أنا واحد من هؤلاء الأسرى، عشت بينهم عشرات السنين، كان من الممكن أن أكون رقماً اخراً يُضاف الى العدد الإجمالي للأسرى، 5550، فيصبح 5551.
أرقام إعتدنا على سماعها في كل صباح ومساء، وما عادت تعني لنا شيئاً، تحررت مؤخراً، لا لكي اصمت، وانما كي احكي الحكاية، حكاية من بقوا داخل الأسر، حكاية ما يجري هناك داخل سجون الإحتلال الإسرائيلي.
انا هنا، كي أصرخ صرختهم، وكي احكي وجعهم.
أنا قادم من هناك، من معتقلات تعيش خارج الزمن، وخارج العصر والحياة، وخارج القانون، وخارج أي شرعيه أخلاقية او انسانية، كل شيء هناك مباح امام الجلاد، يفعل ما يشاء، ولا احد يبالي، يزجّنا بالآلاف داخل المعتقلات ولا احد يسأل، يحاصرنا الجلاد بسياطه وعصيه واسلاكه وقضبانه وجدرانه العالية، ويحاصرنا النسيان والإهمال والذاكرة العربية المفقودة أصلاً، عصي الجلاد تؤلمنا، ويقتلنا اكثر، ذلكم الصمت الذي يلفّنا من كل جانب.
ذهبت النخوة العربية وما عاد لها أي أثر. كنا يوماً عناويناً بارزة، تبدأ بها نشرات الأخبار والمهرجانات الإحتفالية والخطب والقصائد، يوم قمنا بأعمالنا النضالية ضد الإحتلال، كل بطولة من تلك البطولات التي هزّت الكيان الصهيوني، مرتبطة بشخص او عدة أشخاص، المحتل يعاقبنا على ما قمنا به بالسجن مدى الحياة عشرات المرات، والذاكرة العربية أخذت البطولة، وتركت صاحبها في الأسر لعشرات السنين، أي انفصام في ذاكرة تمجّد البطولة وتدفن البطل !!
أي نخوه تلك، التي تشتعل لدى سماعها نبأ عمليه فدائيه ضد هذا المحتل، وتنطفئ امام سنوات الأسر الطويلة !! أي شعرٍ ذاك الذي يمجّد بطولات المناضلين الفلسطينيين في الوطن المحتل، ويصمت دهراً، امام ما يلاقيه الأسرى في سجون الإحتلال.
فلسطين ليست مجرد اسمٍ في الهواء، وليست مجرد قضيةٍ معلقةٍ في الفضاء.
فلسطين هي الإنسان الفلسطيني، هي الأرض الفلسطينية، هي الأسير الفلسطيني، هي أسرة الشهيد الفلسطيني، هي من هُدّمت منازلهم، ومُنعوا من الخروج من القرية، ومن أُهينوا وضُربوا على الحواجز.
فلسطين هي العمال الذين يقفون بالآلاف على المعابر في منتصف الليل بانتظار فرصة عمل داخل الكيان، فرصة عمل قد تأتي وقد لا تأتي.
فلسطين هي العمال الذين يدخلون تهريباً الى فلسطين المحتله عام 48، للعمل في مهن وحرف لا يتنازل الإسرائيلي عن القيام بها، وفي ظروف تذكّرنا بالعبودية، وإذا ما ضُبط هذا الفلسطيني متلبّساً بجرم "العمل الشريف من أجل لقمة العيش"، يُزج به في سجون الإحتلال. عمال خارج القانون وخارج الزمن وخارج الذاكرة العربية، منسيون، تماماً مثلنا نحن الأسرى، نعيش خارج الزمن وخارج الذاكرة العربية.
نحن الأسرى في سجون الإحتلال، لسنا مجرد تقارير في ملفات المخابرات الإسرائيلية، ولسنا مجرد ارقام في الذاكرة العربية التي تفرح كلما ارتفع الرقم.
لكل أسير منا أسم وهوية، وذكريات طفولة في شوارع قريته.
لكل أسير أسرة تنتظره. أمٌ تعدُ سنوات الإعتقال ليس بالأيام وإنما بالثواني، وتعدُّ ما تبقى لابنها كي يتحرر بأجزاء من الثانيه، تحسبُ كل يومٍ، كم عيدٌ مرِ، وكم عيداً سيمّر، كم وجبة إفطار مرّت، وكم وجبة إفطار ستمّر.
لكل أسيرٍ فتاة كان يحبها، وقد اتفقا على ترتيبات الخطبة أو الزواج، بعضهن ما زلن ينتظرن، والبعض الآخر هجرن او أجبرن على الهجران لانعدام الأمل، وبقي هذا الحب المكلوم معلقاً على جدران السجن، يحرق قلب الأسير كل لحظه لسنوات طوال.
