لست أدرى أين قرأت هذه العبارة الموحية (العلم طريقة قبل أن يكون حقيقة). وأكبر الظن أنىّ قرأتها كافتتاحية لكتاب أو كتيب أملاه علينا أستاذنا، فى منتصف الستينيات من القرن المنصرم (الدكتور سعيد النجار)، فلعلها من تأليفه الخاص، أو لعلها مأخوذة أو مقتبسة من عمل آخر. ويستطيع أن يصححنى فى ذلك الدكتور مصطفى الفقى، إن أراد، فهو بمثابة «العقل التوثيقى» لجيلنا الحائر حقا.
وقد فهمت آنئذ من تلكم العبارة، ولم أزلْ، أن الأهم فى ميزان الفكر المتصل بالعلم هو الإطار أو «الإهاب» المولّد والمؤطرّ للعلم، وليس مضمون العلم فى حد ذاته.
ذلك أن مضمون العلم يتحدد اجتماعيا، مجتمعيا بالأحرى، فإذا به يتحدد بالمسار الأساسى للتكوينات الاقتصادية ــ الاجتماعية، بالمعنى الواسع، وبالنظم الاقتصادية ــ الاجتماعية، ذات الجوهر «الطبقى»، بالمعنى الضيّق.
فإذا قيل إن العلم علمان، طبيعى واجتماعى، وأنه إن كان مضمون العلم – أو العلوم – الاجتماعية يتعين هكذا، من حيث مضمونه المحدّد، طبقيا، إن شئت، فإن «العلم الطبيعى» يتكون من خلال «المنطق الداخلى» للعلم، لا أكثر ولا أقل، كما هو الحال فى الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ونحوها، فإن قوانين الضغط والإزاحة، فى الفيزياء والكيمياء مثلا، أو قوانين «الوراثة» فى «علم الأحياء»، أو نحو ذلك، كلها ليست نتاجا محضا للتفاعلات الاجتماعية، وإنما لتفاعلات «المادة» موضوع العلم، بغير منازع.
إذا قيل كل ذلك عن المفارقة الجوهرية بين ماهية «الطبيعى» و«الاجتماعى»، فإن خلاصة الأمر أن من ألزم اللوازم فى البحث الفلسفى، التفرقة الجازمة بين العلم نفسه، ومنهج العلم. لذا نجد أنفسنا فى سياق البحث، غير ملزمين، ولا نحن بالضرورة ملتزمون، بما انتهى أو ينتهى إليه العلم، اجتماعيا كان أو طبيعيا، ولكنا نلزم أنفسنا، ونلتزم، بالمنهج، باعتباره سلسلة متسقة ومنظمة من الإجراءات المنظمة، والأدوات الفكرية، التى يتحتم اتباعها من أجل التوصل إلى نتائج يقينية أو «شبه يقينية» حول موضوعات البحث.
ولئن كان مضمون العلوم، على هذا النحو، محددا بما يسمى «الطلب الاجتماعى» على العلم، بما فيه الطبيعى نفسه، بل الطبيعى بالذات، فإن العلوم الحديثة كلها، فيما قد نرى، تظل بحاجة مستمرة للمراجعة المعمقة، لاستخلاص ما هو متغير، وفصله عمّا هو ثابت، ثباتا نسبيا على كل حال.
ومن ثم نجد، تطبيقا لما سبق، أن التكوين الاقتصادى ــ الاجتماعى القائم على النزعة «الانقسامية» بين الفئات الاجتماعية المختلفة، بانعكاساتها على السلطة والثقافة بوجه خاص، يقوم من ثم على «منطق الصراع»، بما فيه «الصراع الطبقى» بين المكونات المتباينة التى تنقسم إليها المنظومة الاجتماعية.
فلا تظنن إذن، أن كل ما يتكون منه العلم محايد اجتماعيا، ولكنه متحيز (حتى النخاع). والأعمق أكثر من ذلك دلالة أن العلم يولد محصلته العملية، وهذه ما تسمى «التكنولوجيا».
