حينما أخذت كتاب سعيد أبو الريش "جمال عبد الناصر آخر العرب"[1] لدراسته كنت مشدودا إلى العنوان. شعرت بأنه غريب، ومُبَالِغْ، وعاطفي. ثم تمكن هذا الشعور مني، بعد أن عدت إلى عنوان الأصل الإنكليزي للكتاب، فوجدته موجها إلى جمهور القراء الأجانب، بذات المعنى : "Nasser : The Last Arab"[2].
شرعت بـ"مغامرة" القراءة في التجربة الناصرية، وأنا أظن أن أبا الريش "يختزل" في عنوان الترجمة العربية، حسرته على التجربة وقائدها، وأنه عجز في عنوان الأصل الإنكليزي، عن إخفاء هذه الحسرة، حتى أمام قراء أجانب ينظرون إلى تجربة عبد الناصر، ببرود علمي، أو بشماتة سياسية، أو يقرأونها بفضول "الكولونيالي" اللعين[3].
كنت محتاجا إلى قراءة صبورة في متن النص، حتى أدرك أن اختيار العنوان، أي وصف عبد الناصر بـ"آخر العرب"، هو مخرج الكاتب من محنة المنهج التي تواجه كل عربي يتنطح لتأريخ "سيرة"، أو للتأريخ في "سيرة" الرئيس عبد الناصر.
مناهج كتابة التاريخ عامة، والتاريخ العربي خاصة، متعددة. كل منها هو رؤية إلى الماضي وإيحاء بالمستقبل. وتبدأ المحنة المنهجية، وخصوصا في الكتابة التاريخية العربية عن تجربة العهد الناصري، من واجب المؤرخ في الإجابة ضمنا أو جهرا على السؤال التالي : لماذا نعود إلى "سيرة" عبد الناصر أو نؤرخ في "وقائع" حياته.
استوى أبو الريش مع محمد حسنين هيكل، وعدد قليل ممن ساهموا في الكشف عن، أو كتابة تاريخ الثورة الناصرية، حينما أبى أن يتصرف كباحث "موضوعه" : جمال عبد الناصر وتجربته التاريخية. لو فعل، لكان عليه أن يُحَمِّل كتابه عنوان "سيرة عبد الناصر" أو نحو ذلك. ثم يعرض للقارئ سبب تكرار البحث في "سيرة" شخصية عظيمة، تناولها قبله كتَّاب ثلاثين "سيرة" أجنبية وعربية[4].
على مدى صفحات الكتاب، نلحظ أن هذا العربي الفلسطيني "اللاجئ" إلى بريطانيا، قد اختار منهج الدفاع الدقيق عن فرادة عبد الناصر في التاريخ العربي الحديث. إذ عرض محطات الصيرورة الجدلية للزعيم القومي الراحل. حاول أن يرصد كل ما فيها من "حلو ومر". وبهذا المنهج الديالكتيكي الصارم، يكشف أبو الريش لقارئ كتابه، كيف وكم كان عبد الناصر تجريبيا.
ولقد بيَّن المؤلف، قصدا أو عفوا، أن التجريبية الناصرية لم تكن ذاتية. وأوضح أن عبد الناصر لم يرتئي من تلقائه، أن "يجرب" في الأمور، فكان ما كان. أبدا. لقد كان لهذه التجريبية القومية أساسا موضوعيا، كامنا في مستوى التطور التاريخي للمجتمع العربي نفسه، خصوصا في مصر.
هذا الغموض الموضوعي في نظرية المعرفة لدى عبد الناصر، الذي نقف عليه في كتاب سعيد أبو الريش، هو حجة لقائد التجربة لا عليه، كما كان يظن بعض "أطفال يسار" عام 67. فقد ألح هؤلاء بمطالبة الناصرية بأن تعطيهم أجوبة نظرية وعملية في الفكر والسياسة. وهذه المطالبة كانت تتجاهل التجريبية القومية ومستوى تطور المجتمع نفسه أيضا. علما بأن هؤلاء كانوا قادة أحزاب قومية كبيرة، كما كان من بينهم مثقفون وفنانون وكتاب ورجال دين وسياسيون.
