدول المسماة عظمى والتي تملك ريادة تكنولوجية وتفوقا في جميع المجالات وتنمية شاملة فوق ذلك.
ان الوحشية التي تعصف بحياة المرأة العربية جراء الحروب الدائرة هي من صنع الدول التي تدعي التمسك بحقوق الانسان ونشر الديمقراطية والتي تصدر الوصفات العلاجية في الحرية. صناع الحرب وادواتها لا يأبهون الا بمزيد من اثبات التفوق والريادة واختبار الاسلحة وبسط السيطرة وفتح الاسواق وما كل شعاراتهم الا محاولة للتعمية على حقيقة دوافعهم في تمزيق دولنا وتغريب شعوبنا عن مجتمعاتهم وحضارتهم.
كنت ذات يوم في مؤتمر بكين، سمعت ورأيت وبكيت وغضبت. وانا اليوم هنا اسمع وارى وابكي واغضب.
COMMENTS