حطت طائرة أميركية في مطار حامات شمال بيروت، يوم 6 آذار الماضي، قادمة من تل أبيب في “إسرائيل”. كانت الطائرة العسكرية محملة بأسلحة ومعدات متنوعة، مخصصة لتدريب إرهابيين سوريين وفلسطينيين، جُمعوا في “قواعد الجيش الأميركي” التي تم إنشاؤها في لبنان، من دون مساءلة سياسية أو دستورية أو إعلامية. وهذه المعلومات التي كشفتها مصادر ديبلوماسية عربية، تحيلنا إلى ضغوط “الإنتشار العسكري الأميركي” على مؤسسات الدفاع والأمن في لبنان.
أين “القواعد”؟
شيد الجيش الأميركي هذه “القواعد” في مواقع تخص الجيش اللبناني، وذلك ضمن برامج التعاون العسكري، والدعم المالي لرواتب الجنود والضباط، وقد غدت موضوعاً رئيسياً في أخبار الصحافة والإعلام. فـ”النهار”، وهي الصحيفة العريقة الموالية لواشنطن، إضطرت إلى التوقف إزاء هذا الموضوع من خلال مقالين لأحد “كتابها البارزين”، الصحافي سركيس نعوم. كان الأول، بعنوان متردد : “لبنان مستقبلاً قاعدة عسكرية فرنسية أو أميركية؟” (يوم 8 شباط 2021). وقد كشف فيه عن أن “رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون اعترض على تأكيد رغبة الولايات المتحدة في إقامة قاعدة عسكرية لها في لبنان بعد ترتيب أوضاع المنطقة أو في أثناءها”.
أما الثاني، فكان بعنوان استفهامي: “أميركا لا تريد قاعدة عسكرية في لبنان؟” (يوم 12 شباط 2021). وقد رد نعوم في هذا المقال على مقاله الأول، بعدما تلقى “اعتراضاً أميركياً” على المعلومات التي أوردها فيه. وأوضح أن “المتابع الأميركي” الذي نقل إليه “الإعتراض”، يتهم “الفرنسيين، بأنهم قد يكونوا راغبين في إقامة قاعدة عسكرية لهم في لبنان، لكنني [على ما قال “المتابع” لنعوم] لا أعتقد أن بلادي أي أميركا تريد قاعدةً كهذه لها على أرضه رغم رغبة قسم من اللبنانيين في ذلك واقتناعهم به”.
من المعتاد أن يكتم الجيش الأميركي أو ينفي أخبار تسلله إلى الدول الضعيفة، ولبنان إحداها، وألا يبوح عن تشييده قواعده على أراضيها خلسة، لأن ذلك يتناقض مع استراتيجية الحروب السرية التي تشنها واشنطن في هذه الدول. بيد أن “اللبنانيين لا يخفون سرّاً”.
فالمقال الذي كتبه الصحافي منير الربيع من “موقع المدن” الموالي لإمارة قطر (يوم 5 آب 2017)، أكد فيه بابتهاج وتفاؤل : “إن لبنان يعود الى الاهتمامات العسكرية الأميركية في عام 2017، إن لم نقل يتحول الى ما يشبه قاعدة عسكرية أميركية، بفعل الإنتشار العسكري الأميركي على أكثر من نقطة في لبنان”. وحسب الربيع فإن “المعلومات تفيد بوجود ضباط أميركيين في البقاع بمهمة مساعدة الجيش وتدريبه [ضد الإرهاب الذي كان متمركزاً في جرود مدينة عرسال وفي جبال القلمون الشرقية]”. ثم يسأل : “ما هو حجم الوجود الأميركي في لبنان؟”، ويجيب :
“تشير مصادر مطّلعة إلى وجود أميركي واسع في مطار حامات، أو ما كان يعرف باسم مطار بيار الجميل. وهو عبارة عن قاعدة عسكرية أميركية، وقاعدة للطائرات الحربية وتتلقّى إحداثياتها من غرفة العمليات الأميركية”. كما أن “هناك وجود أميركي في قاعدة عمشيت البحرية لتدريب أفواج المغاوير. ووفق المعلومات، هناك 200 خبير ومدرّب أميركي في تلك القاعدة”. ويضيف منير الربيع : “أما مطار رياق، فقد تحول إلى ما يشبه القاعدة العسكرية الأميركية، إذ إن بعض الطائرات الأميركية التي تنطلق نحو سوريا [لماذا!؟] تقلع منه. وتلفت المصادر إلى وجود خبراء عسكريين أميركيين في ذلك المطار، وقد أجروا العديد من التدريبات للجيش اللبناني”.
