يرى الكثيرون أن سياسات "أمريكا أولاً"، التي وضعها الرئيس دونالد ترامب، تنازلٌ عن القيادة العالمية، أي أنها ضربة قاضية للنظام الدولي الهرمي الأطراف، الذي شيدته وقادته الولايات المتحدة الأمريكية، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. تنطوي وجهة النظر هذه على الكثير من الحقيقة. فاعتماد سياسات "أمريكا أولاً"، هو تحول مقلق، لأنه يعني الرجوع إلى قيم الولايات المتحدة القديمة. إن الاعتراف بأن النصف الثاني من القرن العشرين كان حالة شاذة، ولم يكن قاعدة ثابتة، يثير أسئلة مؤرقة حول طبيعة القيادة الأمريكية، وحول مصير الهرمبة التعددية في النظام الدولي بعد ترامب.
فالولايات المتحدة الأمريكية التي تمتلك اقتصاداً قارياً غنياً بالموارد، ويفصلها عن أوروبا وآسيا المحيط الأطلسي، والمحيط الهادئ الشاسع، دائما ما وقعت في إغراء الانعزالية. وقد تحدث توماس جيفرسون (الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية، ما بين عامي 1801– 1809، والكاتب الرئيسي لإعلان الإستقلال الأمريكي عن بريطانيا الكولونيالية)، عن عدم وجود تحالفات متشابكة. إن عقيدة مونرو، التي يرجع تاريخها إلى عام 1823، ما كانت سوى مجرد تأكيد للهيمنة الأمريكية في نصف الكرة الغربي، وكذلك، كانت محاولة لإبعاد أمريكا عن الحروب الأوروبية. في القرن العشرين، دخلت الولايات المتحدة الحربين العالميتين الأولى والثانية بعد اندلاعهما بسنوات، وذلك عقب استفزازها مباشرة من هجمات الغواصات الألمانية، وغارات الطيران الياباني على ميناء بيرل هاربور، على الرغم من أن مخاطر الحرب كانت تتضح قبل ذلك.
لقد سعت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، إلى تعزيز مصالحها في الخارج من جانب واحد، وليس عن طريق المشاركة المتعددة الأطراف. وخير مثال على هذا، عقيدة مونرو. والمثال الثاني، هو رفض أمريكا الانضمام إلى النظام الدولي "عصبة الأمم" الذي ظهر في فترة ما بين الحربين.
المسألة الهامة هي أن كتلة أصحاب الأعمال / business المحلية تمارس نفوذاً مديداً على السياسات الاقتصادية، والخارجية الأمريكية. ويعكس هذا النمط التاريخي مكانة الولايات المتحدة [في تاريخ التطور الرأسمالي]، إذ كانت أول بلد ذي نطاق قاري يبدأ مرحلة التصنيع. وقد دعم سوقها الداخلي الهائل، مبادرات رجال الأعمال الأمريكيين في ريادة الشركات الكبيرة المتعددة القطاعات، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
كان ذلك عصر البارونات اللصوص. الذين سيطروا، ليس فقط على الاقتصاد الأمريكي، بل أيضًا على سياساته. وعلى سبيل المثال، فإن "ذا بيغ فور" : ليلاند ستانفورد وكوليس وهنتنغتون ومارك هوبكنز، وتشارلز كروكر، الذين كانوا أباطرة سكك حديد كاليفورنيا، لم يسيطروا على أسعار الشحن فحسب، بل وعلى الهيئة التشريعية للولاية. انطلاقا من هذا المنظور، فإن رغبة إدارة ترامب في إشباع كل نزوة تنظيمية للشركات الأمريكية، تتفق كلياً مع تاريخ الولايات المتحدة.
كما أن عدم ثقة الأميركيين، العميق، والراسخ، بالحكومة، له جذور تاريخية، يعزز الانعزالية. فالرأي القائل بأن الحكومة تخلق المشاكل فقط، ليس مجرد نتاج لـقناة "فوكس نيوز". لقد كان المؤسسون الأمريكيون يشككون كثيرا في الحكومة المتغطرسة، التي عانوا منها في ظل الحكم الكولونيالي البريطاني.
