عاش الرئيس جمال عبد الناصر أقل من ألف يوم، بعد صدور "موسوعة الهلال الاشتراكية"، في القاهرة عام 1968، بالذكرى الـ 16 لثورة 23 يوليو الخالدة. [i]. ونظن أنها، اليوم، تكتسب أهمية سياسية وتاريخية خاصة، لأن المحررين قد وثَّقوا اسم عبد الناصر، ضمن قائمة الشخصيات التي عرضتها الموسوعة، وعرَّفوا بشخصه وتجربته وأفكاره، فيما كان لا يزال على قيد الحياة. وهذا الأمر، يطرح احتمال أن يكون القائد العربي الكبير، قد تمكن خلال تلك الفترة المتبقية من عمره القصير (1918 ـ 1970)، من الإطلاع على ما كتب عنه في هذا "التعريف" ـ الوثيقة، وأنه وافق عليه.
إن هيئة تحرير موقع الحقول تعيد نشر هذا "التعريف" بعد 48 عاماً على صدوره، أولاً، إكراماً للرئيس عبد الناصر في الذكرى الـ 66 لثورة 23 يوليو الخالدة، التي تحل علينا يوم غدٍ. ثانياً، بسبب أهميته السياسية والتاريخية، فهو قد يعتبر سيرة ذاتية، وضعت بموافقة صاحبها الكريم. ثالثاً، لكي نمنح القارئ العربي من جيل اليوم، فرصة الإطلاع على وثيقة تاريخية عن عبد الناصر، من المحتمل أن يكون، هو نفسه، قد نظر فيها. وهنا نص "التعريف" الوثيقة :
… … … … …
جمال عبد الناصر[ii]
(1918ـــ ……)
رائد الاشتراكية والقومية العربية، وابن مخلص للشعب العربي، وقائد النضال الدائب ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية، أول من صاغ اهدافاً واضحة للتاريخ العربي المعاصر، وأصبح رمزاً لجميع الشعوب المتطلبة للسلام والحرية.
رائد الاشتراكية العربية، وقائد النضال العربي في مرحلة من أدق مراحل تاريخ العرب. ولد في قرية بني مر في 15 يناير 1918.
ويحدد جمال عبد الناصر أصول نشأته ومكانه في المجتمع المصري الذي تربى فيه بقوله:
"أنا أفخر بأنني واحد من أهالي بني مر، وأفخر أكثر وأكثر هذا بأني واحد من عائلة فقيرة نشأت في بني مر، وأنا أقول هذا لأسجل أن جمال عبد الناصر نشأ في عائلة فقيرة.. وأعاهدكم أن جمال عبد الناصر سيستمر، حتى يموت، فقيراً في هذا الوطن".
أي أنه يحدد أصل نشأته من أسرة مصرية صميمة، وفي بيئة ريفية، وبني مر قرية من قرى الصعيد، تقع على بعد ثلاثة كيلومترات شمال شرقي أسيوط، وعلى بعد سبعة كيلومترات جنوبي مركز أبنوب. ولا تكاد تختلف في تكوينها الإقتصادي والإجتماعي عن القرى الأربعة الاف المنتشرة في ريف مصر، والتي يرتكز عليها مستقبل الوطن. ولعل هذا المكان هو الذي جعل جمال عبد الناصر يتجه بفكره أول ما يتجه إلى الفلاحين.
ونشأة جمال عبد الناصر الفقيرة، حيث كان والده عبد الناصر حسين موظفاً من متوسطي الحال، هي التي ربطته بالغالبية العظمى من فقراء الشعب، الذين تكالبت عليهم قوى الاستعمار والاستبداد والاستغلال لكي تسلبهم ثرواتهم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، ولكي تحتفظ بهم في مستوى بشع من الفقر والبؤس والعوز.
ومن الفقر تتولد جميع الأمراض الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الاخرى: التخلف في النمو الإنتاجي، وإهدار الديمقراطية والحرية، والاستبداد والاستعباد الوطني، والظلم الإجتماعي.
ولعل هذين السببين الأساسيين: الريف والفقر، هما اللذان يحددان مواقف جمال عبد الناصر منذ صباه إلى يوم قيادته ثورة 23 يوليو 1952، وهما اللذان يحددان موقفه حتى اليوم.
وحياة عبد الناصر هي صورة حياة جيل بأكمله من أبناء الشعب في مصر، جيل ما بعد ثورة 1919، الذي فتح عينيه على الحياة ليسمع أن بلده مستقل لكنه يرى أنه ليس مستقلاً في الواقع. وليسمع عن الثروات والعز والمدنية الأوروبية لكنه يرى في الواقع الفقر والبؤس والتخلف الحضاري. جيل فقد إيمانه بالطريق الذي رسمه له الساسة الذين تولوا قيادة ثورة 1919، والذين وقعوا معاهدة 1936، فأخذ يبحث عن طريق أخر. وبدأ البحث عن الطريق بالتساؤل.