التكنولوجيا هنا معرفة باعتبارها بناءات المعرفة الموجهة للتطبيقات المحددة فى حياة الإنسان، عبر عصوره المختلفة، ومراحله المتتابعة. فذلك ما نجده، أو وجدناه، مثلا فى تكنولوجيات الطاقة (البخار، الكهرباء، الإلكترون). فهذه البناءات إنما هى مكونات متغيرة خضعت فى نشأتها وتطورها لمقتضيات «الطلب المجتمعى على العلم». وما هذا الطلب فى العصر الحديث والزمن المعاصر، إلا نبتة من نباتات «الرأسمالية» كتكوين اقتصادى ــ اجتماعى قائم على باعث الربحية الخاصة، ومنطق «العائد» أو «المردود». وخذ على سبيل المثال، وليس على مجرد التخصيص، ما نراه هذه الأيام من ثمرات ما يسمى «الثورة الرابعة» أو «الخامسة»، سواء أسميتها بالصناعية أو التكنولوجية، أو ربما غير ذلك.
إن الآلة المتطورة، المتعلمة، المدّربة على استخلاص نتائج التعلم، وإذكاء ناره، ونشرها أو بثّها على أنحاء المجتمع فى أنشطته الاقتصادية المختلفة، هى نتاج لذلك التكوين الربحى، وباعث العائد الطبقى لأصحاب ملكية رأس المال الكبير، بما فى ذلك، ما يسمى هذه الأيام بالذكاء الاصطناعى، كمنظومة فكرية ــ عملية محددة، موجهة لتحقيق نتائج اجتماعية معينة بلا ريب. ويصل الأمر إلى حدود العمل الراهن على تركيب شرائح ذكائية معينة داخل الجسم والمخ البشرى، محاكاة لإمكانيات الطبيعة اللانهائية، ولتتفوق الطبيعة الصماء على الإنسان الناطق، وتقوده إلى حيث تشاء تلك الطبيعة، وكيفما تشاء، وحتى تشاء فى آفاق الزمان والمكان. فهذا إذن ذكاء، منظومة ذكاء، مولّدة بالطلب الاجتماعى عليها من لدن قوى اجتماعية، وموجهة لتحقيق نتائج بعينها، على الأرض وفى عوالم الفضاء، سعيا إلى تكديس المزيد من الأرباح، وتركيم الثروات، و«تراكم رأس المال» إن شئت.
نلمس من كل ذلك سعى قوى رأس المال العالمى المعولم، وخاصة بالقيادة الغربية الراهنة، الأمريكية بوجه خاص، لإعادة صياغة الإنسان، حتى لا يكون إنسانا بحق وإنما «أوتوماتون» متعلم، يعلّم، ويخلق من أنظاره وأشباهه، نسخا مخلقة بغير حدود.
هذا العلم الذى أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن، علم متحيز فى حقيقته، اجتماعيا وطبقيا، فلا نرنو إليه بنظرات الإعجاب، وإنما نرمُقه بلمحات النقد الجارح، فنذمّه ولا نمدحه. كذلك الحال فى التكنولوجيا «المجسدة» و«غير المجسدة»، حيث لا نأخذها على محمل التقليد والمحاكاة، وإنما نسعى إلى تقديم بديل كامل لها، مأخوذ من وحى «التوجه الإنسانى» الرشيد، ليس لاصطناع إنسان جديد، طبيعى، فيزيائى الذكاء، ولكن «لبناء البشر»، كائنا متكاملا، من مادة وروح، قوامها «القيم» المعيارية الأصيلة. ديدننا فى ذلك كله، ليس محض العلم، ولا التكنولوجيا البحتة، ولكن اتباع المنهج التكاملى الرصين، المستقى من نظم المعرفة الناضجة، سعيا إلى «إنسان جديد» أرقى وأفضل، كأنه «سوبر مان» اجتماعى، أنفع لنفسه وللمحيط.
هو إذن «إنسان جديد»، وليس إنسانا يحل محل الإنسان. تقودنا القيم وليس الطبيعة الصماء، ومزاج تطورنا من تسنيم إعادة الروح، المرتفعة إلى الأعلى والعلاء.
ذلك إذن ما نرجوه حقّا، إنسان ليس بديلا للإنسان. علم إنسانى، و«تكنولوجيا إنسانية»، تغالب وتتغلب على النواقص الكائنة، وعلى الأمراض، وما تشيعه من دمار. ذلك منطق البناء المتراكم الخلاق، لابن آدم المعاد تكوينه آدميّا بارتقاء، نحو آفاق العُلا.