وبعد الاستقلال عن بريطانيا، خلق واقع العبودية، التي أصبحت إرثاً في وقت لاحق، معارضة عميقة الجذور للتدخل الفيدرالي في الترتيبات الاجتماعية المحلية، وحقوق الولايات. وتعد اجتماعات المدافعين عن حقوق السلاح، في مجلس الولاية، واحتلال أصحاب المزارع الغربيين للأراضي الفدرالية، انحرافات أمريكية خاصة. لكنها من مظاهر العصر الحديث أيضاً، وسيادة وجهة النظر القديمة العهد القائلة بأن الحكومة لا يمكن الوثوق بها، وأن أفضل حكومة هي تلك التي تحكم أقل. ويمثل ترامب وسياساته هذه الإيديولوجية الموروثة تماما.
لقد كان التهديد الوجودي للحرب العالمية الثانية كافياً لصدم الولايات المتحدة وإرغامها على أن تتخلى مؤقتاً، عن ميولها نحو الانعزالية ومناهضة الحكومة. وبعد أن امتلكت الولايات المتحدة بمفردها الإقتصاد الأقوى في العالم، ومع وجود السياسيين، بمن فيهم الرؤساء، الذين عاشوا تجربة الحرب شخصيا ، كانت أمريكا ما بعد الحرب قادرة على توفير القيادة اللازمة لبناء نظام دولي مفتوح هرمي الأطراف.
كان من السذاجة الاعتقاد بأن تلك القيادة كان "نهاية التاريخ". أي أن الولايات المتحدة ستواصل القيام بهذا الشكل من القيادة الدولية إلى أجل غير مسمى. وبخلاف ما كان متوقعاً، فقد تمخض انعدام الأمن الاقتصادي المتعاظم، وبروز سياسة الهوية (التي كشفت عجز الأغلبية البيضاء، التي كانت مهيمنة [على السلطة والمجتمع الأمريكي] في السابق، عن التكيف مع واقع التنوع الاجتماعي- الاقتصادي الكبير)، عن اسباب كافية لكي ترجع الكتلة السياسية الأمريكية إلى عقليتها الإنفرادية والانعزالية.
ومن غير المرجح أن يلتزم الرئيس الأمريكي المقبل بسياسة التجارة الحرة. كما لن يتبع سياسة أسلافه في النصف الثاني من القرن العشرين، الذين بنوا التحالفات والمؤسسات والقواعد اللازمة لاستمرار النظام الدولي الهرمي البنية الذي تقف الولايات المتحدة الأميركية على رأسه. لكنه لا يزال من الممكن تصور نظام دولي تعددي الأطراف من دون الولايات المتحدة. وتوضح قضية التغير المناخي هذه الإمكانية، إذ لم يضعف انسحاب ترامب من اتفاق باريس بشأن المناخ لعام 2015، التزام البلدان الأخرى بأهداف الإتفاق، ولا يجب أن يحدث ذلك .
المثال الآخر الذي يبين إمكانية وجود نظام دولي تعددي الأطراف من دون الولايات المتحدة، هو طبيعة رد فعل الاتحاد الأوروبي والصين مع 15 دولة أخرى، على جهود الرئيس ترامب لشل منظمة التجارة العالمية، من خلال شغور مناصب بعض القضاة في هيئة الاستئناف التابعة للمنظمة. فقد عمدت تلك الدول للرد على ترامب بإنشاء هيئة استئناف خلفية خاصة بها، للحفاظ على معايير منظمة التجارة العالمية، وإجراءاتها.
يبرهن هذا المثال، وجوب أن تخلف القيادة العالمية الجماعية القيادة العالمية الأمريكية، مع وجود أكبر قوتين اقتصاديتين : الاتحاد الأوروبي والصين. وبخلاف ما تفعله الولايات المتحدة، يبذل الاتحاد الأوروبي قصارى جهده للعمل مع الصين. ونظرا إلى التوترات الجيوسياسية التي لا مفر منها، فإن التعاون لن يكون سهلاً. لكنه، كما أدركت أمريكا ذات يوم، يبقى الحل الوحيد.
ترجمة مركز الحقول للدراسات والنشر
المقال منشور في موقع بروجكت سينديكيت، يوم 11 شباط، 2020
BARRY EICHENGREEN
hengreen is Professor of Economics at the University of California, Berkeley, and a former senior policy adviser at the International Monetary Fund. His latest book is The Populist Temptation: Economic Grievance and Political Reaction in the Modern Era.