لسنا ارقاماً في الذاكرة العربية، وإنما للبعض منا أبناءٌ، وبنات وُلدن في ذات عام الإعتقال، وكبرن، وأصبح عمرهن بعدد سنوات أسر الأب. تحتفل الإبنة بعيد ميلادها العشرين، لتتلقّفها الذاكرة، وتصوّب قلبها الى السجن، ويتحول الإحتفال الى تراجيديا عشرينية الأسر.
تخرج من بيتها يوم زفافها، بعد أن تأجّل الموعد عشرات المرات، على أمل ان يشارك الأب في زفاف ابنته، وعندما يفقد الجميع الأمل بكل الفرص الضائعة وغير الضائعة، الفرص الحقيقية والفرص المفترضة في عالم الخيال، يُقام الفرح اليتيم بغياب الأب الممدّد على سريرٍ في زنزانةٍ، يقضي ذاك اليوم وتلك الليلة، في استحضار مشاهدٍ مأخوذةٍ من عالم الخيال، لزواج ابنته في عالم الواقع!
يُمضي عمره وكل سنوات الأسر، وهو ممزقٌ، ما بين خياله الرحيب وواقعه المرير!.
لسنا ارقاماً في الذاكرة العربية، وانما للبعض منا زوجة تنتظر. اعتقل العريس يوم زفافه، او قبل ان يتمّم شهر العسل، وبقيت الفرحة معلّقه في الهواء، وبقيت الأحلام وخطط المستقبل متناثرة، ما بين مكان الفرح وجدران السجن !.
تمضي السنين، وخطط المولود القادم تؤجَّل من عامٍ الى آخر، اختاروا الإسم، ورسموا مستقبل الطفل القادم، الذي لم يأتِ بعد، لأن الذاكرة العربية غيّبت اسم الأب، وأطفأت أنوار حفل الزفاف !.
عشرون عاماً في الأسر، والعد التنازلي لا يتوقف، وفرص الإنجاب في قلق. العمر البيولوجي للإنجاب للزوجة لا ينتظر الذاكرة العربية كي تستيقظ، كل شيءٍ مهدد بالإنهيار من حوله، وان لم يأتِ المولود هذا العام فلن يأتي ابدًا !.
لا بأس من الانتظار عدة اشهر، ربما يأتي المجهول بما يوقظ الذاكرة العربية، وتمنحه فرصة اخيرة، بولادة أحلام من رحم هذه الذاكرة، كي ينقذ القارب من الغرق.
صمتٌ يطبق من حوله، ولا شيء يتغير، يقرر ان يتصرّف، فإن لم يُقدم هو على المغامرة، فلن تفيده تلك النخوة النائمة، فيخاطر، ويهرّب نطفةَ، منه، لتلتقي مع نصفه الآخر، تتحدى كل قوانين وإجراءات الجلاد، وتتحد مع نصفها الآخر، لتتكوّن أحلام، في رحم المعاناة والقهر والحرمان !
ما عادت تهمه كل الأيام والشهور والسنين المتبقية، وما عادت تعني له النخوة العربية أي شيء، سيان عنده، ان استفاقت من سباتها ام لم تستفِق !.
هم تسعة اشهر، وستأتي أحلام معلنةً انتصاره على جدران السجن وعلى النسيان، خاض معركته بمفرده، بعد ان جُرد من بطولته، وتخلّى عنه الجميع، وتُرك وحيداً في الميدان. خاطر بكل شيء وتحدى، تسعة اشهر، توازي كل سنوات الأسر التي مرّ بها، تُولد أحلام بعد ان مرّت بكل مراحل التهريب !.
طفلةٌ خارج الزمن، وخارج المنطق، وخارج القانون، وبكل تأكيدٍ، خارج الذاكرة العربية !.
هي تشبهنا بكل شيء، بولادتها تحكي حكايتنا، تروي كل شيء.
أحلام … اصرخي صرختنا … قولي لهم من انتِ … لا تصمتي … ايقظي ما تبقى من الذاكرة العربية … ايقظي ما تبقى من النخوة العربية !.
قولي لهم : "أريد أبي … لقد سلبه الإحتلال حريته وسنوات عمره، واخذتم انتم بطولته، أريد ما تبقى من أبي، انه لي وحدي، ارسلني خارج الأسر كي ادافع عنه، واصرخ صرخته، وأحكي وأشكو وجعه. أرسلني الى وطني في هذه الدنيا، بعد ان انتظر عشرات السنين، ولم يصله منكم سوى الصمت، ولا شيء غير الصمت … أريد ابي حياً، أعيش معه ما تبقى له من عمرٍ، قبل أن يتحول الى ذكرى مدفونة في التراب، عندها لن اصدقكم، ولن اصدق كل قصائدكم واشعاركم واغانيكم، التي تمجد ذكرى أبي".
الأسير المحرر صدقي المقت، عميد الأسرى العرب السوريين في سجون الإحتلال الصهيوني
سوريا، 17 نيسان / أبريل 2020