لا نعرف بدقة ما معنى “الوجود الأميركي الواسع” الذي يتحدث عنه الربيع. لكن معلومات مشرعين في مجلس النواب اللبناني، أضافت مطار بيروت الدولي ومقر وزارة الدفاع في اليرزة إلى نقاط انتشار الجنود الأميركيين. وذكّرت بمهام الرقابة الأمنية التي نفذها عسكريون أميركيون في مرفأ بيروت، من عام 2013 على الأقل، إلى يوم تفجير المرفأ في 4 آب 2020. وكان قد “أثار حفيظة اللبنانيين حديث تردد في سنوات أسبق، عن مشروع إقامة قاعدة عسكرية أميركية في مطار القليعات في سهل عكار شمال مدينة طرابلس”. ومن غير الواضح ما إذا كانت الدعوات التي صدرت في اليومين الأخيرين،لـ “إعادة تشغيل هذا المطار بأسرع ما يمكن”، تخفي محاولة لتحريك ذلك المشروع. وقد أجاب خبير عسكري رداً على سؤال : بـ”أنه حتى مواكب السفارة الأميركية الجوالة على مختلف المناطق، وخصوصاً في محافظات الجنوب وبعلبك ـ الهرمل، تحمل ـ برأيه ـ كل مواصفات القاعدة الأميركية المتحركة”!؟.
وظائف ومهام “القواعد”
إن إحدى مهام هذه “القواعد” هي إطلاق الطيران الحربي الأميركي للإغارة على أهداف [؟!] في سوريا، حسبما ورد آنفا، بشأن قاعدة رياق. لكن الصحافي بسام أبو زيد أكد في تقرير خاص أن لهذه “القواعد” وظيفة ترتبط “بما يختمر إقليمياً”. وأشار بالضبط إلى “مناورات التدريب الجوية الإسرائيلية في قبرص، [للتمرن] على القصف الجوي للمنشآت النووية في إيران” وكذلك ضد سوريا والمقاومة الوطنية في لبنان.
وذكَّر هذا الصحافي القريب من حزب “القوات” الموالي للأميركيين، بالمحاولة الحربية الفاشلة لإقامة قاعدة عسكرية أميركية على ساحل بيروت، أثناء الغزو “الإسرائيلي” للأراضي اللبنانية عام 1982. إلا أن أبو زيد لم يقل، ربما لأنه لا يعرف، أن تلك المحاولة الأميركية وكذلك الغزو “الإسرائيلي”، كانا بالتنسيق أو التواطؤ مع النظام السابق في العراق والنظام الهاشمي في الأردن، للإطباق على سوريا وإجبارها على الإستسلام أمام “إسرائيل”.
وكشف أبو زيد عن “تفتيش قام به ضباط أميركيون لقاعدة حامات” القريبة من بلدة البترون على الطريق الساحلية، للتأكد مما “إذا كان بالوسع استخدامها لإجلاء الرعايا الأميركيين في حالة حدوث تطورات عسكرية أو أمنية في لبنان”. ولفت إلى أن هذا التفتيش “دوري، ويشارك فيه عسكريون أوروبيون وأوستراليون”.
لكن جويل Cicchini / سيكشيني وريمي Herrera / هرّيرا يشككان في ذريعة “أمن المدنيين الأميركيين أو الغربيين” التي ذكرها أبو زيد. وقالا في البحث المعمق : “بعض الملاحظات حول القواعد العسكرية الأميركية وأفرادها في الخارج“، الذي كتباه قبل عقد من الزمان، إن “الإستيطان عبر توسيع القواعد العسكرية الأميركية في الخارج، منذ بدايته في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، مع صعود مصالح كبار الماليين [ونفوذهم في المجتمع السياسي في الولايات المتحدة]، خاصة مجموعتي [الرأسمال اليهودي] روكفلر ومورغان، كانت تجري تغطيته بالسبب المزعوم دائماً، هو نفسه تقريباً : حماية حياة ومصالح الأميركيين”. ونحن نميل إلى هذا الرأي.
