في نهاية العام الفائت خلال مراسم تسليم الوزارة، تعهد وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي الجديد ميكي زوهر (الليكود) بوقف التمويل الحكومي للفنون التي وصفها بأنها “تشوه سمعة دولة إسرائيل، داخل إسرائيل وفي جميع أنحاء العالم”، موضحاً أنه سيرفض أي تمويل لأي جهة تروج لرواية “العدو”، وتضر بسمعة إسرائيل، وأنه لن يتم إنفاق أموال دافعي الضرائب على أشكال الفن والثقافة التي تروج لرواية ضد إسرائيل. وشدّد على أن الثقافة والفن يمثلان الإسرائيليين كشعب وكأمة، ولا يمكن السماح بـ “تقديم الإرهابيين كأبطال”.
لم تكن هذه مجرد وعود وتصريحات فارغة، حيث اتخذ زوهر مجموعة من الإجراءات التي من شأنها المساهمة في تنفيذ أمر استثناء الأعمال الفنية التي لا تتوافق مع حكاية إسرائيل كأمة وشعب وأيديولوجيا، وصورتها، التي بنظر زوهر، ليست محلاً للمساومة.
في شهر حزيران من العام الجاري قام زوهر بإقالة مجلس الأمناء الذي يشرف على الجوائز الأدبية التي تقدمها وزارة الثقافة والرياضة، وتقليص عدد الأعضاء فيه من تسعة أعضاء إلى خمسة، وقام بتعيين أعضاء المجلس الجديد. ويقوم مجلس الأمناء هذا باختيار وترشيح حُكّام مسابقات الجوائز الأدبية لوزارة الثقافة، وبتحديد آليات اختيار المرشحين واعتماد أسماء الفائزين بعد استلامها من لجنة التحكيم. ومن بين أعضاء المجلس الذي عينه زوهر محرر الملحق الأدبي في صحيفة “هآرتس“، بيني تسيفر، الذي رفض التعيين لاحقاً، والصحافية نافي درومي، والباحث اليميني غادي تاوب. ويُعرف الثلاثة بأنهم من أنصار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
وتعد الجوائز التي تقدمها وزارة الثقافة من بين المنح المالية الهامة التي تخصصها الحكومة الإسرائيلية لدعم الأدب الإسرائيلي، وهي تشمل جائزة رئيس الحكومة للأعمال الأدبية العبرية (المعروفة أيضاً باسم جائزة ليفي أشكول الأدبية)، وجائزة أفضل كتاب لأول مرة لهذا العام، وجوائز الترجمة، وجوائز أدب الأطفال والشباب وغيرها.
وفور تشكيل اللجنة أعلن نحو مئة كاتب وشاعر ومترجم ومحرر إسرائيلي أنهم لن يقدموا أعمالهم للجوائز الأدبية التي يقدمها وزير الثقافة والرياضة ميكي زوهر، احتجاجاً على التعيينات السياسية لمجلس الأمناء الذي سيرشح حكام الجوائز. كما أعلن العشرات من الأكاديميين والشخصيات الأدبية امتناعهم عن التحكيم في هذه الجوائز. وتم توقيع البيان المرسل إلى الصحافة من قبل كبار الكتاب والذين فاز العديد منهم بجوائز الوزارة في الماضي ومن بينهم حاييم بئير، درور مشعاني، تسرويا شاليف، أورلي كاستل بلوم، دوريت رابينيان ونوعا يدلين.
يعتقد المعترضون على التعيينات الجديدة أن الحكومة الحالية تحاول إسكات الأصوات المتنوعة في الأدب الإسرائيلي، وأنها لن تقبل بأي أعمال أدبية لا تتوافق مع رؤيتها الحالية، بحيث لن يتم النظر في الأعمال التي تتخذ موقفاً نقدياً أو التي تظهر أي تعاطف مع القضايا السياسية المحيطة، وهذا يختزل التجارب الأدبية بتجارب عامة وسطحية لا تتضمن المخاوف والتجارب الشخصية حول مستقبل إسرائيل في ظل الوضع السياسي والاجتماعي الراهن. هذا يعني أن الموضوعات التي تتطرق للاحتلال، أو للصراع السياسي في إسرائيل، أو مثلاً لتجربة الاحتجاجات المرافقة لـ”مشروع الإصلاح القضائي”، أو حتى الأدب ذا الطابع الديستوبي والذي يرى نهاية إسرائيل في استمرار أيديولوجية مشروعها السياسية، هي موضوعات لن تلقى استحسان ولا موافقة اللجنة، كما يمكن محاربتها واتهامها بالتحريض.