وهنا يُجمع كل من كتبوا عن حياة عبد الناصر، على أن أبرز ما كان يميزه هو العقل المتسائل دائماً، والمتسائل عن السبب.
إنه يسأل والده ذات يوم: "أبي .. لماذا نأكل نحن اللحم، والفلاحون لا يأكلونه؟".
ولعل أكل اللحم في أسرة عبد الناصر، التي كان عميدها موظفاً صغيراً بمصلحة البريد، لم يكن شيئاً معتاداً كل يوم ولكنها كانت تأكل اللحم أحياناً. ولم ينس الفتى ذو الاحساس العميق بالفلاحين والفقراء، أن يقارن ويتساءل ويدهش. وتقود المقارنة والتساؤل والدهشة إلى البحث والثورة، من أجل أن يتاح للذين يربون الماشية ويرعونها أن يأكلوا اللحم.
والفلاح يعني الأرض، فلا انفصام بينهما بأي حال من الأحوال. وإذا تساءل ابن الشعب عن الفلاح، فلا بد له أن يتساءل عن الأرض. وحدث مرة في بلدة "الخطاطبة" أن شاهده أبوه يحفر أمام البيت، فنهاه عن الحفر، ومضى إلى عمله، وعندما عاد ظهراً وجد الحفرة الصغيرة وقد أصبحت كبيرة عميقة فسأله: "لماذا مضيت في الحفر وقد نهيتك عنه؟". وأجاب الصبي جمال: "أردت أن أعرف ماذا تخبئ لنا هذه الأرض… كيف تعطينا؟ وإلى أين تأخذ منا؟"
وكان سؤالا آخر. وكلا السؤالين يشير إلى أن ابن الشعب الناشئ هو في أعماقه ابن الفلاح والارض…. ابن مصر الحقيقية.
ولكن جمال عبد الناصر لم يبق ابن الفلاحين والارض فقط، وإنما أتيحت له الظروف لكي يدخل المدارس ويتعلم، وأن يعيش في المدن : الاسكندرية والقاهرة، وأن يكسب بهذا كله وعياً قومياً أبعد وأعمق. وأن يطرح مزيداً من الأسئلة الأعم والأشمل.
وكان سؤاله إلى أحد زملائه المقربين في المدرسة في 3 سبتمبر 1935، والمظاهرات مشتعلة ضد قوات الاحتلال الإنكليزي وفي سبيل الدستور، وهي التي اشترك فيها وأصيب وسجن: " أين الوطنية التي كانت سنة 1919 تشعل ناراً في الصدور". ، وكان أول مقال كتبه في مجلة المدرسة عن "فولتير داعية الحرية".. الوطنية والحرية مع الفلاحين والأرض أصبحت عناصر الوعي في جمال عبد الناصر الشاب.
ومزيد من الأسئلة، ولكنها في هذه ــ المرة ــ وجمال عبد الناصر قد بلغ السابعة عشرة ــ لا تكتفي بالتساؤل عن السبب . لا تكتفي بسؤال "لماذا؟" وإنما تتقدم لكي تسأل" من يزيل الاسباب ويغير الأحوال؟".
ويحاول جمال عبد الناصر أن يضع يده على مصادر القوة في الشعب. أين القوة التي يستعد بها الشعب لمواجهة أعدائه؟. وفي بحثه عن مصدر القوة دخل جمال عبد الناصر الكلية الحربية، التي فتحت ــ بعد معاهدة 1936 ـــ أبوابها لابناء الأسر الفقيرة والمتوسطة، بعد أن كانت مقصورة على أبناء الأغنياء. وبعد التخرج من الكلية بحث جمال عبد الناصر عن الإجابة عن تساؤله: "أين من يقول للاستعمار قف عند حدك". وكانت الاجابة تكوين تنظيم "الضباط الأحرار" في يناير 1938.
وظل تنظيم الضباط الأحرار نوعاً من رابطة الإخوة، حتى كانت حرب فلسطين 1948. التي اشترك فيها جمال عبد الناصر وخاض معركة حصار الفالوجة. وأكسبته تجربة حرب فلسطين المريرة وعياً أعمق وأبعد بالقضية العربية المعاصرة. وأعيد تنظيم الضباط الأحرار، وتكونت له لجنة تأسيسية، وأصدر في نوفمبر 1949 أول منشور، كتبه جمال عبد الناصر، وخالد محي الدين، وحمدي عبيد وجاء فيه: "كنا نعتقد أن المحنة التي أصابت البلاد في حرب فلسطين قد أعطت درساً قاسياً للمسؤولين لينهضوا بالجيش، ويعملوا على تدريبه وتسلحيه، وليبعدوا به عن تلك المظاهر الخادعة، كالاشتراك في الحفلات واقامة الزينات.."
