عندما أعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في قمة حلف شمال الأطلسي التي عقدت في بوخارست، أخيرا، عزم فرنسا العودة إلى جناحها العسكري بعد 42 عاما من انسحابها منها, ثارت تساؤلات عديدة حول أسباب هذا القرار الذي اتخذه الرئيس الفرنسي بدون مناقشته اولا في برلمان بلاده, وأعلنه من خارج فرنسا, بينما هو في دولة أجنبية, كما ثارت تساؤلات حول نتائج قراره هذا على استقلالية القرار الفرنسي وسيادة البلاد على قوتها العسكرية وبالذات قوتها النووية.
فمنذ عام 1966 وإعلان الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول انسحاب بلاده من الجناح العسكري الأطلسي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة, لم يحاول أي من الرؤساء اللاحقين، مهما كانت توجهاته السياسية، مراجعة سياسة ديغول التي أرادها أن تضمن استقلالية بلاده.
فقد أوضح الزعيم الفرنسي الأسبق موقفه عندما قال في المؤتمر الصحفي الذي عقده في باريس في عام 1966، انه يرفض أن تخضع القوات العسكرية الفرنسية لأي سلطة أجنبية، أو وجود قاعدة عسكرية أو قوات حليفة على الأراضي الفرنسية, وأعلن أن فرنسا سوف تملك القوة النووية، ومؤكدا أن القوة النووية ستكون هي قوة الردع التي تضمن أمن فرنسا.
ولكن في الأسبوع الماضي قلب الرئيس ساركوزي كل الموازين عندما أعلن في كلمته في قمة الأطلسي أن فرنسا تسعي لأن تجدد العلاقات مع حلف شمال الأطلسي، موجها أساسا كلامه إلى الولايات المتحدة, مؤكدا أن فرنسا في حاجة إليها, كما أنها في حاجة إلى حلفاء أقوياء.
في هذه الكلمة، أعلن ساركوزي، ولأول مرة، رغبته العودة إلى الجناح العسكري في حلف شمال الأطلسي مع نهاية عام 2008. فهل يتخلي ساركوزي عن إستقلالية فرنسا العسكرية وسيادتها على قراراتها العسكرية؟
بداية يجب ان نحدد أن الحلف الأطلسي الذي يريد ساركوزي العودة إليه في عام 2009، لن يكون هو نفسه الحلف الذي خرج منه ديغول في عام1966. ففي ذلك الحين كان العالم في منتصف القرن الماضي، منقسما إلى كتلتين متنافستين حيث تملك دولتان كبريان، وحدهما السلاح الذي من شأنه كما قال ديغول إبادة أي دولة أخرى.
كانت تلك الدولتان تملكان وحدهما وسائل الردع، من اجل الحفاظ على أمنهما. وتفرضان سلطتهما وهيمنتهما على العديد من الدول الأخري التابعة لكل منهما. لكن هذا الوضع انتفى تماما، منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي, إذ انهارت الكتلة الشرقية وانتهت الحرب الباردة, ولم يعد هناك قطبان متنافسان. بل بدأت حدود حلف شمال الأطلسي تتسع لتشمل الدول الأوروبية الشرقية، وبدأت أميركا تغازل الجمهوريات التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق.
مع نهاية الحرب الباردة دخل العالم حربا جديدة ضد الارهاب. ففي حين لم تكن فرنسا تشعر انها مهددة من قبل الاتحاد السوفياتي، فان ساركوزي اليوم، يؤكد في كل مناسبة أن الارهاب يهدد فرنسا مثلما يهدد كل الديمقراطيات في العالم.
لذلك سعى ساركوزي لتأكيد حاجة فرنسا إلى الولايات المتحدة، كما أن الولايات المتحدة بحاجة إلى حلفاء أقوياء، وسعى أيضا إلى الاعلان عن زيادة عدد قواته في أفغانستان ألف جندي.
ولئن كانت أميركا في الماضي هي التي تسيطر على القيادات في الحلف، فان الوضع اليوم يختلف. حيث دعا ساركوزي إلى الأخذ في الاعتبار قوة أوروبا الدفاعية، كقوة متوازية ومتوازنة مع أميركا.
