وفاة الرئيس السابق لـ«الحركة من أجل تقرير مصير المزاب»، كمال الدين فخار، في المعتقل، أثارت موجة غضب واستنكار لدى قطاعات واسعة من الشعب الجزائري. وفخار، الطبيب، وأحد أبرز المطالبين بـ«الحكم الذاتي» في المزاب، والذي تقدّمه الصحافة الجزائرية ناشطاً مدافعاً عن حقوق الإنسان، كان قد اعتُقل لمرة أخيرة في 31 آذار/ مارس الماضي بتهمتَي «التحريض على الكراهية» و«المساس بأمن الدولة»، وقد أدان محاميه اعتقاله، واصفاً إياه بالتعسّفي، وأشاد بجسارة فخار «المستعد للموت من أجل قناعاته». وهو بات اليوم، في نظر مؤيديه، شهيداً للحرية، وكبش محرقة سلطة مستبدة. لكن الوقائع تبدو مخالفة لهذه السردية؛ ففخار الذي عانى من دون شكّ من الاختلالات في عمل النظام القضائي، هو أولاً وأساساً شهيد خياره الانفصالي.
لا أحد يستطيع إنكار تبعية القضاء الجزائري للسلطة التنفيذية، فهو خاضع لها بحسب الدستور. من تداعيات هذا الأمر أن العديد من الأحكام القضائية تضمّنت مخالفات قانونية صريحة. فاللجوء المبالَغ فيه للاعتقال الاحتياطي، والتغيرات المفاجئة في مجرى المحاكمات، كما حصل خلال محاكمة شكيب خليل، إحدى الشخصيات المقرّبة من بوتفليقة، والذي حذا حذو رئيس الوزراء الأسبق أحمد أويحيا في إبداء أسفه لاستغلال القضاء من قِبَل الأجهزة الأمنية، أثارت كذلك امتعاضاً كبيراً في أوساط الرأي العام.
لكن، إذا كان التوظيف السياسي للقضاء من أجل إسكات المناضلين النقابيين ومنع الإضرابات يسيء إلى صدقيّته كسلطة مضادة مستقلة ونزيهة، فإن المعارضة المسمّاة ديمقراطية تستغلّ هذا التوظيف لشلّ دوره تماماً. فالدعوات من قِبَلها إلى إطلاق سراح رجال أعمال أو سياسيين أو ناشطين يخضعون لإجراءات قضائية قبل بدء المحاكمة، تعني عملياً رفض الاعتراف بأي سلطة للقضاء، ودعوة إلى الفوضى قد تقضي على إمكانية الانتقال السياسي السلمي. ويأتي التعاطي الإعلامي مع قضية فخار وتحويله شهيداً ليظهر غياباً للحسّ بالمسؤولية في سياق الأزمة الحالية والمشاعر المتأجّجة. فأصدقاء فخار يتناسون أن أفكاره التي ضحّى بنفسه من أجلها، جزء من مشروع لتفكيك الجزائر.
وللتذكير فقط، فإن «الحركة من أجل تقرير مصير المزاب» التي رأسها، وهي عضو في «المؤتمر الأمازيغي العالمي» المتهم بالارتباط بالمغرب وإسرائيل، أصدرت بياناً يوضح موقفها الأيديولوجي المستند إلى الأساطير الاستعمارية عن إثنية بربرية متناقضة مع الهوية العربية. يقول البيان: «قبل استقلال الجزائر، تمتّع المزابيون بسيادة كاملة داخل مدنهم وعلى أراضيهم، بما فيه أيام الاستعمار الفرنسي، حين كانوا يدفعون سنوياً ثمن حكمهم الذاتي. ولكن، منذ عام 1962 والاستقلال المزعوم للجزائر، يتعرّض الشعب الأمازيغي في المزاب لسياسة استعمار بلا رحمة، متلازمة مع سياسة تعريب تهدف إلى خلق عقدة نقص للبربري حيال العربي وللإباضي حيال السني». كان فخار يرى أن الهوية الإباضية مهددة، ويروّج للانفصال تحت غطاء مطلب الحكم الذاتي. ينطلق خطاب فخار وأنصاره حول الصراع الإثني في المزاب من مخيال سياسي يفترض أن الأغلبية العربية، بدعم من السلطة، تسعى إلى تعديل التوازن الإثني في المنطقة عبر التوسّع على حساب المزابيين.
فخار عمل باستمرار لتأكيد فكرة أن الهوية الإباضية مهددة. فالرئيس السابق للحركة، الذي اعتُقل مرات عدة وأعيد إطلاق سراحه منذ عام 2004، هو من مقاوِلي الهوية الذين لم يتوقفوا عن السعي إلى تقسيم التراب الوطني بذريعة المطالبة بالحكم الذاتي. وعلى الرغم من أن فشل السياسات التنموية للدولة الجزائرية قد أسهم في ديمومة التوترات في المزاب، إلا أن الانقسام الوهمي بين العرب والبربر تُكذّبه الوقائع يومياً. الجذور التاريخية للصراعات بين الجماعتين المزابية والعربية مرتبطة بالعلاقات الطبقية، وبالشرخ بين العرب القادمين من أقاصي الجنوب وغير المندمجين في الشبكات الاقتصادية والمؤسساتية من جهة، وبين التنظيم الاجتماعي الممتدّ زمنياً للمزابيين من جهة أخرى. لقد سمح هذا الأخير للمزابيين بالحفاظ على موقعهم الاقتصادي المهيمن، بسبب اندماجهم المبكر في التشكيلات الاقتصادية الجديدة في منطقة التل، ومتانة نسيجهم الاجتماعي التقليدي القبلي والعائلي.
وفاة فخار أتاحت فرصة للتيار الهويّاتي البربري للترويج لخطابه الأسطوري وللخيار الانفصالي. ففي يوم حدوثها، أدانت «جبهة القوى الاشتراكية» القمع الذي تتعرّض له «الأقلية المزابية»، في محاولة لإعادة إشعال نار العنف الإثني بعد عودة الهدوء إلى مدينة غرداية، وتغلّب العيش المشترك على مساعي الفتنة منذ 22 شباط/ فبراير الماضي، حيث لم يتجاوب أهل المزاب مع دعوات العنف والفرقة.
الشعب الجزائري الذي بدأ ثورة للتحرّر من السلطوية، عليه التحوّط من المتطرفين الدينيين والهويّاتيين. وإذا كانت مثل هذه التيارات هامشية حتى الآن، فإن قدرتها على الإيذاء قد تُلحق أضراراً بالغة بالوحدة والوطنية والسيادة التي يحرص الشعب عليها. الذين يبكون فخار اليوم، الذي لم يُكفّن بالعلم الوطني بل بالراية الأمازيغية، عليهم إدراك أن إتاحة الفرصة للحركات الهويّاتية البربرية المطالِبة بالحكم الذاتي أو بالانفصال، باستغلال سياق الأزمة الراهن، لا تقلّ خطورة عن بقاء النظام السياسي السائد.
عبد الرحمن محمودي، لينا كنوش
الجمعة 7 حزيران 2019