لقد رسم أبو الريش عبر مئات التفاصيل، صورة متينة عن "تجارب" عبد الناصر : التنظيم السري العسكري، تحطيم الملكية، إجلاء الكولونيالية، قيادة الجيش، إدارة الدولة، ممارسة السلطة، إنهاض المجتمع، تخطيط التنمية الإقتصادية والتقانية، حمل أعباء المسألة القومية، وصولا إلى التمرد السياسي والعسكري على القوى الكبرى في النظام الدولي الغادر[5]. وفي ذلك كله، لم يكن عبد الناصر من طلاب السلطة أو عبيد الذهب، وإنما كان رمز الإصلاح[6] ورجل الدولة الكبير[7].
في هذه التفاصيل التي ولَّفَها بكثافة، متناسقة جدا، يُمَكِّنُنا المؤلف من أن نرى، ببعض الشمول، أن كل المراحل أو المحطات الرئيسية والأساسية في التجربة القومية التي قادها عبد الناصر، قد انطوت على عناصر تجريبية جديدة، غير مسبوقة، فعلا.
إن معنى فرادة التجربة وصاحبها، كانت حيث أن لا الدولة ولا المجتمع في مصر، وفي أي قطر عربي، سبق لهما اختبار معرفتهما الحسية، المجربة، بالعالم الحديث[8]. ولذلك، نرى نص أبي الريش طافحا باليقين بأن "الرئيس جمال عبد الناصر يتقدم على جميع القادة العرب الذين سبقوه والذين سيأتون بعده"[9].
خاض عبد الناصر في كل هذه "التجارب" التي ترتفع عليها مصائر الأمم وحيوات الدول، وهو مجبر، في كثير من الأحيان، أن يباشر في كل "تجربة" من الصفر[10]. فالظروف الإجتماعية التاريخية، جعلته يغامر باكتشاف شروط الحياة الدولية المعاصرة، فيتعلم أساليب ويكتسب أدوات ممارسة الإستقلال القومي والوطني في عتمة نظام العلاقات الدولية. وهذه التجريبية البحتة[11]هي، على كل حال، مغزى الحداثة الناصرية الطموحة.
وليس عبثا، أن أبو الريش قابل المحنة المنهجية التي تواجه كل عربي يتناول "سيرة" عبد الناصر، بكبرياء قومي وقور، جعله يكتب نصا واحدا، للجمهور الأجنبي، والعربي على السواء. فهو ينتقد التجربة الناصرية، من غير أن افتتان بالعويل السياسي لـ"أطفال يسار" 1967، ومن غير انقياد إلى منهج المؤرخ المحترف الذي يعتاش من وضع "الرواية" التاريخية عن الناصرية، لتجديد شروط وجود النظام السائد[12].
يستند عمل أبو الريش إلى بيبليوغرافيا غنية بالكتب والدوريات والمقابلات والوثائق العربية والأجنبية. وهذا الثراء المرجعي يبعث على الثقة بالعمق العلمي للكتاب، الذي يجوب بالقارئ في مبتدأ ومنتهى وتأثير الظاهرة الناصرية. كما يلاحظ أن هذه الإحاطة المرجعية الموثقة، الرحبة، هي، اسوة بالعنوان نفسه، ضرورية، لأنها جزء من منهج الكتابة التاريخية الملتزمة. ذكرنا أبو الريش أن عبد الناصر "يحضر إلى العقل كلما واجه العرب مشكلة"[13] … وأفهمنا بأن عبد الناصر مهد السبيل للعرب.
علي نصَّار
28 أيلول/ سبتمبر، 2019
[1] أبو الريش، سعيد. "جمال عبد الناصر آخر العرب". ترجمه عن الإنكليزية سمير كرم. إصدار "مركز دراسات الوحدة العربية"، بيروت. 435 صفحة. الطبعة الأولى، نيسان/أبريل 2005.
[2] Nasser : The Last Arab. New York, St. Martin’s Press, 2004. by Said Aburish
[3] في مطلع شهر حزيران عام 2006، قدم "المفكر" الفرنسي هنري لورانس محاضرة في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت، وصف فيها السياسات القومية للرئيس عبد الناصر، بأنها "سياسات إمبريالية"، ولم يتفوه بكلمة حول "إسرائيل" مع أن موضوع المحاضرة كان عن الكولونيالية والدين.
