قفز قلب “يحيى” من مكانه فرحًا عندما سمع المذيع، يعلن بدء انسحاب جيش الاحتلال “الإسرائيلي” من جنوب لبنان… بدأ يُحدّث نفسه متسائلاً: هل صحيح ما أسمعه؟! هل يمكن أن يكون المذيع قد أخطأ في قراءة الخبر؟! حاول أن يقنع نفسه أن ما سمعه ليس خطأ، وإنما هو ما يحصل فعلاً: لقد هزمت المقاومة “إسرائيل” وجيشها الذي حاول الكثيرون اقناعنا أنه لا يُهزم!!
بدأت الأفكار تتوارد إلى ذهن “يحيى”، بشكل كبير وغير متسلسل.. قبل تحرير جنوب لبنان في (25-5-2000)، ظنّ الكثيرون أن هزيمة “إسرائيل” أمر غير ممكن.. كانت هذه الأفكار “المنهزمة”، موجودة في وقت كان يقاتل فيه المقاومون في جنوب لبنان وفلسطين، ويصنعون النصر ويُلحقون الهزيمة بجيش الاحتلال “الإسرئيلي”، فكان هذا البعض من أصحاب النفوس الضعيفة والمنهزمة يرى أن “إسرائيل” لا يمكن هزيمتها، فهي تملك جيشًا “لا يقهر”.. ويُدلّلون على ذلك بالنكبة والنكسة واجتياح لبنان والجولان!!.
كان “يحيى” من أصحاب الرأي القائل إن هزيمة “إسرائيل” ليست أمراً ممكناً فحسب، إنما هو الأمر الحتمي، لأن الوقائع التي صنعها المقاومون بدمهم وجهادهم تؤيد ذلك.. وفي العام 2000، تجسّدت الحرية على أرض الجنوب اللبناني بناء مكتملاً، وما كان حلماً ومستحيلاً ـ برأي البعض ـ، غدا ممكناً، تحريراً وفرحاً، وطيوراً مُزقزقة بفجر الحرية التي صنعها المقاومون بدمهم شهادة ونصراً، وبعذاباتهم وصبرهم حرية وفرحاً.
لقد أصبحت ساعات التحرير مميزة، إذ لم يشعر العرب قبل هذه اللحظات بطعم النصر الحقيقي على جيش الاحتلال “الإسرائيلي”، فقد سادت في أوقات كثيرة أجواء القهر، وكلمات التّبجُّح التي خنقت الإنسان العربي وساهمت بصنع الهزائم.. شعر “يحيى” أثناء وجوده في القرى والبلدات المحررة أن نُسيمات الهواء فيها مختلفة؛ لقد رأى الطيور غير خائفة، والسماء صافية على غير عادتها، والأرض مبتهجة بعودة أصحابها وكأنها تريد أن تستريح من عناء الاحتلال. لقد تجسّد ذلك بمشهد رؤية النسوة اللاتي يزغردن بأعلى الصوت، ويرافقهن الأطفال الذين يلعبون باطمئنان، وهم يرفعون شارات النصر، وتعلو وجوههم بسمات تهزأ بالمحتل وعملائه، وتقول: “انتصرنا”.
لقد جال “يحيى” في “المناطق المحررة حقاً”؛ فقد جال من الطُّرة، والسويداء، والدبشة، وعلي الطّاهر، وشقيف، وكفر تبنيت، وأرنون، وسحمر، ويحمر، ووصل إلى مرجعيون وحاصبيّا والخيام، وكفر كلا، والعديسة وبنت جبيل،
ورأى هذه البلدات تبتهج فرحاً بالتّخلّص من كابوس الاحتلال. وفي “قلعة الشقيف”، التي فجّر جنود العدو بعضاً منها، تجوّل “يحيى” هناك. لم يترك منطقة إلّا وتجوّل فيها؛ صعد إلى دشم المراقبة، ودخل إلى حيث كانوا ينامون!!
وبعد ذلك زار “يحيى” معتقل الخيام؛ فهنا توجد أسماء العملاء، وهنا غرف المعتقل وزنزاناته؛ غرف لا تدخلها الشمس، والرطوبة العالية تعشعش في كل زوايا المكان. أما الأغطية والفرشات فلم تُغسل منذ دهر أو أكثر، لا تستطيع الاقتراب منها، فكيف بالمعتقلين الذين كانوا ينامون عليها لسنوات طوال؟!!
