مستقبل “اتفاق بكين” بين السعودية وإيران ؟

مستقبل “اتفاق بكين” بين السعودية وإيران ؟

“قضاة الحديقة” داسوا تواقيع العرب والمسلمين على اتفاق “المحكمة الجنائية الدولية”؟
“شبكة حماية ضحايا الحرب” : كي لا تنجو اميركا من جرائمها بحق المدنيين في سوريا
تحدث عن إيران “بنفسٍ حربي” : هل يجهل الأمير محمد بن سلمان أم يتجاهل متغيرات النظام الدولي؟.

يوضح السعوديون إن “اتفاق العيبان ـ شمخاني” تم “بناء على رغبة مشتركة برعاية الصين من أجل عودة العلاقات بين السعودية وإيران إلى وضعها الطبيعي”. ولكي “ينهي البلدان سنوات من القطيعة أثرت على أمن واستقرار الإقليم”. وقد ضاعف قرار الرياض وطهران “استئناف العلاقات بينهما في سياق تحقيق أمن واستقرار وازدهار المنطقة ككل”، من حجم الآمال بإمكانية تعاون العرب والإيرانيين ولربما الأتراك، في صنع مستقبل هذه “المنطقة” التي تحتضن أوطانهم. لأن “الإتفاق” برز كمنعطف قوي في طريق سياسي ـ عسكري مزمن، انغمست السعودية في “أهواله” طيلة عقد كامل، مثلما انغمست فيه دول “الإقليمية الجديدة” وقواها.

والذي يتابع أحوال المملكة العربية السعودية على هذا “الطريق الوعر”، ويعاين ديناميات السياسة الداخلية التي تكونت خلال السنوات الأخيرة، في الإجتماع والإقتصاد والتعليم والإدارة والإعلام، وبالأساس في بنية السلطة السياسية، لن يفاجأ بـ”اتفاق بكين”. فهذه الديناميات التي تولدت من عوامل متنوعة، لم تكن تفاعلاتها لتضطرد، وتستوي على مقدار ضرورات نظام الحكم السعودي، إلا بإزالة “الثقالات التقليدية” عن ديناميات السياسة الخارجية. فجاء “الإتفاق” استجابة لهذه الضرورات، وتعبيراً عن رضى سعودي بـ”حقيقة واحدة : لا يحمي أمن السعودية إلا السعوديين بالحكمة والحسنى والتدبير والرشاد بينهم وبين أشقائهم وأصدقائهم الحقيقيين. وليبتعد الحلف الأنكلوساكسوني عن شبه الجزيرة العربية وبحر العرب”. وهذا هو التحول الأول الذي قاد إلى “اتفاق بكين”

إن هذه الديناميات الداخلية ـ الخارجية الحيوية التي يتأسس عليها مفهوم المصالح العليا السعودية، هي التي جعلت “الإتفاق السعودي ـ الإيراني” مطلوباً ومنتظراً. فكل ذي نظر كان يفهم “أن التصالح والتسوية [مع إيران] هما خياران استراتيجيان ضروريان، لتخفيف تبعية الأمن الوطني السعودي لمصالح الأمن القومي الأميركي”. إذ أن استمرار المملكة في هذه التبعية بذات الوتيرة التقليدية، بات يمثل تهديداً لكل الديناميات التنموية فيها ويمنع الدفاع عنها، في ظروف النظام الدولي الإنتقالي الراهن التي تهز العالم.

فمن دون “اتفاق بكين” وفتح باب التقارب مع دول “الإقليمية البديلة” وقواها، ما كان للسعودية أن تتلافى “هاوية اللايقين” التي انحدر إليها “الغرب الجماعي” حليف “إسرائيل”. إذ من المفترض أن تكون قيادتها قد واكبت، على الأقل منذ عام 2015، “اجتياح زخم التيار الأوراسي أنحاء مختلفة من العالم. [وأنها تابعت وقائع] الصدام بين الأوراسيين والأطلسيين [… التي كانت] تَغَيُّر هيكل نظام العلاقات الدولية. وتدفع محور القوة في النظام الدولي بعيداً من دول الغرب”.