كما أن هذه الجوائز، التي تعد مصدراً أساسياً للدعم المالي ودلالة على الجودة في مختلف مجالات العمل الأدبي، أصبحت أداة في يد الحكومة الإسرائيلية التي تسعى لإسكات أي صوت نقدي معارض، بالإضافة إلى تسليم مصير الأدب الإسرائيلي لمجموعة من الحُكّام الذين لا يتمتعون بالمعرفة الأدبية المناسبة ولا بالخبرة التي تخولهم اختيار الفائزين في الجوائز.
لم يكن هذا الإجراء الوحيد الذي اتخذه وزير الثقافة والرياضة الحالي، ففي منتصف كانون الثاني من العام الجاري وبدعوة من جمعية “بتسيلمو”[1] اليمينية المتطرفة، بدأ زوهر بالتحقيق في مصادر تمويل فيلم وثائقي إسرائيلي عن الاحتلال في مدينة الخليل. ويتناول فيلم “مختبر الاحتلال H2” لعيديت أفراهامي ونوعم شيزاف علاقات القوة داخل مدينة الخليل تحت الاحتلال الإسرائيلي. وبالفعل، وبعد دعوة رئيس الجمعية شاي غليك الوزير زوهر لسحب تمويل إنتاج الفيلم بأثر رجعي، أطلق الأخير تحقيقاً في مصادر تمويل الفيلم، كما أكد على أن الأعمال التي تشوه إسرائيل لن تحصل على أي تمويل عام من الحكومة، وصرّح بأنه يسعى لوضع بروتوكول عمل يتطلب من الفنانين التوقيع على اتفاقية ولاء تنص على التزامهم بعدم تشويه صورة إسرائيل في أعمالهم التي تتلقى تمويلاً حكومياً. في الفترة ذاتها تعرض فيلم “طفلان في اليوم” للمخرج ديفد فاكسمان، الذي يتناول اعتقال الأطفال الفلسطينيين في الضفة الغربية، للهجوم واحتمالية إجبار مخرجه على إرجاع التمويل الحكومي للفيلم، حيث طلب زوهر من وزير المالية بتسلئيل سموتريتش التحقيق فيما إذا كان من الممكن استعادة أموال الدولة الممنوحة لهذا الفيلم بأثر رجعي.
قانون الولاء الثقافي وقانون النكبة
موضوع وضع بروتوكول اتفاقية “الولاء الثقافي” الذي ذكره زوهر في تصريحاته حول فيلم “مختبر الاحتلال” ليس بالموضوع الجديد. ففي العام 2018 وافقت الهيئة العامة للكنيست على مشروع “قانون الولاء الثقافي”[2] في القراءة الأولى. وهو مشروع قانون يسمح للحكومة الإسرائيلية بسحب التمويل من المنظمات أو الفعاليات التي تتناول أياً من المواضيع التي تشوه سمعة إسرائيل وهي: إنكار أن دولة إسرائيل هي دولة يهودية وديمقراطية؛ التحريض على العنصرية أو العنف أو الإرهاب؛ دعم الكفاح المسلح أو أعمال المقاومة ضد إسرائيل من قبل دولة معادية أو جماعة إرهابية؛ الاحتفال بيوم استقلال إسرائيل باعتباره يوم حداد؛ أو أي عمل يستهزئ بالعلم الإسرائيلي أو رموز الدولة الإسرائيلية. وبادرت وزيرة الثقافة والرياضة في حينه ميري ريغف إلى هذا التشريع، بحجة أن قانون النكبة (2011) لم يتم تطبيقه بالشكل المطلوب. وبحسب رأيها، فإن إسرائيل قد سمحت بإقامة عروض فنية ومهرجانات تكريم سينمائية “تمجد الإرهابيين ومؤيدي الإرهاب”، وإن حرية التعبير والإبداع لا يجب أن تترجم إلى حرية التحريض ومنح الامتيازات والمكافآت التشجيعية للذين يقوضون الوجود الإسرائيلي. وكان من شأن هذا القانون أن يسمح لوزير الثقافة بحجب التمويل العام عن المنظمات الثقافية التي تعمل ضد مبادئ الدولة الإسرائيلية.