في معتقل الخيام، رأى “يحيى”، المواطنين وهم يخرجون من غرفة ليدخلوا إلى أخرى وهم متأثرون جداً ببشاعة هذه المشاهد المرعبة، والظلم الذي لحق بالمعتقلين. وبعد ذلك قام بجولة في ساحة المعتقل ودخل إلى غرف التحقيق فرأى الأدوات التي استخدمها العملاء في تعذيب المعتقلين، بدءًا بالكهرباء، وطشت الماء، إلى عامود الكهرباء الذي يُعلّق عليه المُعتقل عدة ساعات مُغطّى الرأس بكيس أسود. في هذه الأثناء، بدأ أحد المعتقلين المحررين من بلدة الخيام شرحاً عن أيام العذاب التي قضاها هنا في هذا المعتقل، لكنّه ما نسي أن يذكر الفرح القادم.
وعندما همّ “يحيى” بالمغادرة رأى صبياً لا يتجاوز عمره تسع سنوات يمسك والده بيده، ويلبس بزة عسكرية، ويحمل بيده الأخرى مسدساً بلاستيكياً، يقول لوالده:
– “إيمتا بدّي حارب اليهود؟!!”.
فأجابه والده بقوله:
– “عندما تكبر”.
فقال الصبي:
– “بس أكبر بيبطّل فيه يهود”..
فضحك الوالد وضحك “يحيى” معه، فنظر الصّبي باستغراب شديد، وتوارى خلف والده خجلاً.
بعد ذلك، انطلق “يحيى”، إلى ميس الجبل، فعيطرون فبنت جبيل، فالعديسة، وهناك وقف ليرى ولأول مرة أرض فلسطين الحبيبة، الموقف لا يوصف، دمعت عيناه، وزاده ذلك شوقاً إلى أرضه ووطنه.. ومازاد الطين بلة ـ كما يقول المثل الشعبي ـ، رؤيته لفلاح من المستوطنين، وهو يحرث بمحراثه الأرض الفلسطينية، فلم يتمالك أعصابه، فرشقه بعدد من الأحجار، التي لم تصبه ولم تصل إليه!!
هناك وعلى مقربة من فلسطين ومع “شمس البلاد” التي بدأت بالمغيب؛ أحسَّ “يحيى” ولأول مرة بشعور غريب؛ فقد تنفّسَ هواء غير الهواء، وشمّ رائحة عطر ليمون وبرتقال يافا وبيّارات حيفا، وأيقن كم هي قوية ذاكرة الفلسطينيين؛ فرغم التشريد والغربة عن المكان، إلا أن ذلك عزّزه حضور قوي للذاكرة جعلت الأجداد يجتهدون بنقل كل ما يتعلّق بفلسطين لأبنائهم، وكذلك فعل الأبناء فتركّز الوعي الجمعي أن الوطن لنا، وأن الغاصبين لا بد أنهم راحلون.
وعلى مقربة من أرض الوطن تذكّر “يحيى”، قول الشاعر: كان لي بيت هناك، وأحلى أحلى ذكريات، فتذكّر بلدته “بلدة الشيخ” التي لم يزرها”، وتقع على بعد خمسة كيلومترات جنوب شرق مدينة حيفا. ورغم أنه لم يعش فيها، ولكنّها سكنته. وظل كما الكثيرين يحافظ على مفاتيح المنازل وأوراق (الطابو) ككنز ثمين، رغم أنها تحت الاحتلال ومُسيّجة بأسلاك شائكة، وليس فيها إلا أكوام من حجارة وأنقاض لمنازل مُدمّرة مُبعثرة بين الأشواك ونباتات الصّبار وشجر التين والزيتون المُهمل بفعل الاحتلال… لكنها تضم قبراً لرمز من رموز الجهاد والمقاومة، وهو قبر الشيخ المجاهد عز الدين القسام قائد ثورة عام 1936، الذي ربطته علاقة نسب مع القرية وله ذكريات جميلة مع أهلها..
ومع مغيب الشمس، كانت روح “يحيى” تكاد تغيب؛ فهو لا يريد مغادرة المكان القريب من الوطن.. ولا يريد العودة إلى مخيم “عين الحلوة”، وإنما يريد إكمال المسيرة والعودة إلى وطنه الذي تفصله عنه بضعة أمتار، وسياج، وجنود ومستوطنون.. غابت الشمس، لكنها أشرقت في قلب وعقل “يحيى”، من جديد أن هذه الأرض مهما طال الزمن ستعود إلى أصحابها…
هيثم أبو الغزلان، كاتب ومناضل عربي من فلسطين المحتلة
20 أيار 2016
مركز الحقول للدراسات والنشر