… القصفُ المركّز على كلّيات وطلاب وأساتذة الجامعة اللبنانية، والذي يُخاض، هذه المرّة، بسلاح الإهانة الثقيل، ذكّرني بما قرأتُهُ يوماً في صحيفة «لوموند» الفرنسية. كان تحقيقاً يستشهدُ كاتبُه بنصيحةٍ أسداها أحدُ حكماء الصين، وهو يقدّمُ المشورة لأحدِ الأباطرة بخصوص حملاته العسكرية. قال له هذا الحكيم: «إذا أردتَ يا سيدي الإمبراطور احتلال أو تدمير بلدٍ من البلدان، فلا حاجة لك في أن تشنَّ عليه حرباً دامية لسنواتٍ طويلة، وأن تفتك بالأرواح والعباد فيه. يكفي، أن تدمِّر نظام هذا البلد التربوي والتعليمي، وتعمِّم الفساد في ربوعه، ومن ثمّ عليك الانتظار عشرين سنة تقريباً. سترى أمامك بلداً يبنيه جَهَلة ويقوده سارقون، وعندها، فقط، ستدرك أنّ السبيل بات مفتوحاً أمامك لتسحق هذه البلاد، وتُحكِم قبضتك عليها… بسهولةٍ مطلقة».
هذا الكلام، ليس إنشاءً إعلامياً ولا يحتاج إلى فكّ رمز أيّ معنى مضمر فيه. لكن، أنعش ذكراه، ما أُعلِن (ولم يُعلَن) عمّا تحيكه الطبقة السياسية اللبنانية للقطاع التربوي، بكلِّ فئاته، وللجامعة اللبنانية، بخاصّة. وهذا الكلام ليس للتدليل على «نظرية المؤامرة» الممجوجة، بل إنّه ذاك الصياح المزعج وأصوات النشاز التي تعلو، هنا وهناك وهنالك، وتتجرّأ على شخص جامعتنا المعنوي؛ مرّة من هذا الوزير المنتمي بالأمس إلى شريحة «حديثي النعمة» في السلطة، ومرّة من ذاك الزعيم، ومرّة من ذلك المسؤول… وهكذا.
تصريحات مشينة لكن ساذجة، تجريح وتشويه سمعة، افتراء وكذب، تهديدات تحت الطاولة وفوقها،… وكلّها معطيات يحاسب عليها القانون اللبناني، لو حصل وتمّ الادِّعاء على أساسها. نعم، يحدث هذا في بلاد الأرز، التي علّمت الكبير قبل الصغير (كما أخبرونا)، الأصولَ والأخلاقيات والأخلاق وكيفية صوْن الكرامات والحرّيات. نعم، يحدث هذا في جمهورية الموز، وسط صمتٍ مدّوٍ ومريب لـ«قادة الرأي» في لبنان. «قادة الرأي»، موضوع اقترحته على أحد طلابي عنواناً لرسالة ماستر يُعدّها. «قادة الرأي؟! وفي لبنان؟!» سألني. قلت له «نعم.. ولمَ لا؟!» وفكّرت مليّاً، بعد ذلك، وتساءلت: «مَنْ هم قادة الرأي في بلادي يا تُرى؟ مَنْ هُم هؤلاء الوسطاء بين مصادر المعرفة والناس؟ مَنْ هُم أولئك المساهمون بفعالية في تشكيل الرأي العام وتوجيهه والسيطرة عليه داخل المجتمعات المحلية؟ مَنْ هُم القادة الذين يأخذون زمام المبادرة في قبول أو رفض الأفكار الجديدة قبل أن يمتثل لها التابعون لهم؟ مَنْ هُم صانعو الفكر الذين يؤثّرون في اللبنانيّين، أكثر من روافد المعرفة الأخرى؟ مَنْ منهم يتمتّع بالمقدرة والمسؤولية والذكاء والإلمام بأمور العمل والقدرة على الإنجاز وفَهْم المواقف والتعبير عن الأفكار والانفتاح العقلي والعاطفي والحُكم الصائب ونفاذ البصيرة وسِعة المعرفة والمثابرة و…. صفاتٍ من هذا القبيل (بالَغَ، للأمانة، علماء الاجتماع والاتصال والسياسة في اجتراحها)»؟!
ولكن… بقيت تساؤلاتي من دون أجوبة. هل من قادة رأي في لبنان، ومَنْ هم (عذراً على التكرار)؟ المثقّفون المتوارون عن الأنظار؟ أم المنجِّمون والمبرِّجون الذين خلت لهم ساحات استقراء الواقع وحال مستقبلنا؟ أم السياسيون الذين يرفضهم الشعب لكن يعشقهم ناسُهم عشقاً ممنوعاً؟ أم رجال الدين الذين يعجز الكلام أمام آرائهم السديدة والتي، للمناسبة، تبحث عنهم شاشاتنا التلفزيونية بإصرارٍ عظيم؟ أم الإعلاميّون (ما دمنا أتينا على سيرة الشاشات) الذين حوّلهم حكّامنا إلى «أيتام على مائدة اللئام»، بعد أن سلّمت المؤسساتُ التي يعملون فيها مقاليد حرّيتهم لحرّاس الهيكل، وأدخلتهم غرفة العناية الفائقة بداعي دخولهم في الـ coma؟ فمصالح صاحب المؤسسة فوق كلّ اعتبار، وهي، دون غيرها من شروط المهنة وتقاليدها، التي تملي دفتر شروط الضوابط والمسموح به والمرفوض والمطلوب وغير المطلوب (ففضيحة سلوك التلفزيونات اللبنانية في الانتخابات النيابية الأخيرة عندما حصرت الإطلالات الحوارية لدى «مَنْ استطاع إلى الدفع سبيلاً»، هي بمثابة إخبار في الدول المحترمة).
