لم تعد الهجرة من مخيمات الشتات، وصمة يخجل الفلسطيني بها. في السنوات الأخيرة، صارت إعادة التوطين في أوروبا أو كندا وأميركا، حلماً سهل المنال تُسهم في تحقيقه عوامل عدة. وأصبح بعض من كان يتظاهر في عين الحلوة والبداوي وشاتيلا واليرموك من أجل حق العودة، يعتصم أمام السفارة الكندية في بيروت لفتح باب الهجرة، كما حصل أول من أمس، للمرة الثانية خلال شهر (تقرير آمال خليل).
عدّة عوامل تجعل مخيّم البداوي في الشمال يحتل المرتبة الأولى في عدد المهاجرين من اللاجئين الفلسطينيين، مقارنةً بباقي المخيمات. هنا، المخيّم مُدقع الفقر، مثل ضواحي طرابلس الملاصقة له، وحوصر مثلها لسنوات تحت رصاص المعارك من التبانة وجبل محسن. حصارٌ أضيف إلى «التعتير»، ومُزجت معه هموم النازحين من مخيم البارد، وتقليص خدمات الأونروا. يسعى كثير من شبان البداوي للهجرة بأي ثمن، فيما شكّلت الحرب السورية موسماً مزدهراً للهجرة غير الشرعية، على الرغم من أن تجربة المخيم مع الهروب في البحر والبر مريرة. رزان المغربي (20 عاماً) عادت جثة بعد غرقها في البحر إثر محاولتها الانتقال من تركيا إلى اليونان مع مهاجرين على متن قارب. قبلها، توفي محمد عودة في صحراء ليبيا من الحر والعطش، لدى محاولته العبور إلى إيطاليا، آتياً من سوريا والعراق، ولم تعد جثته.
في أحد المقاهي الكثيرة في المخيم الصغير، يتحلق شبان لدى كل منهم تجربة مع الحلم الأوروبي، وأقارب وأصدقاء سبقوه… ومنهم من ينتظر! شقيق أحدهم اشترى تأشيرة روسية للعبور من روسيا وبيلاروسيا إلى النروج، تحت غطاء طالب. فيما شقيق آخر، يُدعى رمزي (33 عاماً) المطلوب للقضاء، تسلل عبر وادي خالد إلى سوريا، ثم تركيا، وصولاً إلى اليونان بطريقة غير شرعية. يقول شقيقه إن المهرب قبض من شقيقه 6 آلاف و200 دولار «استدانها ولا نزال نسددها».
مسار شاقّ قطعه رمزي، «عبر سيارة إجرة، اجتاز حواجز الجيش السوري والجيش الحر وداعش ونقطة غازي عينتاب. في إسطنبول، قبضت عليه الشرطة أثناء مبيته في الشارع بانتظار إشارة المهرّب للانتقال عبر القارب إلى اليونان». اضطر المهاجر إلى إنكار هويته حتى، قال إنه فلسطيني من مخيمات سوريا تحسباً لترحيله لو كشف أنه من فلسطينيي لبنان، ثم أفرج عنه وتابع رحلته معتمداً على تحويلات مالية من عائلته الكادحة في نهر البارد. عند الحدود اليونانية، تعرض لإطلاق النار من قبل الشرطة، قبل أن يمشي لأيام ويصل إلى أثينا، ثم ينتقل من بلد إلى آخر، مهتدياً بسكة القطار، حتى وصل إلى أقاربه في الدانمارك، وهو ينتظر منذ نحو عام موافقة السلطات على منحه اللجوء. يشير أحد الشبان إلى أن الكثير ممن سافروا «تورطوا في أعمال غير مشروعة لتأمين المال للعيش، لأن عائلاتهم غير قادرة على دعمهم».
يقول مازن (اسم مستعار، من أبناء البص) إن الهجرة «هروب غير مضمون إلى المجهول. بعت بيتي وأقفلت محلي وغادرت أنا وعائلتي لنحط في بلجيكا. لكننا لم نتحمل عيش الذل في (الهايم) أو مركز الإيواء الذي يضم مهاجرين من حول العالم ينتظرون الحصول على اللجوء. الطعام والخدمة رديئان»، ما اضطره إلى العودة إلى البص، لكن صديقه رفض العودة. عاد عزّت وكرّر طلب اللجوء مرة جديدة، لكنه حرق إصبعه هذه المرّة لطمس بصمته واستخدام هوية جديدة للجوء.
في تجمع المعشوق (البرج الشمالي) تتحدث الناشطة نزهة الروبي عن عشرات الشبان الذين غادروا مخيمات صور في السنوات الثلاث الأخيرة، 90 منهم من الرشيدية وحده. «الناس يائسة. إذا أصيب أحدهم بمرض مستعصٍ، نعتمد على لمّ التبرعات لعلاجه. في الوقت الذي يعمل فيه معظم شبان الرشيدية والبرج الشمالي سائقي تاكسي على سيارات غير مسجلة. لا يستطيعون تأسيس عائلة بسبب الضيق الاقتصادي، وفي حال جَمع مبلغ نعاني من منع إدخال مواد البناء إلى المخيمات. الفلسطيني عندما يستفيق لا يفكر في حق العودة، بل بالخبز والدواء والمدرسة»، تقول الروبي. اليأس دفع مؤيدي الهجرة إلى إيجاد إيجابيات لها في دعم القضية الفلسطينية: «الهجرة لا تمنع حق العودة، وفي حال حصولي على جواز سفر أجنبي، أتمكن من زيارة فلسطين المحتلة»، يقول أحد الشبان الحالمين بأوروبا!
