قد يرى الكثيرون أن حربا عالمية وشيكة ربما قد باتت على الأبواب، ومعها حروب إقليمية واسعة فى مقدمتها حرب إقليمية شرق أوسطية. ولكن نظرة أكثر تدقيقاً، وبالعودة إلى تاريخ العلاقات الدولية، وإلى نظريات العلاقات الدولية أيضا، يمكن أن تصل بنا إلى نتيجة مختلفة.
ومن مزيج التاريخ الواقعى، والنظرية، نتصور أن عالمنا قد وصل إلى نقطة فارقة، تجعل من الحرب خياراً مستبعداً إلى حد كبير، صحيح أن هناك شواهد عديدة، تدلنا على أن هناك كارثة كونية محتملة، تطل علينا من كل ناحية، وتدعمها شواهد أخرى على انزلاقات نحو حروب كارثية إقليمية، خاصة فى كل من (الشرق الأوسط)، و(الشرق الأقصى). هذا صحيح، ونستدل عليه من الابتعاد عن طريق (التعايش المرن) الذى سلكته القوى الدولية فى (مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية) وخاصة 1945-1990، إبّان توازن القوى للقطبية الثنائية، بين الكتلة الاشتراكية–السوفيتية، والكتلة الرأسمالية-الغربية بالقيادة الأمريكية. كان ذلك عصراً ذهبياً بحقّ، للتعايش السلمى، بين القوى متعددة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولكن سرعان ما لحق به عصر نعيشه الآن يطلق عليه عالم (القوة العظمى الوحيدة) 1990-….، حيث انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة، نجماً محلقاً فى السماء، ومن حوله «نُجَيْمات» و«كواكب» أصغر حجماً وأقل ضياء، تبدو آفلة أحياناً، ولكنها ليست كذلك فى واقع الأمر.
لقد ابتعدت القوى الدولية المختلفة إذن، عن طريق التعايش السلمى بعد 1990، وجنحت إلى (استخدام القوة فى العلاقات الدولية) على عكس ما ذهب إليه المجتمعون فى مدينة سان فرانسيسكو عام 1945 وصاغوه فى الوثيقة العتيدة ميثاق الأمم المتحدة. كذلك جنحت القوى الإقليمية الكبرى، فى مناطق العالم المختلفة، بما فيها الشرق الأوسط والشرق الأقصى إلى استخدام القوة فى علاقتها المتبادلة، وخاصة من خلال مجموعة من (الأذناب) الوسيطة التى تعمل وكيلة-عميلة، ربما كإمبرياليات صغرى، تمثلها (اسرائيل) شرق-أوسطياً، وأوكرانيا فى أوروبا الشرقية ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وتايوان فى الشرق الأقصى على حافة (شبه القارة الصينية). كان جموح وجنوح القوة المنفلتة من عيارها، بواسطة (القوى الوكيلة) المذكورة، جديراً بإطلاق سلسلة من الأفعال وردود الأفعال الفوضوية-العدوانية، كما تبّدى بصفة خاصة فى (حرب غزة) الراهنة. ومن حول القوى الدولية والإقليمية، المنفلتة من كل عيار، على هذا النحو، عالم نووى طليق نسبيا دون ضوابط فعالة، تحوطه تصرفات غير عقلانية تجاه غلاف الكون والكرة الأرضية، مما يشى لدى الكثيرين بنوع من الكارثة المحدقة. لذلك ربما بدا للكثيرين أن (حربا عالمية) باتت على الأبواب، كحرب عالمية ثالثة، على نحو ما أشار بعض الخبراء، وكذا حروب إقليمية واسعة، غدت شديدة الاقتراب من أعواد الثقاب المشتعلة، وخاصة فى شرقنا الأوسط. ولكننا، على خلاف كل ذلك، نرى أن الحرب الواسعة ليست على الأبواب، عالميا وإقليميا. نستدل على ذلك من مزيج التاريخ الواقعى والنظرية السياسية، إن صح التعبير، حيث يسود الآن نوع من (توازن الردع) النووى وغير النووى، التكنولوجى والاقتصادى، والجيو-بوليتيكى، على المستويين العالمى و الإقليمى بحيث نرى أن المقترب الذى صاغه (مورجنثاو) فى ثلاثينيات القرن المنصرم عن الواقعية فى العلاقات الدولية، من منطلق المصلحة القومية هو الأكثر انطباقا على واقع الحال.
وبالفعل، فإنه على المستوى العالمى فى اللحظة الراهنة، نجد نوعا من توازن القوة والردع بين القوى الثلاث، الولايات المتحدة والصين وروسيا، بحيث يجعل من مصلحة الجميع، الجنوح إلى السلم النسبى، بديلاً للحرب التى لن تبقى ولا تذر. كذلك على المستوى الإقليمى-الشرق الأوسطى، تقف قوى عديدة متوازنة نسبياً، بما يجعل الحرب الواسعة والشاملة خياراً مستبعداً إلى حد كبير.
ذلك وإن التكافؤ النسبى فى مصادر القوة المختلفة بين الدول الثلاث المشار إليها يعزز دون ريب من فاعلية الردع المتبادل، ولو إلى حين. و دون الدخول فى مجال القوة العسكرية والتسليحية والتى تبدو متقاربة نسبيا، فإننا نجد على سبيل المثال أن الولايات المتحدة هى صاحبة العدد الأكبر، والنوع الأكثر تفوقا، من شركات تصنيع وتسويق منتجات التكنولوجيا المتقدمة, ومن بين عشر شركات متصدرة، فإن هناك ثمانى شركات أمريكية بالذات. أما الصين فتتسيّد عالم الشركات الناشئة فى المجال التكنولوجى، بالإضافة إلى هيمنتها على سلاسل توريد التكنولوجيا الخضراء المتطورة وتصديرها إلى أوروبا الغربية وسائر العالم. أما عن روسيا فهى الدولة الأولى فى مجال تشييد المفاعلات النووية فى العالم، وتمثل مع الصين الثنائى المسيطر على التجارة النووية العالمية. وهذه كلها أمثلة لا تعدو كونها (إشارات وتنبيهات) إلى حقائق أشد قوة تتصل بالتكافؤ النسبى بين الدول الثلاث المذكورة.
من ثم لا تكون الحرب العالمية، والحروب الإقليمية، خياراً مطروحاً بصورة فعلية فى الزمن الحالى، خاصة أن كلا من أمريكا اللاتينية، على اتساعها، و إفريقيا جنوب الصحراء، ليست فى وارد الدخول فى نوع من الحرب هنا أو هنالك. و لذا ربما نرى أننا نقف دولياً وإقليمياً، ليس على شفا جرف مهترئ، ولكننا على مفترق طرق يقتضى شرطاً مختلفاً للنجاة. هذا الشرط هو ضرورة توافر نمط رشيد للقيادة السياسية لدى القوى الدولية والإقليمية الكبرى، بما يبعد بها عن طريق الدمار والتدمير، ويذهب بها فى اتجاه البناء وإلى نوع من (السلام القائم على العدل). وإن لم يتوافر هذا الشرط، فلسوف يبقى العالم فوق (صفيح ساخن) كما يقولون، حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً.
محمد عبد الشفيع عيسى، باحث ومفكر عربي من مصر، أستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية فى معهد التخطيط القومى ـ القاهرة.
الأهرام، الإثنين 28 من صفر 1446 هــ 2 سبتمبر 2024
COMMENTS