في الحقيقة، ليس هناك أدهى من الحكّام في لبنان (هم حكّام للتوضيح وليسوا مسؤولين)، وليس هناك مَنْ يستطيع المزايدة على سقوطهم الأخلاقي، الذي أمسى نموذجاً ومرجعاً عالمياً للفساد. هم يعرفون (عبر مستشاريهم؟) أنّ سمعتهم في أسفل الدرْك وعلى كلّ لسان، لكنهم لا يُبالون، بل يُظهِرون قلّة حياء غير مسبوقة، تحت عنوان «لسنا نحن المقصودين». إنّهم يتحصّنون بالحصانة القانونية لحماية أنفسهم، ويجرّون، بالمقابل، أيّ مواطن حرّ محترم، ومهما علا شأنه، إلى المحاكم، إذا ما سوّلت له نفسه وتجرَّأ على التشويش على مصالحهم أو على المسّ، من قريبٍ أو بعيد، بصورة «قدسيَّتهم». ليس هناك أعتى من حكّام لبنان. معظمهم، يفتقد أبسط الصفات المطلوبة لقادة الرأي (المذكورة أعلاه)، اللهمّ إلا الذكاء ــ الشيطاني. منذ ما بعد حلول حقبة اتفاق الطائف، قضت الطبقة السياسية الحاكمة على «قادة الرأي» في لبنان، تماماً كما يفعل حكّام الدول التوتاليتارية بنسختهم المُستَنسَخة والمشوَّهة: يقتلون كلّ ضباط الصف الأول من الجيش (خشية التخطيط لأيّ انقلاب)… ويُخْصُون كلّ صاحب رأي حرّ يعارضهم ويقول «لا»، جهاراً أو سرّاً. ومسار التنكيل استمر؛ فقضت هذه السلطة، أيضاً وأيضاً، على شيء يُسمّى في الدول المحترمة «معارضة». عجباً، كيف لبلدٍ متنوّع وسبّاق بين دول محيطه، أن يعيش من دون «معارضة» ومن دون «قادة رأي». لكنه بلد، ولسوء طالعنا، وُلِد وفي شرايينه يسرح فيروس virus، استحال اسمه في لبنان من «نقص المناعة» إلى «الطائفية». ففتك باكراً بعباده وبمؤسساته…وبكلّ شيء، وبدأت العوارض تشير إلى أنّ البلاد باتت في مرحلة متقدّمة من المرض.
أمّا بعد، فنعود إلى مؤسسة الجامعة اللبنانية التي احتفلنا، في الأمس القريب، بعيدها الـ68، ولكن بغياب أفراد عائلتها الذين كانوا معها، بمعظمهم، في غرفة العناية الفائقة. أدخلتها السلطة إلى هناك، قسْراً وبرعبٍ شديد، بعد أن أطلق النارَ عليها بعضُ الحاقدين من أصحاب الثأر المحسوبين على حكّامنا، يا للعار. السلطة تُطلق النار على أحد أولادها. ولكن، لماذا هي خائفة؟ لا أحد يصدّق أنّها قلقة على حياة الجامعة اللبنانية، فلماذا تركت صغارها، إذاً، يلعبون بالنار؟ مهلاً، ليس في واقع الجامعة اللبنانية ما يخيف، فافعلوا ما شئتم في حسابات وجداول موازناتكم لهذه السنة وكلّ سنة. لا تخيفكم الجامعة مثل غيرها: فليس في الجامعة اللبنانية عسكر لينتفضوا، فيمتشقون السلاح ويقطعون مفارق الطرقات ويخلخلون ما يُسمّى «السلم الأهلي»! وليس في الجامعة اللبنانية قضاة ليغضبوا، فأنتم ساهرون لشراء ذممهم كي يسكتوا عن جرائم الحكّام، أيام الحرب والسلم! وليس في الجامعة اللبنانية مصارف ومصرفيّون ليغتاظوا، فيلوّحون بتركيع الفقراء تحت طائلة تجويعهم! وليس في الجامعة اللبنانية ضباط جمارك مرتشون ليمتعضوا، فيقطعون «الهدايا» عمّن تعرفون أسماءهم! وليس في الجامعة اللبنانية جمعيات للزوجات الفاضلات لتحرد، فيسكت المسؤولون في ما بينهم تحت شعار «المعاملة بالمِثل ومين ساواك بنفسو ما ظلمك»! وليس في الجامعة اللبنانية مؤسسات وهمية تخيف، فيخرس المسؤولون أيضاً في ما بينهم تحت الشعار نفسه! وليس في الجامعة اللبنانية جمعيات لتأصيل الخيول وتحسين نسل الجواد العربي، كي تصرف لها الحكومة 460 مليون ليرة كما فعلت مؤخراً كُرمى لعيون رئيس بلدية بيروت! وليس …..وليس….وليس…. لما الخوف إذاً من الجامعة اللبنانية؟ غريبٌ أمر هذه السلطة! ربما لأنّه في قلب هذه الجامعة يكمن نبض ثورة القادم من الأيام؟ إقتضى التشكيك.
وفاء أبو شقرا، أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية
السبت 1 حزيران/ يونيو 2019