وعندما يكتب السعوديون، بشفافية، أن بناء “الإتفاق” ارتكز على “الكثير من الواقعية السياسية التي استوعبت الملفات الشائكة ما بين الرياض وطهران”، إنما يكشفون عن مراجعة السعودية لمنظوراتها إلى الإقليم والعالم. بل ويؤكدون أنها أدركت أن “انهيار النظام العالمي (بحسب مناقشات “مؤتمر ميونيخ للأمن” 015) يعجل عمليات الهدم والبناء فيه”. لذلك، نرى أن هذا “الإتفاق” إنما يؤشر على أن وشائج “العلاقة الإستراتيجية” ما بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية  باتت في طور “الهدم والبناء”.

في هذه المراجعة من المفترض أن تكون السعودية قد شافت كيف استندت دول “الإقليمية البديلة” وقواها، ولم تزل تستند على “الصلابة الدولتية للجمهورية العربية السورية”، حتى تصد موجات “الحروب المزمنة” الأميركية (ـ “الإسرائيلية”) في الشام والعراق ولكي تضعف موقف واشنطن الإقليمي ـ الدولي. ولذلك، فإن بعض مقدمات “اتفاق العيبان ـ شمخاني”، كانت تبلورت منذ عام 2017، مع نجاح “محور المقاومة والإستقلال، اي روسيا ـ إيران ـ سوريا (والمقاومة اللبنانية والفلسطينية [والعراقية]) في الدفاع عن نفسه في سوريا بجدراة هائلة. دافع على الأرض السورية عن استقلاله وسيادته الوطنية [في موسكو و… بكين]”.

كان دفاع المحور في سوريا منذ ذلك العام، وقبله، قد “برهن أنه أحد الديناميات الرئيسية في النهوض الأوراسي العالمي. كل معركة خاضها الجيش العربي السوري وحلفائه، منذ عام 2011، كانت خطوة في تقويض المكانة العالمية للولايات المتحدة (ـ “إسرائيل). ولو كانت الولايات المتحدة الأميركية تملك أدوات ضغط وتخريب فعالة لما تأخرت في منع “اتفاق بكين”، ولحرمت المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية من نعمة تقاربهما. وهناك سوابق في العلاقات السعودية ـ الأميركية تبين ذلك.

إن ولادة “الإتفاق السعودي ـ الإيراني” كما مستقبله، لا تنفصل عن امتداد دول “الإقليمية الجديدة” وقواها المنتظمة في “محور المقاومة والإستقلال”، على كل القوس الجيوبوليتكي المترامي ما بين سواحل بلاد الشام إلى أقاصي روسيا والصين. لقد اكتسب هذا “المحور” معظم الأبعاد الإقليمية ـ العالمية لدوله وقواه، في غضون نحو عقدين من السنين. فمن عدوان “إسرائيل” على لبنان في تموز عام 2006، و”الإقليمية الجديدة” تتقدم مقابل انحلال وانحسار “الأقلمة الأميركية ـ “الإسرائيلية”.

وقراءة مستقبل “اتفاق العبيان ـ شمخاني” الذي رعته الصين، يجب ألا تعزله عن مشهد التحولات الجيوبوليتيكية  الكبرى. وعلى الذين غشيت أبصارهم عن رؤية هذا المشهد التاريخي أن يسألوا أنفسهم : أين منظومة “كامب ديفيد” ومصر تبني “الجمهورية الجديدة”. أين منظومة “التعاون الخليجي” وأهم دولها وهي المملكة العربية السعودية تُكسِّر باراديغم السياسة الداخلية والسياسة الخارجية التقليدي. أين “جامعة الدول العربية” التي تتحكم إمارة قطر بقراراتها المصيرية منذ عام 2011. ثم ما حال “دولة الجيش الذي (كان) لا يقهر”.

إن متانة “اتفاق العيبان ـ شمخاني” وحصانته لدى جهتيه، أي مستقبل “الإتفاق” وإمكانية تطبيقه أو إهماله على غرار ما أصاب اتفاقات سابقة، تنبثق من صميم العلاقة السعودية ـ الأميركية التي لم تعد “تضمن المصالح المشتركة” لطرفيها على ما كان شأنها في المراحل السالفة. بعدما باتت محكومة بمسار عملية البناء والهدم الجارية في النظام العالمي الأحادي القطب.