[4] يعرض ابو الريش أسماء تسعة من "جميع الذين كتبوا الذين كتبوا سيرته …"، ثم يضيف إليهم إشارة إلى "ثمانية عشر آخرين". راجع الصفحة 25 من الكتاب.
[5] يشير أبو الريش إلى فشل عدد كبير من محاولات اغتيال الرئيس عبد الناصر. والأصل في هذا الإجرام الدولي، الذي نفذ بأيد عربية وأجنبية، هو أن الولايات المتحدة كانت قد قررت في وقت مبكر، وتحديدا في الخمسينات أن التخلص من عبد الناصر سيكون بالإغتيال أو عن طريق ضربة عسكرية توجهها إليه "إسرائيل". وهذا القرار الأميركي تضمنته وثيقة لوكالة الإستخبارات الأميركية، نشرها محمد حسنين هيكل في كتابه : "سنوات الغليان"..
[6] يقول أبو الريش "استمر [الملك السابق] فيصل من العربية السعودية وشاه إيران في التخطيط لمؤتمر إسلامي ليكون موازنا لقومية عبد الناصر العربية". راجع الصفحة 274.
[7] ينقل أبو الريش عن ديبلوماسي مصري، اقتناعه بأنه "من غير المحتمل أن تأتي [الدول العربية] قبل مرور زمن طويل، برجل في مثل نظافة [عبد الناصر]”. ويروي هذا الديبلوماسي للكاتب، “كيف أن عبد الناصر عندما رغب في شراء شقتين لابنتيه هدى ومنى لم يكن لديه أدنى فكرة عن أسعار الشقق في القاهرة. وحين اكتشف مساعدوه المبلغ الذي وفره لهذا الغرض ـ وكان ذلك كل ما لديه ـ قاموا سرا بجمع مبلغ من المال لإضافته على المبلغ الأولي ومساعدة [عبد الناصر]. ووفقا لما صرح به [هذا الديبلوماسي]، فإن عبد الناصر لم يعلم بذلك مطلقا، وتوفي وهو لا يزال يعتقد بأنه على الأقل تمكن من تأمين شقتين لابنتيه من مدخراته الضئيلة". راجع الصفحة 311 من الكتاب.
[8] راجع بعض التفاصيل عن مشاركة عبد الناصر في حرب فلسطين عام 1948 " حيث تعرف على العدو بشكل مباشر"، في الصفحات 39 ـ 44 من الكتاب. ولمزيد من التفصيل، راجع كتاب محمد حسنين هيكل : العروش والجيوش ـ الجزء الأول.
[9] ينسب سعيد أبو الريش هذا القول إلى سائق سيارة أجرة سعودي، ولكنه يأخذ به في الواقع، لأنه يكتب أن قول هذا السائق "ما زال يتردد في كل مكان" من دنيا العرب. راجع ص406.
[10] يذكر سعيد أبو الريش، كيف أن برنامج الضباط الأحرار ذو النقاط الست، "كان بسيطا وعاما للغاية … إلى درجة تبعث على الضحك". راجع الصفحة 57 من الكتاب.
[11] يوضح أبو الريش أن ثورة 1952 كانت بالنسبة للرئيس عبد الناصر "حركة اجتماعية أكثر منها عسكرية. وكان مؤمنا جدا بذلك. حتى إن أفكاره حول مواجهة إسرائيل، أصبحت تعتمد على رغبة في الإرتقاء بمستوى المعرفة العلمية لدى شعبه، وهو أمر لم يفهمه [مساعده الأول الجنرال عبد الحكيم] عامر، ولا [قائد حركة فتح، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، رئيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني السابق ياسر] عرفات". راجع صفحة 323.
[12] إن عملية نشر الرواية "التاريخية" المضادة للناصرية لا زالت متواصلة حتى اليوم. والرئيس عبد الناصر هو الشخصية العربية الأكثر ذكرا بعد الوفاة، وهو الزعيم العربي المعاصر الذي تواجه تجربته دعاية لم تنقطع لتشويهها وذمها وتبخيسها لدى الشعب العربي من المحيط إلى الخليج. وفي الأرشيف ثمة آلاف الشواهد وأكثر على ذلك.
[13] راجع الصفحة 406 من الكتاب