ولقد حصل ساركوزي في قمة الأطلسي الأخيرة على ضمانات وتأكيدات من الولايات المتحدة بالسماح للسياسة الأوروبية الأمنية والدفاعية، أن تنطلق بكامل قوتها، وان تمنح الأوروبيين مكانة أهم داخل الادارة الداخلية للحلف, وذلك يعني أن ثمن عودة فرنسا للحلف، هو حصولها علي قيادات عسكرية مهمة.
ومن جهة أخري, وبينما اختار الزعيم الأسبق شارل ديغول توقيتا خاصا للاعلان عن انسحاب بلاده من الجناح العسكري للحلف عام 1966، اختار الرئيس الحالي توقيتا مؤاتيا للاعلان عن العودة إليه.
لقد اختار ساركوزي وقتا صارت الولايات المتحدة فيه أضعف من أي وقت آخر.
مر خمس سنوات على حرب العراق التي اعتبرت أكثر الحروب تكلفة في السلاح وفي الأموال, واقلها تأييدا بين كل شعوب العالم. وفي وقت يعاني فيه الرئيس الأميركي بوش من تدهور في شعبيته داخليا، بعد انهيار قيمة الدولار، وتوقع أزمة اقتصادية، وكساد يهدد اقتصاد العالم كله, وفي وقت يعيش فيه الرئيس الأميركي جورج بوش آخر شهور رئاسته, فتتغير خلال شهور قليلة، الادارة الأميركية والرئاسة وربما ايضا الحزب الحاكم.
وفي نفس الوقت اختار ساركوزي تقوية مركزه أوروبيا. قام بزيارة تاريخية لبريطانيا دعم فيها أواصر العلاقات مع صديق فرنسا اللدود. فأعلن عن صداقة جديدة ومجددة بين البلدين, وحصل على صك الصداقة من الاعلام البريطاني الذي طالما أهان وانتقد الرؤساء الفرنسيين، خاصة الرئيس السابق جاك شيراك، بعد أن وقع الاعلام البريطاني في غرام كلارا زوجة ساركوزي الشابة الجميلة.
كما سعى ساركوزي في دعم العلاقات بين فرنسا وألمانيا التي أبدت تحفظا إزاء مشروع الاتحاد المتوسطي. وفي زيارة خاصة لألمانيا طمأن ساركوزي المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، بأن المشروع المتوسطي لن يكون عبئا علي الاتحاد الأوروبي.
كما حصل على موافقة ميركل على انعقاد قمة الأطلسي في العام المقبل، في ذكراها الستين، في مدينتي كيهل وستراسبورغ، اللتين تقعان على ضفتي الحدود الفرنسية الألمانية. وهي أول مرة تعقد قمة للحلف في مدينتين في نفس الوقت. وهو بذلك يرمز إلى الصداقة الفرنسية ـ الألمانية, والمصالحة الأوروبية والشراكة بين ضفتي الأطلسي.
لكن يبقى الكثير من الأمور عالقة تؤرق مشروع ساركوزي في دعم مكانته داخل الحلف الأطلسي.
فهناك مخاوف ألمانيا المشروعة، من تقوية الحلف في الوقت الذي تسعي فيه برلين إلى دعم سياستها الأمنية كأولوية. وهناك موقف ساركوزي الداخلي، حيث لا زال ينتظر صدور الكتاب الأبيض حول الدفاع والأمن القومي الذي سيحدد أولويات فرنسا الكبري خلال السنوات المقبلة والذي سيقدم إليه في منتصف شهر نيسان/ابريل 2008.
كذلك، يؤرق ساركوزي موقف بريطانيا المتردد إزاء مشروع أوروبا الدفاعي]ة، ناهيك عن وجود مخاوف داخل حلف شمال الأطلسي نفسه، من أن يتحول إلى حلف سياسي وعسكري شامل، وان يحل محل الأمم المتحدة.
ومن اليوم إلى نهاية 2008، سيكون أمام ساركوزي مهام جمة، إن نجح بها، فقد يتمكن من تقوية موقف فرنسا في العالم لكي ينفذ مشروعه, خاصة في وقت ستكون فيه الولايات المتحدة مشغولة باعادة ترتيب البيت الداخلي.
COMMENTS