ووجود مجموعات مصالح سياسية وأيديولوجية في السعودية وإيران وما حولهما وما وراء البحار، تعتاش من العداوة الناشبة بينهما، لم يعد كافياً لتعطيل هذا “الإتفاق”. أولاً، لأنه يساهم بحدود معينة في تحقيق أهداف السياسة الداخلية ـ الخارجية لكلا البلدين المسلمين المتجاروين ومصالحهما. ثانياً، لأن العامل الرئيسي في تخريب العلاقات السعودية ـ الإيرانية، أي الولايات المتحدة (ـ “إسرائيل”) عالق في أنفاق أزمة عامة طاحنة.

هكذا بالضبط، لا يُقَيَّم مستقبل “الإتفاق” بمشاعر التفاؤل أو التشاؤم، بل بدور أزمة إمبريالية الولايات المتحدة في ولادته وفي ديمومته. وهناك اتفاقات عقدتها السعودية مع أطراف إقليمية ودولية لكي تنأى بنفسها عن هذه الأزمة الفتاكة. و”الإتفاق” مع طهران ينأى بها إلى أبعد. إضافة إلى ذلك، فإن “الإتفاق” يفتح “صفحة جديدة من العلاقات” السعودية ـ الإيرانية. كما يفسح سبل السعودية للخروج من “متاهة الحروب المزمنة”، التي وقعت فيها وسقطت في فخها وشرها. مع أن الولايات المتحدة الأميركية (ـ “إسرائيل”) هي التي باشرتها في سوريا واليمن ودول عربية متعددة.

ولإدراك ما في توقيع السعودية على “الإتفاق” مع إيران، من تحوط من الأزمة الأميركية وتحسب من أضرارها، وفرصٌ لنجاحه، نراجع استشرافاً متبصراً، صدر من نيويورك في أول عام 2021. وقد خمن صاحبه بأن “الولايات المتحدة ستكون في الأرجح بؤرة عالمية جديدة لانعدام الاستقرار السياسي والجيوسياسي في الأشهر والسنوات المقبلة“. وأضاف : “سيكون لزاما على حلفاء أميركا أن يتحوطوا في رهاناتهم [عليها …] في المستقبل. في حين سيستمر خصومها الاستراتيجيون في محاولة زعزعة استقرار الولايات المتحدة من خلال حرب غير متكافئة”.

ثم ينتهي صاحب هذا الإستشراف إلى القول : “يبدو أن العالم مقبل على رحلة وعرة طويلة وقبيحة”. إن تفاوض السعودية مع إيران وعقد “اتفاق بكين” معها في الإطار الثنائي وحسب، بعيداً عن “المجتمع الدولي” الغربي، يؤكد إدراكها لهذا الهبوط المتسارع في مكانة الولايات المتحدة في نظام العلاقات الدولية، وأنه قد جرى توجيه دفة السياسة الخارجية السعودية بما يكفل تلافي أضرار هذا الهبوط أو التخفيف منها.

يلفت صحفيون سعوديون، بحق، إلى أنه من بعد توقيع السعودية وإيران على “اتفاق بكين”، أمسى “من غير المناسب أن نفتح صفحة الماضي بكل سوءاتها، ونتحدث عن أسباب التوتر في المنطقة، ومن هي الدولة المسؤولة عنه”. لأن من واجبنا “أن ننظر إلى المستقبل بأمل كبير، وعلى أن هذه المصالحة ستكون الأخيرة في بناء أفضل العلاقات بين الدولتين، وبالتالي لا تعود إحدى الدولتين إلى تسخين الخلافات، وخلق ذرائع واهية لأسبابها”. لكن مع اقتناعنا بأنه “من غير المناسب فتح صفحة الماضي”، فإن لدينا كلمة قلناها في الماضي (أيلول 2018)، ونود لحرصنا على ترسيخ “الإتفاق” أن نكررها الآن :

أيها الأشقاء السعوديون. إنها مرحلة جديدة. اكملوا المعروف، إدعموا الحكومة السورية مباشرة. تصالحوا مع الرئيس بشار الأسد. أكملوا المعروف واصغوا إلى الحل السياسي في اليمن. الحرب استنزفتكم هناك. أوقفوها”.

 

هيئة تحرير موقع الحقول

‏‏‏الإثنين‏، 21‏ شعبان‏، 1444 الموافق ‏13‏ آذار‏، 2023

Please follow and like us:

COMMENTS