كذلك، ثمة ضباطاً لبنانيين متقاعدين يعتقدون أن هذه “القواعد” لديها وظائف وأهداف أخرى، فرضتها “أهمية منطقة شرق البحر المتوسط والنفط والغاز المكتشف فيها”. وقالوا إن العثور على هذه الموارد واستثمارها، يقتضي توفير “وجود عسكري أميركي فيها، لإثبات القوة أمام مستثمرين آخرين مثل فرنسا أو تركيا أو حتى روسيا”. كذلك، “لطمأنة حلفاء واشنطن بأن الانسحاب الأميركي من أفغانستان لا يعني التخلي عن دعمهم”. وبالفعل، فإن القوى الغربية هي التي تسيطر حتى اللحظة على كل عمليات التنقيب عن النفط والغاز التي تجري في المياه الإقليمية اللبنانية.
ومثل هذا التفسير العسكري اللبناني، لأسباب انتشار “القواعد الأميركية” في لبنان، خصوصاً في قاعدة حامات على الساحل الشمالي أو في قاعدة رياق في البقاع الأوسط، بمحاذاة الحدود اللبنانية ـ السورية، يدل على أخطار هذه القواعد على لبنان وعلى سوريا أيضاً. لأنه ينظر إليها في سياق تخطيط أميركا لجعل لبنان وموارده من النفط والغاز، ميداناً أمنياً ـ عسكرياً لتحقيق مصالحها في الصراع الجيوطاقي/ Géonergétique الذي تخوضه في الإقليم والعالم. بل ربما يكون هذا الهدف الأميركي قد أضحى أكثر إلحاحاً بعد ظهور نتائج زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الصين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقية قصة الطائرة الأميركية التي جاءت من تل أبيب إلى بيروت
يثقل تضخم البنية العسكرية الأميركية على الأمن الإستراتيجي اللبناني، لأنها تشكل البنية التحتية للسياسة الخارجية لواشنطن. ويعني توسعها المتتابع أن الولايات المتحدة ماضية في زج لبنان بالنزاعات الإقليمية والدولية التي تديرها وتشارك فيها. إن وصول الطائرة الأميركية التي جلبت أسلحة ومعدات من “إسرائيل” إلى “مطار رفيق الحريري الدولي”، لتدريب إرهابيين فلسطينيين وسوريين في “القواعد الأميركية” على الأراضي اللبنانية، يحصل في إطار وثائق التحالفات العسكرية والأمنية والحربية بين الحكومة الأميركية وحكومة الكيان الصهيوني. وبالطبع، “من غير شور ولا دستور” لحكومة الرئيس ميقاتي.
لقد وزعت وكالات إخبارية غربية تقارير مفصلة عن تجنيد مقاتلين مرتزقة للقتال تحت علم نظام زيلينسكي في أوكرانيا. وجاء في هذه التقارير إن شركات خاصة أوروبية وأميركية تطلب جنود سابقين على استعداد للتوجه سرًا إلى أوكرانيا مقابل مبلغ جيد يصل إلى 2000 دولار (1523 جنيهًا إسترلينيًا) يومياً. ويتم الإعلان عن هذه “الوظائف” في مواقع متخصصة مثل موقع Silent Professionals، الذي يشرف عليه عملاء الإستخبارات الغربية المتقاعدون الذين يديرون شركات الصناعة العسكرية والأمنية الخاصة.
وهناك ازدهار كبير في سوق “استخراج وتصدير” المرتزقة إلى أوكرانيا الذي تقوم به تلك الشركات. وتبرهن الإعلانات في محركات البحث عن الوظائف، مثل موقع Adzuna المتعدد الجنسيات، أن الطلب مرتفع على الأيدي العاملة في قطاع الأمن. وقد يعزى ذلك إلى الخسائر البشرية المرتفعة التي منيت بها قوات نظام كييف. حيث أكدت صحيفة نيويورك تايمز نقلاً عن مسؤولين اميركيين، مقتل 70 ألفاً وجرح أكثر من 100 ألف من هذه القوات منذ شباط 2022.
تدعم الحكومات الغربية أجهزتها الإستخبارية بموازنات مالية كبيرة، لكي تنفق على عمليات تجنيد مرتزقة من أنحاء العالم، ضمن “الفوج الدولي التطوعي الذي يحارب لصالح أوكرانيا”. ولا تزال هذه الأجهزة تبحث عن مرتزقة في ما يسمى ـ “دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”، مثل سوريا وليبيا ومن مصر والمغرب ولبنان. ويعتبر استخدام المرتزقة في العمليات الحربية التي تشنها دول حلف شمال الأطلسي أمراً مألوفاً، حينما لا تنعدم ظروف التدخل العسكري المباشر.
