قاطرة التنمية المرتقبة.. و(الصغير جميل)!

قاطرة التنمية المرتقبة.. و(الصغير جميل)!

كمال الدين فخار ومشروع تفكيك الجزائر
مواجهة «التشيّع اللندني» والخطوة الأولى المطلوبة!
إميل لحود ماذا يتذكر… عن وقائع بدون "رتوش"؟

يبدو لنا، أننا أصبحنا مطالبين، إلى حدّ كبير، بإعادة النظر الجذرية فى كل ما تعودنا عليه حول مسارات النمو والتنمية، وسبل تحقيق التقدم التاريخى المنتظر فى الأجلين المتوسط والطويل.
فقد جرت العادة على أن ننظر إلى عملية التنمية، وما يتفرع عنها من نموّ، على أنها مرتبطة بإقامة «مشروعات» ضخمة، مرتفعة الإنفاق الرأسمالى، ومتقدمة التكنولوجيا بالضرورة، وأن هذه المشروعات تتوزع بين القطاعات المختلفة للاقتصاد الوطنى، ولا بأس أن تبدأ بأعمال البنية الأساسية والمرافق العامة، مثل الطرق والجسور ونظم الطاقة وبناء المدن.
وقد أسهمت الدراسات (الكلاسيكية) فى تراث الفكر التنموى فى تعميق هذه النظرة برغم ما بدا من عدم جدواها عبر الزمن.
وصحيح أنه قد سال حبر غزير، فى مراجعة شاملة لسجل الفكر التنموى، منذ سبعينيات أو ثمانينيات القرن المنصرم حتى الآن. ولكن ذلك اقتصر فيما يبدو على مراجعة «أحجام المشروعات» دون النظر الكافى لمحتواها الحقيقى. وكان للمنظمات الدولية، والاقتصادية منها بالأخص، دور كبير فى هذه النقلة الفكرية، التى سرعان ما تحولت للأسف، إلى مجرد (صرعة)، أى على سبيل ما يسمى (الموضة)..!
فقد تكرر الحديث متواترًا بدرجة عالية، حول تعدد أنماط حجوم المشروعات، فظهر مصطلح Micro Projects، وترجموها بالمشروعات «متناهية الصغر» تارة، أو «الصغرى» تارة أخرى. لكن لم يتغير المحتوى الحقيقى لهذه المشروعات التى ذُكر أنها تلك التى تشغل خمسة عمال فأقل وتمت مقارنتها أو مضاهاتها بالمشروعات الصغيرة Small والتى تشغل ما بين خمسة وخمسين عاملاً، ثم المشروعات المتوسطة فالكبيرة التى تشغل خمسمائة عامل فأكثر.
وبغض النظر عن الحجم، فلم يبذل جهد مناظر لتحديد نوعية النشاط الذى تعمل فيه تلك المشروعات جميعا، ولم تتم التفرقة الدقيقة بين ما تتضمنه هذه وتلك.
ولما أخذ يمرّ (الزمن) فى بلداننا (النامية) فى قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولم يتحقق شىء ذو بال من وراء النظرة إلى «أحجام المشروعات»، وخاصة الصغرى والصغيرة منها، فقد أخذ يبدو من الملحّ إلحاحًا شديدًا أن نعيد النظر حولها فى كل مناحيها تقريبًا.
فلقد باتت الظروف المتغيرة على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، فى مصر وسائر الوطن العربى، وعلى المستوى العربى ــ الإفريقى، تفرض علينا واجب الاجتهاد من أجل إعادة النظر الجذرية فى مسارات التنمية، وسبل تحقيقها، ومن ثم مآلاتها.
• • •
ويبدو لنا أنه من المحق فعلاً، إحداث تحول فكرى حول شكل وحجم الاستثمارات الرأسمالية، على أن يرتبط ذلك، بتحول مناظر فى ناحيتين:
​•​الناحية الأولى: أن نقلع عن التفكير فى مجرد إقامة مشروعات Enterprises، وأن نعاود النظر بإتجاه إقامة «صناعات»، ذات قلب مركزى معلوم، موجّه نحو «تشغيل العمالة»، ورفع الإنتاجية، وتغيير هيكل الاقتصاد.