فشل مشروع القانون هذا ولم يتم اعتماده، إلا أنه وفي مضمونه يتقاطع بشكل كبير مع تعديل عام 2011 لقانون الموازنات، والذي يُعرف باسم “قانون النكبة”.[3] يُخوّل “قانون النكبة” وزير المالية بسحب أموال الدولة من أي مؤسسة أو هيئة تحيي يوم استقلال إسرائيل أو يوم قيام الدولة الإسرائيلية كيوم حداد، أو التي تنكر وجود إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. بموجب هذا القانون، فإن أي مؤسسة تتلقى دعماً مالياً من الدولة الإسرائيلية وتمارس أنشطة، سواء أكانت أكاديمية أو سياسية أو فكرية أو ثقافية أو فنية، تنكر تعريف إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية أو تحتفل بيوم النكبة الفلسطينية كيوم حداد، يمكن أن يتم تخفيض تمويلها أو قطعه. كما يتضمن القانون قطع تمويل أي نشاط أو عمل ثقافي أو أكاديمي يدعم الكفاح المسلح والمقاومة الفلسطينية من طرف دولة “معادية” أو جمعية “إرهابية” ضد دولة إسرائيل، أو يتضمن أو يدعم أي فعل مادي أو رمزي يسيء لعلم الدولة الإسرائيلية ورموزها.
مشروع قانون جديد
في نهاية العام الفائت تم تقديم مشروع قانون يهدف إلى منع منح “جائزة إسرائيل”، والتي تُعتبر أعلى جائزة رسمية تُمنح في يوم ذكرى إقامة إسرائيل، لأي شخص يدعم حركات مقاطعة إسرائيل سواء على الصعيدين الدولي والمحلي.[4] يأتي هذا القانون عقب إعلان سحب “جائزة إسرائيل” للعام 2021 في مجال الرياضيات وعلم الحاسوب من البروفسور عوديد غولدرايخ بسبب مواقفه السياسية المناهضة للاحتلال ودعمه لحركة المقاطعة. ومع ذلك، قضت المحكمة الإسرائيلية العليا بمنحه الجائزة نظراً لعدم وجود قانون يمنع منحها إلى شخص يدعم مثل هذه الحركات. وكان تقرير سابق نُشر في “المشهد الإسرائيلي” بعنوان “”جائزة إسرائيل” لليمينيين فقط!”[5] استعرض التفاصيل والتحليلات السياسية المتعلقة بهذه الجائزة ومحاولة سحبها من غولدرايخ، وأشار إلى أن الغاية الأساسية من وراء “جائزة إسرائيل” تتمثل في تقديمها إلى أولئك الذين يبررون وجود وممارسات الدولة الإسرائيلية ويتفقون معها، بما في ذلك وجودها المرتبط بالعنف، ويحتفون به.
يبدو أن محاولات الحفاظ على صورة اسرائيل عبر القنوات الرسمية من قوانين وتشريعات لن تنتهي بمجرد فشل مشروع قانون في الوصول إلى القراءة النهائية. وتعبّر هذه المحاولات المستمرة عن القلق والانشغال الدائمين باحتكار الرواية الإسرائيلية وتوجيهها ودمجها بالنسخة الصهيونية الدارجة لكل مرحلة. وتبدو المرحلة الحالية أكثر تشبعاً بشعبوية اليمين مدعومة بجهود جمعيات ومنظمات اليمين الجديد، اللاعب البارز في السياسة العامة الإسرائيلية.
تسنيم القاضي
“المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية/مدار”
2 تشرين الأول/أوكتوبر، 2023
[1]لمزيد حول جمعية “بتسيلمو” ونشاطها في مجال التحريض ضد الإنتاجات الفنية والثقافية والفنية، أنظر/ي الموقع الرسمي للجمعية: https://btsalmo.org.il/
[2] للمزيد حول القانون والنقاشات التي دارت حوله، أنظر/ي: https://main.knesset.gov.il/en/news/pressreleases/pages/press611r.aspx
[3]للمزيد حول “قانون النكبة”، أنظر/ي: https://www.adalah.org/en/law/view/496
[4] للمزيد حول مشروع القانون، أنظر/ي: “مشروعا قانون لمنع منح “جائزة إسرائيل” لمن يدعم مقاطعة إسرائيل بسبب سياساتها”، قوانين قيد التشريع، مدار، 29 نيسان 2023، https://shorturl.at/cmtyS
[5] عصمت منصور، “”جائزة إسرائيل” لليمينيين فقط!”، المشهد الإسرائيلي، مدار، 26 نيسان 2021، https://shorturl.at/bgtM0.
COMMENTS