وتقوم الإستخبارات الأوكرانية عبر سفاراتها في الأردن وبيروت وفي العراق وليبيا (عبر تونس)، وبمساعدة من الكنديين والأميركان والإنكليز، بالتفتيش عن العرب، لا سيما من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، ممن ولدوا أو أقاموا ودرسوا في مقاطعتي خيرسون وزاباروجيه، لتجنيدهم كمرتزقة ينفذون مهاماً أمنية واستخبارية لصالحها. وتنظم الدورات التدريبية لهولاء في “القواعد الأميركية” في لبنان، ويتم تزويدهم بجوازات مزيفة لتمكينهم من شن أعمال إرهابية في روسيا أو مناطق أخرى. وبالإضافة إلى الرواتب التي تعطى إليهم، تغدق الإستخبارات الأوكرانية والأطلسية على هؤلاء المرتزقة وعوداً بمنحهم حق الإقامة في قبرص واليونان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السفارة” : “قاعدة” أم مستوطنة
من المحتم أن تدرج أعمال تشييد السفارة الأميركية الجديدة في بيروت في كل بحث حول “القواعد الأميركية” في لبنان. وقد نبه تقرير الراديو البريطاني إلى أن “السفارة” هي التي “فتحت الأعين” على ما يجري فيها، مذ أن “نشرت عبر حسابها على تويتر صوراً تظهر تسارع أعمال البناء فيها، وتكشف حجم المباني ومساحة الأراضي المحيطة بها”. وقال التقرير إن “الصور الجديدة لمبنى السفارة الأميركية قيد الإنشاء في لبنان، أثارت جدلاً واسعاً وانقساماً فيه، حول الهدف من وجود مبنى بهذه الضخامة في بلاد الأرز”.
احتوى التقرير البريطاني على كل التعليقات المحبذة والمستنكرة التي كتبها عدد من الأشخاص، وفيهم نواب في البرلمان وموظفون في الحكومة. لكن اهتمام التقرير تركز على التعليقات التي نظرت إلى الصور، كدليل على تحول “السفارة” إلى “قاعدة للتجسس”. وقد نشر الصحفي أحمد علاء في “الشروق” المصرية خبراً محملاً بذات المعنى.
“لا يمكن فصل الوجود العسكري الأميركي في لبنان، عن مشروع بناء السفارة الأميركية الذي بدأ التحضير له” منذ عام 2017، حسبما كتب الصحافي منير الربيع، آنذاك. وقد وصفها، يومها، بدقة [ربما وفق خرائط فيليمة لمخططات البناء، عرضت عليه]، قائلاً : أنها ستكون “عبارة عن مبانٍ ضخمة تمتد على مساحة واسعة، ويتم بناؤها بيد عاملة أميركية، إذ يُمنع دخول عمال لبنانيين أو عرباً [إليها]. وهي عملياً أكبر من سفارة، لناحية الأبنية والتحصينات. وهناك من يعتبر أن تلك السفارة ستكون مراكز عسكرية وأمنية وغرف عمليات، ضمن الدور المستقبلي الأميركي في المنطقة”.
وتؤكد الصور التي نشرتها “السفارة”، أنه قد جرى، بالفعل، تنفيذ مخططات البناء التي أعلن عنها عام 2017. ولكن يصعب اختزال “السفارة” إلى “قاعدة تجسس، [وهي] التي تضم 90 ألف متر مربع من المباني المسقوفة و120 ألف متر مربع من المساحات المكشوفة”. إن مفهوم “قاعدة التجسس”، الذي يروج كثيراً، أضيق من تعريف النوايا الحقيقية لمصممي ومشيدي هذه المنطقة الحضرية / urban area الكبرى، الذين تكمن في خلفية عملهم، الوظائف الجديدة المناطة بـ”السفارة الأميركية” في بيروت. فالمساحة المبنية فيها، وهي 90 الف متر مربع، قد تتسع لسكن وإيواء عدة آلاف من الأشخاص المدنيين أو العسكريين. إذا أخذنا بالحسبان أن المعدل العالمي لمساحة الغرفة التي يحتاجها الشخص الواحد للسكن تتراوح حول 14 متر مربع.