​•​الناحية الثانية: بَعد التحول من «المشروعات» إلى «الصناعات»، أن يتم رسم (استراتيجية) للدور المنتظر من الصناعات تلك، الصغيرة والمتوسطة، مرتبطة على كل حال بالصغرى.
استراتيجية التحول المنتظرة، كقاطرة للتنمية المرتقبة تقوم، فيما نرى، على ثلاثة أعمدة أساسية:
العمود الأول: ربط الصناعات الصغيرة بالصناعات الكبيرة، إن وجدت، بطريقة محكمة، تضع فى الاعتبار تحقيق مرامى عملية التنمية فى المدى الزمنى المتوسط والبعيد. الأمر هنا إذن لا يتوقف على إقامة «مشروعات» أيا كانت، ولكن (صناعات) بالذات. إقامة المشروعات، وخاصة الكبيرة منها، تلك هى طريقة التفكير لدى (صندوق النقد الدولى، والبنك الدولى)، ومانحى القروض التجارية و«المساعدات التنموية الرسمية» من الدول الكبرى فى (الغرب) وشمال شرق آسيا (اليابان). أما نحن فنريد (الصناعة) ونحتاج إليها، على أن نفهم الصناعة فى سياق التطور المتسارع عالميا، ولكن فى الإطار ــ المجتمعى الملائم لنا من جميع الزاويا.
لن تقوم صناعاتنا الصغيرة والمتوسطة إذن على (الطرق والكبارى..!) رغم أهميتها، والمبانى الإنشائية الضخمة، ولا على المنتجعات وما إليها من قصور فارهة، ولكنها سوف، أو ينبغى أن، تتحور حول «تصنيع الزراعة» و«تمدين الأرياف»، وتوجيه (العمليات) الصناعية إلى إقامة سلاسل المنتجات السلعية والخدمية، الملبية للحاجات الأساسية، المادية والروحية لأغلبية المجتمع المسماة Vast Majority.
وهنا يأتى العمود الثانى: فى استراتيجية التحول التنموى المنتظر، ويقوم على تشغيل ما كان يسمّى «الأسر المنتجة» والعائلات الفقيرة، وجمهرة الأحياء الفقيرة والجماعات الغفيرة، فى أعمال إنتاجية ذات جدوى اقتصادية واجتماعية، بحيث تمزج بين «كثافة العمل» وتطور المحتوى العلمى ــ التكنولوجى للأعمال الصناعية. وتظهر لنا هنا أهمية ما يسمى «بالمشروعات الناشئة» أو «البادئة» Start-ups والتى يديرها وينظمها شباب واعون، حاملون لأحدث كلمة قالها العلم الرقمى والتكنولوجيا، فيما يسمى بأعمال البرمجة وما يتعلق بالعنصر الناعم Soft-ware. ولدينا فى مصر أعداد لا بأس بها من المشروعات هذه، والتى تقدم ناتج علمها الفكرى الناعم للشركات الكبرى فى الدول الصناعية، خاصة من الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، تحلّقا حول ثورة «السيليكون» والشرائح الدقيقة وتكنولوجيتها المشغّلة للأجهزة الإلكترونية كافّة.
ويمكن ربط هذه المشروعات الصناعية ــ التكنولوجية بالأسر المنتجة والعائلات الفقيرة والأحياء المكتظة والجمعات الغفيرة، بحيث تشكل حلقات مترابطة فى سلسلة التنمية الموعودة، خلايا إنتاجية حية مبثوثة فى كل ركن من أركان البلاد.
وهنا يأتى العمود الثالث: فى استراتيجية التحول التنموى، ونعنى ضرورة ربط الصناعات الصغيرة والمتوسطة بصناعة ذات بُعد تكنولوجى عميق، عبر ما يسمى بصناعة أدوات ومعدات الورش Machine-tools. ونذكر هنا معدات وآلات الخراطة، والفرز والتثقيب، والقطْع وما إليها، جزءا لا يتجزأ من إحداث الانتقال «النهضوى» فى مسيرة الصناعة والخدمات الصناعية، تلك الخدمات التى أصبحت تمثل أحدث صيحة لما يسمى بالاقتصاد الخدمى. وبالنتيجة: أنشطة إنتاجية حيّة، فى القرى والأحياء الحضرية الكثيفة، تمثل الأذرع الحيّة لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، التى يرتبط فيها التعميق التكنولوجى بتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ومن ثم القضاء على الفقر من دابره، عبر الزمن.
