يقف الإتحاد الأوروبي صاغراً حيال الإستبداد الأميركي. لا يرفع صوتاً على “البيت الأبيض”. منذ بدء العملية الروسية لمنع “أطلسة” atlantisation أوكرانيا، لم يطلق الأوروبيون أي مبادرة سياسية خاصة بهم. تناسى زعماء الإتحاد كل خطبهم عن “المواطنة الأوروبية” و”المصالح الأوروبية” و”الجيش الأوروبي الموحد”، و”أمن الحدود الأوروبية” و”السياسة الخارجية الأوروبية”.
تعرف الولايات المتحدة الأميركية بدقة، أسباب الجبن الأوروبي أمام استبدادها. معطيات الصحافة الغربية، تبين أن الأميركيين كادوا أن ينتهوا من إنشاء البنية العسكرية ـ الحربية لـ”حلف شمال الأطلسي” على الأراضي الأوكرانية. بالرغم من “دعوات” فرنسا وألمانيا وبعض دول “الإتحاد” بتأجيل تنفيذ قرار ضم أوكرانيا إلى “الحلف” إلى وقت مناسب، كي لا تستفز روسيا.
تؤيد تصريحات الأمين العام للحلف، هذه المعطيات. فمنذ سنوات، والولايات المتحدة الأميركية، تسلح قوات نظام زيلينسكي اليهودي الصهيوني، وتدربها على خوض الأعمال الحربية الهجومية. ما أسفر عن ضم أوكرانيا بـ”الأمر الواقع” إلى صفوف “الحلف”. عدم احترام برلين وباريس لتواقيعهم على “اتفاقية مينسك”، جعلها مجرد “ستار أوروبي” للإنتشار العسكري الأطلسي عند عتبة باب موسكو.
تمزق هذا “الستار” مع تحرك الجيوش الروسية لمنع “أطلسة” أوكرانيا بـ”الأمر الواقع”. لم يفكر الأوروبيون بـ”وحدتهم الإقليمية” ولا بـ”الأمن الأوروبي المتبادل”. انضبطوا فوراً تحت قيادة الولايات المتحدة. دخلوا إلى جانبها “حرب توسيع الحلف بالقوة”. تنادوا لتزويد نظام زيلينسكي بـ”الأسلحة الفتاكة”. ثم جاءت مشاركتهم الحمقاء في “حرب العقوبات” لـ”تدمير الإقتصاد الروسي”. فإذا بهم يدوسون على مصالح اقتصادية وفوائد اجتماعية يجنوها من علاقة دولهم مع الروس.
هؤلاء السياسيون الأوروبيون البلهاء يصدقون أو يرغبون بأن يصدق ناخبوهم، أن تعبئة بعض الموارد البشرية والعسكرية والمالية واللوجستية الأوروبية والأميركية بيد نظام زيلينسكي، ستؤدي إلى “حرب استنزاف بالوكالة” تُهجِّر روسيا من أوكرانيا، ليستوطن فيها عسكر “حلف شمال الأطلسي”. في الحقيقة، هم لا يخلصون للناخبين بل للرأسمالية الأوروبية بكل نفاقها الإنتهازي. يرى هؤلاء السياسيون هيكل الأمن الأوروبي، يكاد أن ينهار على رؤوس ناخبيهم، لكنهم ماضون في طريق العبودية العمياء للنظام الأميركي المترنح.
إنه موت الغرب. تنظر هذه النخب السياسية الذليلة الحاكمة في أوروبا، إلى نيران الحرب تقترب من “حماها القومية”، فلا تتعلم، لا تشق سبيلاً آخر إلى العالم المتغير. إنه، حقاً، موت الغرب. لا نعرف البتة، ما الدرس الذي استنتجه حكام أوروبا البلهاء من “نار” الطائرة المسيرة التي أقلعت من أوكرانيا، قبل أيام، وحلقت فوق رومانيا وهنغاريا، ثم هوت قرب حي سكني في مدينة زغرب عاصمة كرواتيا. بل قيل أن هذا “الدرون” كان محمَّلاً بقنبلة تزن 40 كلغ، لم تنفجر. سبق هذا الحادث الخطير، سقوط طائرة حربية مع طيارها، ومروحية عسكرية مع ركابها السبعة تتبع القوات الجوية في رومانيا، يوم 3 آذار الجاري، قرب البحر الأسود. أهناك سر ما؟.
ما ليس سرَّاً، أن “اللحظة الأوكرانية” فلتت من بين يدي بروكسل. في هذه “اللحظة التاريخية” من عملية ولادة النظام الدولي الجديد، من رَحَمِ النظام الدولي الإنتقالي الراهن، “تكافح” بروكسل لكي تبقى حبيسة الإستبداد الأميركي. لقد خسر الأوروبيون حماسهم إلى الحرية!. كان أجدى للإتحاد الأوروبي، أن ينتهج قادته، وتحديداً الألمان والفرنسيين، سياسة واقعية تحترم مبدأ الأمن المتبادل، الذي يطالب الإتحاد الروسي بالتزامه. لقد تسمروا كبيادق خشبية على امتداد رقعة الشطرنج الروسية ـ الأميركية المترامية الأطراف.
