الإنتخابات الأردنية “والمستثمرون” في سوق الأصوات

ما النظام الإقليمي الجديد : هل ثمة تنسيق مشترك بين مصر وإيران في سوريا؟
الحنين إلى تيتو.. عبدالناصر وعصره
فلسطين المحتلة تشيع القائدين في “كتيبة جنين” السعدي والزبيدي اللذين استشهدا في قتال الجيش الصهيوني

(الحقول) أسفرت جولة الإنتخابات النيابية في الأردن عن فوز كاسح للوائح السلطة. وتذكر هذه النتيجة بما تردد قبل الإنتخابات، عن رغبة السلطة بإضعاف الحركة الإسلامية وزيادة انقسامها. لكن ناهض حتر استبق الإنتخابات نفسها، بتقديم عرض سوسيوسياسي يوضح طبيعة المرشحين، وأصولهم الإجتماعية، كاشفا عن تأثير التحولات الإقليمية على تركيبة النخبة السياسية الأردنية.

وأنا أجول في عمّانالجميلة التي لوّثتها لافتات المرشحين للانتخابات البرلمانية، وزحمتها مقارّهمالفخمة : لا نقاش سياسياً، ولا كلمة واحدة عن الاحتلال الأميركي للعراق، ولا تنديدواحداً بإسرائيل، ولا تنديد بالخصخصة، ولا مطالبات اجتماعية، كما كانت الحال فيالماضي. المرشّحون من أصل فلسطيني يطالبون بالتوطين السياسي النهائي، بينما يشدّدالمرشّحون الأردنيّون على إبراز أسمائهم من خمسة مقاطع، وآخرون يغازلون “المرأة” التي هي “نصف المجتمع”. أحدهم رفع شعاراً : بل “المجتمع كلّه”!.

على كل حال، لميعد هناك أهمية للشعارات. حتى إنّ أحد المرشّحين في إربد رفع لافتات بيضاء تماماًعلى سبيل الاحتجاج. الاختيار بين إسلامي أو قومي أو يساري أو وسطي إلخ… أصبحتقليعة قديمة. فالمواطن الأردني الآن، لديه خيارات حرة بين المرشح تاجر المواد الغذائيةأو المرشحتاجر المفروشات أو تاجر مواد البناء أو المرشح تاجر العقارات والإسكان أو متعهدالإنشاءات أو المرشح مالك سلسلة ناجحة من مطاعم الفلافل أو تاجر “دراسات” و”استطلاعات رأي” أو مرشح تاجر خادمات (من الحزبين السريلانكي والفليبيني)، هذا بالإضافة إلى تشكيلة واسعةمتنوعة من أصحاب السوابق في الفساد.

في الحملة الانتخابية للبرلمان الأردنيالخامس عشر، ولقبها الرسمي : “العرس الديموقراطي”، كان أهمّ خبر فيها، أنّ سعر “الصوت” بلغ مئتي دينار (حوالى ثلاثمئة دولار). الطلب على “الأصوات” كثيفبسبب تنافس حوالى ألف مرشح ومرشحة على 110 مقاعد، وسط عزوف غير مسبوق منالناخبين.

تجارة الأصوات الانتخابية مجرّمة في القانون الأردني، لكنّ الأجهزةالحكومية والأمنية تغضّ الطرف، بل إنها تشجع هذه التجارة في مملكة أصبحت عقلية “البزنس” أيديولوجيتها الرسمية. وقد تجسّد هذا التشجيع في عمليات غير قانونية منظمةلنقل سجلات عشرات آلاف المقترعين من الدوائر الانتخابية في المناطق الشعبيةوالريفية والمخيمات، إلى الدوائر الانتخابية في المناطق التي تقطنها الفئات الوسطىوالمثقفون أو التجمعات العشائرية الوازنة.

بالمحصِلة، أنجزت الجهات الحكوميةمهمة “تحرير” السوق الانتخابية وإزالة العقبات أمام “المستثمرين”. وهكذا، غزت تجارةالأصوات قلاع الطبقة الوسطى والتراتبيات والتحالفات العشائرية التقليدية، وأصبحالمال هو العامل الحاسم في الانتخابات الأردنية.

“ثمن” الصوت الانتخابي لا يعنيالحصول عليه ببساطة. فلا بد أيضاً من المقارّ والولائم وشراء المفاتيح الانتخابيةوتقديم التسهيلات اللوجستية، ما يجعل كلفة الترشيح الجدّي تراوح بين نصف مليون ومليون دولار، وذلك حسب المنطقة وشدة التنافس. فمَن هم هؤلاء المرشحون المستعدونلاستثمار سياسي بهذا الحجم؟.

يأتي هؤلاء من فئتين اجتماعيتين، قَويتا وتوسّعتابفضل الاحتلال الأميركي للعراق : الفئة الأولى، تتألف من التجار ورجال الأعمال الذينحققوا أرباحاً طائلة من خلال العمل كمزوّدين للقوات الأميركية في العراقباحتياجاتها المدنية وتعهد التدريب الشرطي والإداري ونحوه. والفئةالثانية، تتكوّن من تجار الأراضي والعقارات التي شهدت أسعارها في الأردن ارتفاعات جنونية،جراء ارتفاع الطلب عليها من جانب أثرياء الحرب العراقيين، وجماعات “السلطة” الفلسطينية، إضافةً إلى الاستثمارات الخليجية. ومع أنه استطراد غير لازم في هذا المقام،فلا بد من التوضيح أن شركات آل الحريري أفادت من هذه الفورة العقارية، وحصلت علىأفضل العقارات في البلاد، من خلال الشراكة السياسية، لا من خلال المال.