وتحدث المنشور عما يعانيه الشعب من "جوع وعري وحرمان". وفيه نلاحظ الربط المستنير بين القضية العربية القومية "فلسطين"، وبين قضية ضرورة تعزيز مصدر القوة الشعبية "الجيش" وبين ضرورة تغيير الأوضاع السياسية.. الاستعمار والسراي والأغنياء ورجال السياسة". وبين ضرورة تغيير الأوضاع الاجتماعية للقضاء على "الجوع والعرى والحرمان".
وفي 23 يوليو 1952 تبلورت ظروف الثورة، فقاد جمال عبد الناصر الضباط الأحرار إلى عملية تاريخية لتغيير مصادر السلطة.. وتوالت الإنجازات: طرد الملك ــ الإصلاح الزراعي ــ اعلان الجمهورية ــ جلاء قوات الاحتلال ــ تأميم قناة السويس ــ هزيمة العدوان الثلاثي ــ الوحدة المصرية السورية ــ تأميمات يوليو 1961 ــ وعلى طول هذه المنجزات تأكدت السلطة الوطنية القومية، وتأكدت السيادة والاستقلال وروح الوحدة العربية.
وكانت ثورة 23 يوليو مصدر الالهام للثورات العربية في الجزائر والعراق وسوريا واليمن والسودان، ولثورات أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وأصبح جمال عبد الناصر رمزاً للنضال الثوري الدائب ضد الاستعمار.
وقد صاغ جمال عبد الناصر أهداف الثورة السياسية والإجتماعية في كتابه "فلسفة الثورة" .
وفي مايو 1962، دخلت الثورة جمال عبد الناصر، مرحلة الإشتراكية العلمية وذلك عندما تمت صياغة "الميثاق الوطني" في 21 مايو 1962.
وقد أوضح الميثاق أن الثورة قد اختارت بصورة حاسمة ونهائية طريق التطور الاشتراكي بالديمقراطية.
وهذا الطريق يستند إلى قوى الشعب العاملة من الفلاحين والعمال والمثقفين والرأسمالية الوطنية.
وكفل الميثاق ضمانات تمثيل الفلاحين والعمال في كل مستويات السلطة السياسية بالنصف على الاقل. وأكد الميثاق ملكية الدولة لوسائل الانتاج الرئيسية مع السماح بملكية خاصة محدودة ومشروطة.
قال جمال عبد الناصر في الميثاق:
"إن الديمقراطية هي الحرية السياسية، والاشتراكية هي الحرية الاجتماعية، ولا يمكن الفصل بين الاثنين، انهما جناحا الحرية الحقيقية وبدونهما أو بدون أي منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق إلى أفاق الغد المرتقب".
وحدد جمال عبد الناصر معالم الديمقراطية بضمانات ثلاثة هي أن يتحرر المواطن من الاستغلال في جميع صوره، وأن تكون له الفرصة المتكافئة في نصيب عادل من الثروة الوطنية، وأن يتخلص من كل قلق يتبدد أمن المستقبل في حياته. والا تكون الديمقراطية قائمة على اساس سيطرة طبقة على طبقة، وإنما تكون سلطة مجموع الشعب وسيادته..
وأكد جمال عبد الناصر في الميثاق: "أن الحل الاشتراكي هو المخرج الوحيد الى التقدم الاقتصادي والاجتماعي وهو طريق الديمقراطية بكل أشكالها السياسية والاجتماعية".
ويمكن الوصول إلى الحل الاشتراكي عن طريق "خلق قطاع عام وقادر، يقود التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسؤولية الرئيسية في خطة التنمية" و"وجود قطاع خاص يشارك في التنمية في اطار الخطة الشاملة لها من غير استغلال"، "وعلى أن تكون رقابة الشعب شاملة للقطاعين، مسيطرة عليهما معا".
وبنضاله الدائب، والمرير أحياناً، ضد الاعتداءات والتدخلات والمؤمرات والمناورات الاستعمارية والصهيونية والرجعية والانتهازية والمحافظة، يحتل جمال عبد الناصر ـــ عن جدارة ــ مكانة الصدارة في تاريخ نضال الشعب المصري في سبيل الاشتراكية، ونضال الشعوب العربية في سبيل الوحدة، ونضال العالم في سبيل السلام والحرية
.. (إ.ع)
هيئة تحرير موقع الحقول
الأحد، 10 ذو القعدة، 1439، الموافق 22 يوليو / تموز، 2018
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[i] اشترك في تحرير موسوعة الهلال الإشتراكية : ابراهيم عامر. د. أحمد عبد الرحيم مصطفى .أحمد محمد غنيم. د. راشد البراوي .كامل زهيري. د. محمد حلمي مراد .محمود أمين العالم.
راجع الطبعة الأولى : كامل زهيري
طبعت بمطابع دار الهلال، يوليو/ تموز 1968