توقف محمد كوثراني عند مسألة العمارة والسياسة، في نص متخصص منشور في جريدة الأخبار اليسارية (يوم 29 كانون الأول، 2021). وقد استعرض هذا المهندس المعماري جسامة الوظائف السياسة والعسكرية والديبلوماسية والأمنية والإجتماعية التي ستؤديها “السفارة الأميركية” في مبانيها الجديدة في عوكر، منبهاً من “هول الدور القادم لهذه السفارة”. وتبعاً لمعطيات كوثراني فإن “السفارة” الجديدة قد تكون هي “القاعدة الأميركية الأهم في لبنان”.
في هذه المساحة الشاسعة من المباني التي تحتلها السفارة، هناك أثرين جليين لا بد من التوقف عندهما.
الأول، هو الأثر الكولونيالي. إذ لا بد وأن المخططين لموقع السفارة على التلال المشرفة على العاصمة والمرفأ الكبير فيها، قد نظروا ملياً في طبيعة الجوار الطائفي لها. وذلك، جرياً على شاكلة الكولونياليين الفرنسيين يوم قرروا، بحسب المؤرخ اللبناني الراحل رغيد الصلح، أن يبنوا القاعدة العسكرية في بيروت بدلاً من طرابلس. لأنهم كانوا مقتنعين بأن “الجوار المسيحي” المحيط بها سيعزز أمنها المباشر. ولذلك، فإن يمكننا أن نتصور أن علاقة “موقع السفارة” بـ”جوار السفارة”، في ظل سياسات أميركية معينة، قد لا تخدم وحدة الشعب والأرض في لبنان.
الثاني، يتعلق بنظريات الحرب. فـ”القواعد العسكرية الأميركية” في لبنان واينما وجدت، هي، بحسب تعريف سيكشيني وهرّيرا، مستوطنات عسكرية، وهي جزء من تاريخ الإستيطان العسكري الذي يقوم الجيش الأميركي بنشرها في أرجاء العالم المختلفة، وكذلك حلفائه، وخاصة بريطانيا. أن إقامة مبانٍ لـ”السفارة الأميركية” بهذا الحجم الضخم من المساحات المبنية والمكشوفة يجعلها مستوطنة حصينة بكل معنى الكلمة، ولا بد أن تتناسب وظائفها وتتكامل مع أهداف الإنتشار العسكري الأميركي في لبنان. إن ظهور مستوطنة أميركية بهذه الضخامة يعيد التذكير بالتعريف البدائي للحرب بكونها هجرة مسلحة، ويسمح الموقع الجغرافي للسفارة ـ المستوطنة على الطريق الشمالي من بيروت إلى طرابلس، بأن تترابط مع القاعدة الأميركية الأخرى في حامات، على حساب العمق الدولتي اللبناني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“السفارة” النازحة …
يقول الخبراء بمورفولوجيا العمارة الديبلوماسية في العاصمة اللبنانية، أن مقر “السفارة الأميركية في لبنان” كان قائماً على شاطئ البحر، في حي عين المريسة، عند سور “الجامعة الأميركية في بيروت”. وقبل الحرب الأهلية اللبنانية الكبرى (1975 ـ 1989)، باشر الأميركيون بتشييد مقر جديد لـ”السفارة” يقع على شاطئ محلة الرملة البيضاء في بيروت. لكن اندلاع الحرب منعهم من إنجازه، وأجبرهم على النزوح إلى مناطق سيطرة الميليشيات اليمينية العميلة لـ”إسرائيل” في الضواحي الشرقية للعاصمة.
وبعد الغزو “الإسرائيلي” للبنان عام 1982، وتمركز قوات البحرية الأميركية ودول حلف شمال الأطلسي في بيروت، تم تسليم أمن بيروت وضواحيها إلى قيادة “الجيش الفئوي”، فنزحت “السفارة” مجدداً إلى مقرها السابق في عين المريسة. لكن “تفجير مبنى السفارة الأميركية في بيروت في 18 نيسان 1983″ في حي عين المريسة، حملها على النزوح مجدداً إلى الضواحي الشرقية حيث اختير المقر الجديد في تلال محلة عوكر. وعقب الهجوم المسلح الذي تعرضت له في أيلول عام 1984، أقفلت “السفارة” أبوابها في عوكر، ولم تفتح حتى أواخر عام 1990، بعد عام واحد على نهاية الحرب الأهلية.