• • •
بذلك كله، فى الخلاصة، تكون التنمية عندنا ذات ساقين:
– الساق الأولى: ممدودة فى عمق المجتمع الحىّ لتلبية احتياجاته، والقضاء على الفقر، باستخدام العلم والتكنولوجيا، على المستويات كافة، بما فيها الأدوات الرقمية التى يتعلمها ويتقنها المشتغلون من الأذكياء فى كل بقعة.
– الساق الثانية: مشروعات كبرى للبنية الأساسية والطاقة والمدن الجديدة، حيث (يد تبنى ويد تحمل التكنولوجيا) فى رابطة تنموية لا تنفصم.
فهل أوفينا بالغرض..؟ نرجو ذلك. ولكن على أن نضيف (فذلكة) تنموية ذات بال حول ما يُطلَق عليه «الصغير جميل»..!
الصغير جميل ..!
ترجع هذه التسمية: «الصغير جميل»، إلى ذلك الكتاب البسيط لغويا ولكنه عالى القيمة فكريا، (لمؤلفه الألمانى الأشهر «مايكل شوماخر») ذلك الكتاب أو «الكتيب» الذى ملأ الدنيا وشغل الناس فى عالم بحوث التكنولوجيا فى ثمانينيات القرن المنصرم، بعنوان: Small is Beautiful.
فى تلك الأيام (الجميلة!)، كثر الحديث وتعمق حول قضية الاختيار التكنولوجى، كأحد الخيارات الأساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
كان الحديث يدور حول الثنائية المتضادة: التكنولوجيا المتقدمة/ مقابل التكنولوجيا الملائمة. وتواتر الكلام حول «الخلطة التكنولوجية» المناسبة للبلاد النامية، وكان ثمة نوع من التراضى الفكرى حول أهمية المشروعات الصناعية الصغيرة ذات العمق التكنولوجى المتوسط أو «الوسيط» كمدخل تنموى جديد. وأن هذه «المشروعات ــ الصناعات» لن تكون «متقدمة» تكنولوجيا بالضرورة، وفق المعايير العالمية السائدة، وإن كانت «ملائمة» للظروف والشروط الخاصة بالعالم الآخذ فى النمو بالذات.
واندمج هذا التيار التكنولوجى فى أتون الدعوة إلى إقامة (نظام اقتصادى عالمى جديد) خلال الثمانينيات، ومنذ السبعينيات، تحت شعارات مركزية، من قبيل: «إشباع الاحتياجات الأساسية للناس» و«الاعتماد على النفس»، جنبا إلى جنب مواجهة «التبعية» التجارية والمالية والتكنولوجية لعموم «العالم الثالث» إزاء دول الثالوث الرأسمالى المركزى فى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان.
كانت أيام..! قبل أن تهجم علينا صرعة «الليبرالية الجديدة» ووصايا «صندوق النقد الدولى» التى أخذت فى الانتشار مثل (النار فى الهشيم) منذ منتصف الثمانينيات لتعمّ وتتوسع فى التسعينيات ومطالع الألفية الجديدة.
ولقد تذكرت ذلك كله حين أخذت أقلّب الفكر مليّا حول المطروح علينا هذه الايام ؛ فجالت فى خاطرنا دعوة الداعى إلى مزج المدخل القائم على التمويل الخارجى للمشروعات العملاقة، بالمدخل القائم على الصناعات الصغرى والصغيرة والمتوسطة بتمويل محلى من باطن المدخرات القومية متعددة الروافد على كل حال.
وبذلك يمكن أن يستعاد المفهوم المتجدد لمقولة «الصغير جميل» فى إطار ظروفنا المتغيرة.

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية

 

Please follow and like us:

COMMENTS