يؤكّد ممثل حركة حماس في لبنان أحمد عبد الهادي لـ«الأخبار»، إن «نحو 40 ألف فلسطيني غادروا لبنان في السنوات الأربع الأخيرة من طريق الهجرة الشرعية عبر المطار، من دون احتساب من سلك الطرق غير الشرعية براً. الرقم ليس تفصيلاً قياساً إلى عدد فلسطينيي لبنان المقدر بـ 250 إلى 300 ألف فلسطيني. ويشير عبد الهادي إلى أن «المشروع الأميركي المرتبط بصفقة القرن يهدف إلى توطين ما بين 75 إلى 100 ألف فلسطيني في لبنان وتهجير الباقي إلى أكثر من بلد». يضيف أن «من هاجر حتى الآن وقع ضحية الضغوط الإنسانية والحياتية وتقليص الأونروا وافتعال الأحداث الأمنية، فضلاً عن الشبكات المنظمة التي تؤثر في الشباب والعائلات لإقناعهم بالهجرة وغسل دماغهم كلما زاد الضغط الأميركي لتنفيذ صفقة القرن». أما القيادي في التحالف الوطني الفلسطيني أبو بلال مرعي، فرأى أن «مشروع التسوية الذي وافقت عليه السلطة الفلسطينية كان له أثر سلبي في فلسطينيي الشتات الذين شعروا بأن السلطة تخلت عن حقوقهم. أما في لبنان، فالدولة تمارس شبه حصار على المخيمات، ما أدى إلى خنق سكانها وإنتاج حالات انحراف وتطرف». مرعي المقيم في المعشوق، لا يرى في الهجرة إقلاعاً عن التمسك بالقضية وحق العودة: «فلسطينيو أوروبا ينظمون احتفالات تضامنية أكثر منا. فضلاً عن التغيير الاجتماعي والاقتصادي الذي يحدثه المسافر في عائلته». يدرك عبد الهادي أن المنظومة التشجيعية على الهجرة الناعمة متكاملة تُسهم الدول في التغطية عليها. وفي هذا الإطار، لفت إلى أن «الأمن العام اللبناني شدد الإجراءات على مكاتب السفريات المشهورة بتسفير الفلسطينيين، لكنه لاقى معارضة من زبائنه الفلسطينيين الذين اشتكوا من التضييق برغم شرعية الإجراءات». مدّ الهجرة مستمر، فما البديل؟ يقول عبد الهادي إن «حماس وضعت استراتيجية لمواجهة الهجرة بناءً على التفاهم مع لبنان من أجل تخفيف الضغط حتى يشعر الفلسطيني بأنه يعيش حياة كريمة، وتحقيق إنجازات في مجال الحقوق الإنسانية والضغط على الأونروا لتحسين الخدمات ومساهمة الفصائل الفلسطينية بتنفيذ مشاريع توفّر فرص العمل للشباب». مصدر مسؤول في أحد الفصائل كشف عن «تفاهم أميركي مع كندا لاستقبال 100 ألف فلسطيني (40 ألفاً من فلسطينيي لبنان و60 ألفاً من فلسطينيي سوريا)، وتفاهم أميركي مع إسبانيا لتستقبل 16 ألف فلسطيني من لبنان، إضافة إلى تفاهمات مماثلة مع بلجيكا وفرنسا. التفاهمات الدولية تلاقيها تسهيلات تقدمها شبكات التسفير عبر خفض تكلفة الهجرة من 12 ألف دولار إلى 7 آلاف دولار عن الشخص الواحد».
دورة حول العالم على طريق السماسرة
الهجرة غير الشرعية ليست رائجة كثيراً في مخيمات بيروت والجنوب (عدا عن عين الحلوة)، حيث تزدهر الهجرة عبر المطار تحت غطاء السياحة. مخيم الرشيدية يأتي في المرتبة الثانية بعد البداوي في عدد المهاجرين. في الرشيدية كما في معظم المخيمات، يوجد مندوبون لأحد مكاتب السفريات، لصاحبه سمسار هجرة الفلسطينيين، ج. غ. الذي يوفر لهم تأشيرات سفر سياحية للوصول إلى البلاد التي تقبل اللجوء. عزت (اسم مستعار) دفع للمندوب 12 ألف دولار ليصل إلى إسبانيا. العامل تدبر الأموال بعد أن باع «صيغة» والدته وجزءاً من أثاث المنزل. يشمل المبلغ استصدار التأشيرة وحجز تذكرة السفر والفندق وتكاليف الإقامة في البلد المقصود. خط سفر عزّت وسواه، يبدأ بتأشيرة سياحية من المطار إلى الإمارات كترانزيت، ومنها إلى إثيوبيا أو جنوب إفريقيا، وصولاً إلى الإكوادور أو بلد آخر في أميركا اللاتينية. وفي جميع المطارات، يجد عزت من ينتظره ليقوده إلى الوجهة التالية. يمضي في أميركا اللاتينية مدة محددة تحت إشراف مندوب من قبل مكتب السفريات قبل أن يحين موعد سفره إلى إسبانيا، بحجة أنه عائد إلى لبنان.
في مطار مدريد، يجد عزت من ينتظره أيضاً ويدله على آلية طلب اللجوء. لكن الكثيرين انتظروا طويلاً في الإكوادور ريثما يحدد لهم المندوب مسار العودة عبر البلد الذي سيوافق على لجوئه، منها إسبانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا.
الأخبار، 4 أيلول/سبتمبر، 2019