ويقول هؤلاء الخبراء، إن الأميركيين كانوا يخططون لبناء مقر جديد لـ”السفارة” في ضواحي بيروت الجنوبية الشرقية، وبالذات في الأحياء الواقعة على عقدة الطرق ما بين بلدتي الحدث والحازمية بمحاذاة طريق بيروت ـ دمشق، على أكتاف الضاحية الجنوبية. وقد اشتروا مساحات كبيرة من الأراضي في هذه الأحياء، في عامي 2004 ـ 2005، ودفعوا تعويضات مالية إلى سكان بعض المباني هناك لإخلائها. ومن المحتمل أن تكون نتائج العدوان “الإسرائيلي” على لبنان في تموز عام 2006، هي التي عطلت هذا المشروع، وحملت الأميركيين على إبقاء “السفارة” في عوكر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القواعد الأميركية ما بين النفي و”الوعي”!؟
يعترف الأميركيون بأن “قسماً من اللبنانيين مقتنع بالمعلومات التي تشير إلى مكان القاعدة الأميركية في بلدة حامات على ساحل جبل لبنان الشمالي حيث لجيش لبنان قاعدة عسكرية مهمة”. وما يرسّخ اقتناع هؤلاء أمران: “الأول، بناء الولايات المتحدة سفارة لها في منطقة عوكر على الساحل المذكور، يرجّح كثيرون أن تكون ربما إحدى أضخم السفارات [الأميركية] في شرق [البحر] المتوسط”. و”الثاني تصرّفها في قاعدة حامات اللبنانية كأنها قاعدة أميركية أو بالأحرى مشتركة لبنانية ـ أميركية”.
ورغم هذه “القناعة”، تنفق الولايات المتحدة قدراً من أموال مواطنيها لصرف اهتمام اللبنانيين عن وجود “القواعد الأميركية” على تراب بلادهم. قناة التلفزيون الحكومي الأميركي المعروفة باسم قناة “الحرة”، اتهمت كتاب المقالات ومتداولي المعلومات عن “قاعدة عسكرية [أميركية] في لبنان”، بأنهم يوجهون “إهانة لذكاء القراء”. راجعوا ما نشرته هذه “القناة”، لتطلعوا على الأساليب الدعائية المكشوفة التي يعتمدها الإعلام الحكومي الأميركي، في حملة قمع النقاش العام بين المواطنين اللبنانيين حول تضخم الوجود العسكري الأميركي في مناطق مختلفة من وطنهم.
من السذاجة أن نتوقع امتناع الأركان الأميركية عن تمويه خطط تمركز وانتشار وتحركات وحداتها في لبنان وغير لبنان. مثلاً، يروي الصحفي جو بني / Penney في التحقيق الميداني الذي قام به، أن الإنتشار العسكري الأميركي في النيجر ظل مجهولاً، إلى أن وقعت أول “معركة” بين جنود القوات الخاصة النيجرية والأميركية وبين عشرات المسلحين الذين هاجموا قافلتهم في قرية “تونغو تونغو” صباح يوم 4 تشرين الأول / أكتوبر عام 2017. حينئذٍ، فوجىْ النيجريون بوجودهم. لم يكونوا على علم بأن الولايات المتحدة قد شيدت قاعدة ضخمة تتمركز فيها قوات عسكرية وطائرات حربية مسيرة/ Drones، وهي تنفذ عمليات حربية على أراضي بلادهم. إن لبنان ليس استثناء.
إن “إنتشار” الجيش الأميركي في لبنان يجلب أخطاراً ويحمل تهديدات لمصالحه. فهذا “الإنتشار” هدفه معالجة ضعف أميركا، وهو يعبر عن “الرؤى اليائسة التي تغلب على وعي نخبة الدولة الأميركية”، حالياً. إذ أنها تقر بـ”تراجع المكانة العالمية لأميركا”، لكنها في الوقت نفسه، تتشبث بوهم استعادة تلك “المكانة”، بالقوة، عبر خلق حالة من الإستقطاب التنابذي في نظام العلاقات الإقليمية ـ الدولية، إلى حد إلى التحالف مع بقايا النظام النازي الهتلري. ولذلك، لا بد أن يرجح البحث في شأن “القواعد الأميركية” في لبنان، فرضية استعداد “النخبة الأميركية” لتدمير الأمن العام والسلم المجتمعي في لبنان في أي وقت تراه مؤاتياً لمصالحها. كيف لا، وهي التي لم تتورع عن التضحية بوحدة أغلبية الشعب الأميركي ومصالحه، لخدمة ثراء وإسراف الأقلية “الأوليغارشيه” الحاكمة في أميركا.
هيئة تحرير موقع الحقول
الخميس، 21 ربيع الأول، 1445 الموافق 05 تشرين الأول، 2023،
آخر تحديث : 11:52
COMMENTS