ولعله ينبع من ذلك أننا لا نسعى إلى مجرد «التحديث» Modernization ولكننا ينبغى أن نسعى إلى استئناف مسيرة التطور الحضارى، لأمتنا العربية، انطلاقا من ماضينا التليد، ذهابا إلى مستقبلنا المشرق فى كل مناحى الحياة.
وقد فهمت آنئذ من تلكم العبارة، ولم أزلْ، أن الأهم فى ميزان الفكر المتصل بالعلم هو الإطار أو «الإهاب» المولّد والمؤطرّ للعلم، وليس مضمون العلم فى حد ذاته.
ذلك أن مضمون العلم يتحدد اجتماعيا، مجتمعيا بالأحرى، فإذا به يتحدد بالمسار الأساسى للتكوينات الاقتصادية ــ الاجتماعية، بالمعنى الواسع، وبالنظم الاقتصادية ــ الاجتماعية، ذات الجوهر «الطبقى»، بالمعنى الضيّق.
فإذا قيل إن العلم علمان، طبيعى واجتماعى، وأنه إن كان مضمون العلم – أو العلوم – الاجتماعية يتعين هكذا، من حيث مضمونه المحدّد، طبقيا، إن شئت، فإن «العلم الطبيعى» يتكون من خلال «المنطق الداخلى» للعلم، لا أكثر ولا أقل، كما هو الحال فى الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ونحوها، فإن قوانين الضغط والإزاحة، فى الفيزياء والكيمياء مثلا، أو قوانين «الوراثة» فى «علم الأحياء»، أو نحو ذلك، كلها ليست نتاجا محضا للتفاعلات الاجتماعية، وإنما لتفاعلات «المادة» موضوع العلم، بغير منازع.
إذا قيل كل ذلك عن المفارقة الجوهرية بين ماهية «الطبيعى» و«الاجتماعى»، فإن خلاصة الأمر أن من ألزم اللوازم فى البحث الفلسفى، التفرقة الجازمة بين العلم نفسه، ومنهج العلم. لذا نجد أنفسنا فى سياق البحث، غير ملزمين، ولا نحن بالضرورة ملتزمون، بما انتهى أو ينتهى إليه العلم، اجتماعيا كان أو طبيعيا، ولكنا نلزم أنفسنا، ونلتزم، بالمنهج، باعتباره سلسلة متسقة ومنظمة من الإجراءات المنظمة، والأدوات الفكرية، التى يتحتم اتباعها من أجل التوصل إلى نتائج يقينية أو «شبه يقينية» حول موضوعات البحث.
ولئن كان مضمون العلوم، على هذا النحو، محددا بما يسمى «الطلب الاجتماعى» على العلم، بما فيه الطبيعى نفسه، بل الطبيعى بالذات، فإن العلوم الحديثة كلها، فيما قد نرى، تظل بحاجة مستمرة للمراجعة المعمقة، لاستخلاص ما هو متغير، وفصله عمّا هو ثابت، ثباتا نسبيا على كل حال.
ومن ثم نجد، تطبيقا لما سبق، أن التكوين الاقتصادى ــ الاجتماعى القائم على النزعة «الانقسامية» بين الفئات الاجتماعية المختلفة، بانعكاساتها على السلطة والثقافة بوجه خاص، يقوم من ثم على «منطق الصراع»، بما فيه «الصراع الطبقى» بين المكونات المتباينة التى تنقسم إليها المنظومة الاجتماعية.
فلا تظنن إذن، أن كل ما يتكون منه العلم محايد اجتماعيا، ولكنه متحيز (حتى النخاع). والأعمق أكثر من ذلك دلالة أن العلم يولد محصلته العملية، وهذه ما تسمى «التكنولوجيا».
التكنولوجيا هنا معرفة باعتبارها بناءات المعرفة الموجهة للتطبيقات المحددة فى حياة الإنسان، عبر عصوره المختلفة، ومراحله المتتابعة. فذلك ما نجده، أو وجدناه، مثلا فى تكنولوجيات الطاقة (البخار، الكهرباء، الإلكترون). فهذه البناءات إنما هى مكونات متغيرة خضعت فى نشأتها وتطورها لمقتضيات «الطلب المجتمعى على العلم». وما هذا الطلب فى العصر الحديث والزمن المعاصر، إلا نبتة من نباتات «الرأسمالية» كتكوين اقتصادى ــ اجتماعى قائم على باعث الربحية الخاصة، ومنطق «العائد» أو «المردود». وخذ على سبيل المثال، وليس على مجرد التخصيص، ما نراه هذه الأيام من ثمرات ما يسمى «الثورة الرابعة» أو «الخامسة»، سواء أسميتها بالصناعية أو التكنولوجية، أو ربما غير ذلك.
