لم تكن لتنقضي الحرب العالمية الأولى حتى باع العثمانيون كل البلدان التي احتلوها في مقابل سلامة أراضيهم في الأناضول، يجب أن نذكر أن العثمانيين خسروا رهانهم على دول المحور التي تقودهم ألمانيا عندما وقفوا معهم ضد الإنجليز واليونانيين والإيطاليين، في مقابل وقوف عرب آخرين مع الإنجليز وبقية الحلفاء.
لقد كانت الخسارة العثمانية المدوية نتيجة رهان سياسي وعسكري خاطئ، وللحفاظ على سلطتهم المتضعضعة وأراضيهم التي تعرضت هي أيضاً للاحتلال، عقدوا صفقات وضيعة مع الإنجليز واليونانيين واليهود وأخيراً الإيطاليين، باعوا فيها ما لا يملكون لمن لا يستحقون، لم يتلفتوا فيها لكل شعارات الإسلام والأخوة التي ادعوها وتحت لوائها احتلوها لخمسة قرون ذاق فيها العرب الأهوال والمذابح والعنصرية الشعوبية.
أقل ما يقال عن معاهدة «أوشي» التي تنازل فيها «الأتراك العثمانيون» عن ليبيا لصالح إيطاليا -إحدى دول الحلفاء- إنها خيانة بامتياز وتعامل محتل استنفد أغراضه وقدم مصالحه على مصالح شعب رزح تحت احتلاله، وتعامل مصلحي عد ليبيا جزءاً من ممتلكاته يمكنه التنازل عنها لتحقيق صفقة تبقيه في السلطة.
فلا الشعب الليبي كان ضمن اهتمام سلاطين العثمانيين، ولا فلسطين من قبلها، وما ليبيا وغيرها من الدول المحتلة إلا أراض خصبة مليئة بالخيرات، ترسل للآستانة الغلال والأموال التي مكنت السلطان وحاشيته من العيش في رغد يبنون قصورهم ويستحيون جواريهم ويرعون غلمانهم.
معاهدة الخيانة التي وقعتها السلطنة العثمانية مع الإيطاليين لا تختلف عن تمكين العثمانيين لليهود من فلسطين منذ العام 1882، ففي العام 1912 وقعت إيطاليا والدولة العثمانية معاهدة «أوشى» أو معاهدة «لوزان الأولى»، على إثر هزيمة العثمانيين أمام الإيطاليين، ومن تفاصيلها أن الإيطاليين وجهوا إنذاراً مذلاً مدته ثلاثة أيّام فقط للعثمانيين لقبول المقترح الإيطالي للمعاهدة، والذي قبلوه حتى قبل انقضائها.
بدأت الأحداث القاسية في ليبيا قبل ذلك بخمسمائة عام عندما قرر السلطان سليم الأول نقل معاركه ومدافعه وجنوده ومرتزقته الإنكشاريين من أوروبا إلى العالم العربي، فأسقط دولة المماليك الشيوعية واحتل البلدان العربية الواحدة تلو الأخرى بما فيها ليبيا.
كانت ليبيا واحدة من الجوائز الكبرى فهي في الضفة المقابلة لتركيا ويسهل تحريك الأسطول إليها دون المرور بأية أراض، استخدم العثمانيون فيها كما بقية الدول العربية التي احتلوها إستراتيجية واحدة لا تتغير.
أولاً: ضخ العنصر التركي بكثافة وتوطينه وتحويله إلى مكون اجتماعي والاستفادة منه لاحقاً في التمكين والعمالة، ورأينا ذلك اليوم في ليبيا وسوريا وقبرص واليمن هذه الأيام.
ثانياً: بث الفرقة بين المكونات القبلية والأسرية، والوقيعة بين الأعيان والحكام المحليين وتغيير ممنهج على الأرض، والعمل على تشتيت الشعوب لإبقائها تحت سيطرة الحاميات التركية.
ثالثاً: استنزاف خيرات البلد العربي المحتل من موارد مالية وزراعية وخبرات بشرية وعمال مهرة – سوريا. لبنان. فلسطين. الحرمين. الأحساء. مصر. ليبيا.. الخ، ونقلها إلى إسطنبول.
رابعاً: احتكار التعليم والتقدم والعمارة في الأراضي التركية فقط، وحرمان البلدان العربية من أي مظهر حضاري فلا تعليم ولا طبابة ولا مساجد ولا مباني كالتي تجدها في إسطنبول من قصور وطرق ومعمار باذخ.
خامساً: استباحة أي حركة مقاومة أو تذمر يبديه الشعب المحتل بما فيها انتهاك الحرمات وقتل الأبرياء وتشتيت الأسر والتجنيد الإجباري وانتزاع الأطفال واستباحة النساء والترحيل القسري.
الجريمة التي ارتكبها العثمانيون في ليبيا قبل مئة عام يرتكبونها اليوم، لكنهم غيروا موقعهم من الطاولة فبعد أن باعوها للإيطاليين وبذل الليبيون الغالي والنفيس لتحرير بلدهم، يعيد أردوغان ما فعله أسلافه بالتآمر على ليبيا وإعادة إنتاج الاحتلال مع نفس المستعمرين بشرط تقاسمه معهم خيراتها النفطية والغازية.
محمد الساعد، كاتب عربي من السعودية
massaaed@