الطبقةالجديدة من تجّار الغزو الأميركي، هي التي فرضت شروطها واتجاهاتها و”قيمها” علىالانتخابات الأردنية. ومصلحة مرشحيها في الاستثمار الكثيف للحصول على مقاعد نيابيةظاهرة للعيان. فهؤلاء بحاجة إلى تنظيم وضعهم الاجتماعي المستجدّ، وتحصينهسياسياً. سآخذ هنا مثلا واحداً من صقور الطبقة الجديدة، لكي يلاحظ القارئحجم إلحاحها هذه الطبقة، على اختراق الحياة السياسية.

قبل عام 2003، كان أحدالمرشّحين مساعداً لوالده، تاجر المواد الغذائية التقليدي. لكنه قفز، من خلال عقوده مع قوات الاحتلال الأميركي في العراق، ليصير “رجل أعمال” ذي ثروة طائلة. وقد استطاعمطلع هذا العام، أن يفوز برئاسة نادي مخيم الوحدات، وهو أكبر وأهم الأنديةالفلسطينية في الأردن، في مواجهة جميع التنظيمات الفلسطينية والزعاماتالتقليدية في المخيم الشهير.

وسرعان ما تبين أن هذه مجرد خطوة نحو دور سياسي أكبر. الخطوة التالية تمثلت في الترشّح للبرلمان. وهنا حظي بمساعدة حكومية على نقل سجلاتآلاف المقترعين، من المخيم وجواره إلى دائرة عمّان الثالثة، حيث المقعد الذي يترشحلملئه. وإذا حظي بهذا المقعد، فمن الأرجح أنه سيكون قادراً، باستعداده السخيللتمويل السياسي، على تأليف كتلة نيابية والتحول إلى رقم محسوب في المعادلةالسياسية الأردنية. وقد لا ينجح الرجل في طموحه هذا، لكن الطموح نفسه سوف يحققه آخرون من الفئة نفسها.

وإذا كانت هذه الفئة قد وسمت بميسمها الطابع الرئيسيللعبة الانتخابية، فإن الفئات الأخرى من الزعامات التقليدية والمرشحين العشائريينوالجهويين، تظل الأكثر حضوراً، لكنها أصبحت مضطرة إلى المزيد من “الاستثمار” للحصولعلى حصصها من المقاعد النيابية. وهناك دائماً، بالطبع، دوافع سياسية وراءالترشيحات.

لكن الامتيازات التي يحصل عليها النائب في البرلمان الأردني تستحق المجازفة. ففي النظام السياسي للمملكة، القائم على المزاوجة بين الحكم المطلقوالهيكلية الدستورية لاتخاذ القرار، أصبح ضمان الولاء الكامل للنواب ضرورة حاسمة،تتم الاستجابة لها بوساطة المكاسب المالية، والإعفاءات الجمركية، والتراخيصالاحتكارية، وتوزيع وظائف الدرجة الأولى، والبعثات الدراسية الثمينة على أبناءالنواب وأقاربهم.

وعلى رغم أن الرضى الضمني للأجهزة الأمنية كان لا بد منهدائماً للحصول على مقعد نيابي بالنسبة إلى معظم المرشحين، فقد شهدت الحملةالانتخابية الحالية ظاهرة جديدة، هي السعي العلني إلى مباركة تلك الأجهزة للترشحنفسه، وليس للفوز بالضرورة. فهذه “المباركة” تنشئ، في كل الأحوال، علاقة مفيدةللمستقبل، سواء للحصول على وظائف أو تسهيلات.

في أجواء كهذه، من المتوقع بالطبع،أن تعفّ أو تعجز الشخصيات الوطنية والثقافية والمعارضة أو الجديّة، عن المنافسةالانتخابية. لكن، بالنسبة إلى “الإخوان المسلمين” الذين لا يعوزهم المال، ولاالمؤسسات الاقتصادية والخيرية، فقد خضعوا، من دون شروط، للإملاءات الحكومية بشأنأسماء مرشحيهم وحصتهم من المقاعد النيابية.

أمّا تحالف التيار الديموقراطي المؤلفمن الحزب الشيوعي الرسمي والجبهتين الشعبية والديموقراطية، وبعض المستقلين، فهوأضعف من أن تفاوضه الأجهزة، ولا يملك المال، ولا يضم في صفوفه شخصيات وازنة. وقدلجأ إلى مداراة وضعه المأساوي إلى حل هزلي يتمثل في تقديم “الدعم” إلى مرشحين لاعلاقة لهم بالحركة الوطنية، من أولئك الحاصلين على الدعم الحكومي أو مالكيالثروات.
وفيما قاطعت الانتخابات التجمعات والشخصيات اليسارية والقومية والعشائرية المعارضة، أو حتى شخصيات محسوبة على النظام وتحظى بالاحترام، ترشيحاًواقتراعاً، فإن شخصيات أكاديمية ومهنية ووزارية من “التيار الليبرالي الجديد”،تشارك بقوة في عدة دوائر انتخابية، متخليةً كلياً عن شعاراتها التحديثيةوالإصلاحية، وغارقة حتى الأذنين في تجارة الأصوات والتحشيد العشائريوالجهوي. الخاسر الأكبر في هذا “العرس الديموقراطي”، ليس أولئك المبعدين عنه منممثلي القوى الاجتماعية الشعبية والثقافية والمهنية، تلك التي انتهت إلى اليأس منالأيديولوجيّة الإصلاحية والبرلمانية، بل الخاسر الأكبر هو صاحب “العرس” نفسه. إذمنالآن فصاعداً، مَن ذا الذي سيتحدث، جاداً، عن إصلاح النظام السياسي الأردني، ذلكالوهم الذي استهلك قوى البلد الحية لعقدين
كاملين؟.

Please follow and like us:

COMMENTS