إن الآلة المتطورة، المتعلمة، المدّربة على استخلاص نتائج التعلم، وإذكاء ناره، ونشرها أو بثّها على أنحاء المجتمع فى أنشطته الاقتصادية المختلفة، هى نتاج لذلك التكوين الربحى، وباعث العائد الطبقى لأصحاب ملكية رأس المال الكبير، بما فى ذلك، ما يسمى هذه الأيام بالذكاء الاصطناعى، كمنظومة فكرية ــ عملية محددة، موجهة لتحقيق نتائج اجتماعية معينة بلا ريب. ويصل الأمر إلى حدود العمل الراهن على تركيب شرائح ذكائية معينة داخل الجسم والمخ البشرى، محاكاة لإمكانيات الطبيعة اللانهائية، ولتتفوق الطبيعة الصماء على الإنسان الناطق، وتقوده إلى حيث تشاء تلك الطبيعة، وكيفما تشاء، وحتى تشاء فى آفاق الزمان والمكان. فهذا إذن ذكاء، منظومة ذكاء، مولّدة بالطلب الاجتماعى عليها من لدن قوى اجتماعية، وموجهة لتحقيق نتائج بعينها، على الأرض وفى عوالم الفضاء، سعيا إلى تكديس المزيد من الأرباح، وتركيم الثروات، و«تراكم رأس المال» إن شئت.
نلمس من كل ذلك سعى قوى رأس المال العالمى المعولم، وخاصة بالقيادة الغربية الراهنة، الأمريكية بوجه خاص، لإعادة صياغة الإنسان، حتى لا يكون إنسانا بحق وإنما «أوتوماتون» متعلم، يعلّم، ويخلق من أنظاره وأشباهه، نسخا مخلقة بغير حدود.
هذا العلم الذى أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن، علم متحيز فى حقيقته، اجتماعيا وطبقيا، فلا نرنو إليه بنظرات الإعجاب، وإنما نرمُقه بلمحات النقد الجارح، فنذمّه ولا نمدحه. كذلك الحال فى التكنولوجيا «المجسدة» و«غير المجسدة»، حيث لا نأخذها على محمل التقليد والمحاكاة، وإنما نسعى إلى تقديم بديل كامل لها، مأخوذ من وحى «التوجه الإنسانى» الرشيد، ليس لاصطناع إنسان جديد، طبيعى، فيزيائى الذكاء، ولكن «لبناء البشر»، كائنا متكاملا، من مادة وروح، قوامها «القيم» المعيارية الأصيلة. ديدننا فى ذلك كله، ليس محض العلم، ولا التكنولوجيا البحتة، ولكن اتباع المنهج التكاملى الرصين، المستقى من نظم المعرفة الناضجة، سعيا إلى «إنسان جديد» أرقى وأفضل، كأنه «سوبر مان» اجتماعى، أنفع لنفسه وللمحيط.
هو إذن «إنسان جديد»، وليس إنسانا يحل محل الإنسان. تقودنا القيم وليس الطبيعة الصماء، ومزاج تطورنا من تسنيم إعادة الروح، المرتفعة إلى الأعلى والعلاء.
ذلك إذن ما نرجوه حقّا، إنسان ليس بديلا للإنسان. علم إنسانى، و«تكنولوجيا إنسانية»، تغالب وتتغلب على النواقص الكائنة، وعلى الأمراض، وما تشيعه من دمار. ذلك منطق البناء المتراكم الخلاق، لابن آدم المعاد تكوينه آدميّا بارتقاء، نحو آفاق العُلا.
ولعله ينبع من ذلك أننا لا نسعى إلى مجرد «التحديث» Modernization ولكننا ينبغى أن نسعى إلى استئناف مسيرة التطور الحضارى، لأمتنا العربية، انطلاقا من ماضينا التليد، ذهابا إلى مستقبلنا المشرق فى كل مناحى الحياة.
COMMENTS