بهذه السياسة الذَنَبِيَّة التي يسير فيها الإتحاد الأوروبي خلف الولايات المتحدة الأميركية، باتت النخب الحاكمة في دوله، عنواناً فاقعاً لضعف الإرادة السياسية لدى الأقطاب الغربيين في النظام الدولي الحالي. إنه موت الغرب. الغرب الذي هيمن على النظام ـ العالم، منذ نحو خمسة قرون. ولكن ماذا عن العرب في هذا الظرف الإنتقالي الإقليمي ـ الدولي. هل من عبرة أو خبرة ما ليقتبسها العرب مما جناه الأوروبيون على أنفسهم؟.
بينما تشد الولايات المتحدة ضغوطها على الدول العربية لكي تدخل حرب “أطلسة” أوكرانيا، نجد الجمهور العربي واعياً بالمصالح العربية العليا في “اللحظة الأوكرانية”. لدينا مؤشرات ملموسة، يمكن قياسها علمياً، عن إبداء هذا الجمهور استنكاراً عارماً للحماسة الغربية إلى عَضْدِ نظام زيلينسكي.
لقد سَخَطَ جمهورنا القومي على دول الغرب، وسخر من مسارعتها إلى نصرة نظام أوليغارشي فاسد، يضحي بالشعب الأوكراني لتوسيع “حلف شمال الأطلسي” شرقاً. رَدَّ جمهورنا على مطالبة الإمبرياليين الغربيين للعرب بالإنخراط في “الحملة الصليبية” الأورو ـ أميركية ضد روسيا، بسؤالهم عن جرائم النظام الصهيوني في فلسطين، وعن مسؤوليتهم عن هذه الجرائم. هذا موقف يستدعي الإعتزاز والفخر.
مواطنون عرب كثراً، اتخذوا هذا الموقف بشكل تلقائي وعفوي. قالوه وتحدثوا به وكتبوه بكل صدق في كل وسائل التعبير المتاحة. صوت هذا الجمهور النبيل، رأيناه وسمعناه، من يومين، بلسان الشاب العربي المصري علي فرج، لاعب الإسكواش الذي توج بلقب بطولة “أوبتاسيا” في العاصمة البريطانية، لندن. وقف فرج يخاطب جمهور اللعبة، بكل جرأة، قائلاً : لم يكن مسموحاً لنا من قبل أن نخلط الرياضة بالسياسة، ولكن طالما صار مسموحاً الآن، أن نتحدث عن الحرب في أوكرانيا، فلنتحدث عن فلسطين التي يعاني شعبها من العدوان منذ 74 عاماً.
ضغوط الولايات المتحدة لحشد العرب في حرب توسع “حلف شمال الأطلسي” في أوكرانيا، شملت كافة الدول العربية. و”آخر خبر” عن هذه الضغوط هو توكيل الرئيس جو بايدن أو “جو النعسان” كلبه الوفي رئيس الوزراء الإنكليزي بوريس جونسون، زيارة السعودية والإمارات لتطويع كلتا الدولتين في مخطط تخريب الإستراتيجية الجيوطاقية لروسيا. وقد استبق هذا الإمبريالي العنصري القذر وصوله إلى أبو ظبي والرياض، بتصريحات وقحة لخصت بنود المخطط الذي جاء لتسويقه، إذ قال : “… إذا تمكن العالم من إنهاء اعتماده على النفط والغاز الروسيين، فيمكننا تجفيف مصادر (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين المالية وتدمير استراتيجيته وتقليص حجمه”.
جاء الإنكليزي العنصري إلى بلاد العرب ليسوقهم إلى أوكرانيا. جاء إليهم بعد أن فَشِلَ مبعوثو إدارة “جو النعسان” في “إغراء” حكومات فنزويلا وإيران، وكذلك الصين، بفوائد “التواطؤ” مع النظام الأميركي لتخريب الإستراتيجية الجيوطاقية لروسيا. هذه الحكومات المستقلة تعلم أن “اللحظة الأوكرانية” ستدفع بالولايات المتحدة الأميركية بقوة أكبر على طريق الأفول، بكونها أول قوة عظمى في العالم. حتى تعهد نظام بولسونارو اليميني الفاسد برفع إنتاج البرازيل النفطي، غير مضمون التنفيذ. لأن القوى اليسارية البرازيلية تتهيأ لاستعادة منصب رئيس الجمهورية في الصيف المقبل بعد الإنتخابات.
في هذه الظروف التاريخية التي يشهدها العالم، ماذا سيفعل العرب، لا سيما الرياض وأبو ظبي. كيف سيخوضون في امتحان تغير السياسة الدولية، انطلاقاً من أوكرانيا. هل يستمرون بالخضوع للإستبداد الأميركي أم يختارون السير في جنازة الغرب. هذه أسئلة مصيرية.
هيئة تحرير موقع الحقول
الخميس، 14 شعبان، 1443 الموافق 17 آذار، 2022