طرح مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة عاموس هوكشتين، أخيراً، «تحويل الخط الأزرق إلى خط حدودي» بين لبنان وفلسطين يعني، ببساطة، مساً بالسيادة اللبنانية وقضماً لمزيد من الأراضي اللبنانية ضمن سياق مستمر منذ اتفاقية سايكس بيكو وصولاً إلى الخط الأزرق. وهو طرح جائر لا يراعي مواثيق ترسيم الحدود الدوليّة وتقنياتها ومبادئها، وإذا صحَّ أنه سيُعرض علينا، فلن يكون إلّا طرحاً لا يمكن القبول به
بوليه – نيو كمب ومقصّ الانتداب
كانت اتفاقية بوليه – نيو كمب بمثابة «ترسيم الحدود النهائيّة» بين الانتدابين الفرنسي على سوريا ولبنان، والبريطاني على فلسطين، وقد وُقّعت في 7 آذار 1923، وتضمّنت 71 نقطة بين حدود الانتدابين، من البحر المتوسط إلى بلدة الحمّة، وهي النقطة الثلاثية على الحدود السوريّة – الأردنيّة – الفلسطينيّة. وضعت خرائط هذه الاتفاقيّة 38 نقطة فصل بين لبنان وفلسطين من أصل مجمل النقاط، وسُمّيت (BP). تبدأ نقاط الفصل بين لبنان وفلسطين من رأس الناقورة على البحر الأبيض المتوسط غرباً بالنقطة الأولى (BP1)، وتنتهي شرقاً بالنقطة (BP38) التي رُكِّزَت على «تل الكرخ»، مقابل قرية المطلّة على بعد حوالي خمسة كيلومترات من منبع نهر الوزاني. وحُدِّدت نقاط الفصل بعلامات موصوفة ومرقّمة، وأُرفِقَت بخرائط لخط الحدود، وأُودعت الاتفاق لدى عُصبة الأمم، وصُدّقت كوثيقة دوليّة في 6 شباط 1924. هكذا أصبحت الحدود اللبنانية – الفلسطينية، وفق هذه الاتفاقية، تمتدّ من صخرة رأس الناقورة مروراً بالنقطة (BP1)، وتنتهي على الجسر الروماني القديم على نهر الوزاني، وكان طول الحدود بين لبنان وفلسطين التي جرى ترسيمها في بوليه – نيوكمب حوالي 82 كيلومتراً، وأُقيم 38 معلماً لتثبيت النقاط الرئيسيّة على طول الحدود، كل منها عبارة عن تلّ حجري ارتفاعه متر ونصف متر تقريباً، وتمّ وصل هذه النقاط بواسطة خطوط على الخرائط ليؤلِّف تتاليها خطّ الحدود بين لبنان وفلسطين.
في هذا الترسيم، اقتطع مقصّ بوليه – نيو كمب عن خريطة لبنان الكبير شريط القرى السبع وأخواتها الذي تبلغ مساحته حوالي 74 كيلومتراً مربعاً، وَضمَّه إلى فلسطين، ما أنتج تغييراً ديمغرافياً حظّرته صكوك الانتداب وإن بطريقة غير مباشرة.
اتفاقيّة الهدنة وخسارة الأمر الواقع
عند تأسيس الكيان الإسرائيلي، وعلى أثر حرب 1948، وقِّعَت في 23 آذار عام 1949 اتفاقيّة هدنة لبنانية – إسرائيلية، تنصّ في المادة الخامسة، الفقرة الأولى، على أن «خط الهدنة يَتبَع خطّ الحدود بين لبنان وفلسطين»، أي خطّ الحدود الدوليّة المنصوص عنها في اتفاقيّة عام 1923 (بوليه – نيوكمب). وأُرفِقَت اتفاقية الهدنة بخريطة ولائحة إحداثيّات تضم 143 نقطة حدوديّة على الشكل التالي:
– النقاط الـ 38 الأساسيّة التي وضعتها بوليه – نيوكمب، وترقيمها (BP).
– أُضيفت 105 نقاط وسيطة ومُساعدة، بين النقاط الأساسيّة لتحديد دقّة الخطّ، (96 نقطة ترقيمها B، و8 نقاط ترقيمها /BP، ونقطة واحدة ترقيمها /B7).
ولكن، في الواقع، لم يكن خط الهدنة مُطابقاً لحدود عام 1923، إذ اقتطع مساحات من أراض لبنانية في عدد من القرى والبلدات الجنوبيّة المحاذية للحدود وهي: كفركلا، العديسة، حولا، ميس الجبل، بليدا، عيترون، يارون ورميش، ما أدى إلى خسارة لبنان حوالي 16 كلم مربّعاً. وهذه الخسارة يبرّرها خبراء بأنها أخطاء تعود إلى الأمر الواقع الميداني على الأرض بعد المعارك والهدنة، أو بعدم دقة أجهزة القياس الطبوغرافي حينه، كما تُنسَب إلى عدم توخّي الدقة الشديدة في ترسيم خرائط اتفاقيّة بوليه – نيوكمب، والاعتماد على وصل النقاط بطريقة وصف المعالم التي تربُط بين النقاط الطبوغرافيّة. ولكن، في المحصّلة وقَعَت الخسارة على حساب لبنان، واعتُبر خط الهدنة مطابقاً لخطّ بوليه – نيوكمب، وكُل ترسيم لاحق بعد الهدنة أصبَحَ يعتمد على هذا الخط الذي يعتبره لبنان الرسمي حالياً معياراً للتحفّظ على الخطّ الأزرق، مع الإشارة إلى أن خط الهدنة يختلف عن الخطّ الأزرق، ويراقبه نحو 50 مراقباً دولياً من دول مختلفة منذ عام 1949، وهم منفصلون إدارياً عن «اليونيفل»، وتسميتهم (OGL/ Observation Group of Lebanon)، يتبعون لمنظمة (UNTSO)، ومركزها في القدس.
هدية لارسن الزرقاء
بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار 2000، حضر ممثل الأمين العام للأمم المتحدة تيري رود لارسن، متأبّطاً خريطة أُجريَت عليها لاحقاً تعديلات طفيفة سلّمها للبنان، ورُسم عليها خطٌّ باللون الأزرق بات يُعرَف بـ«خط لارسن» أو «الخطّ الأزرق». وأعلن الموفد الدولي في مؤتمر صحافي في بيروت أن الأمم المتحدة «تمكَّنَت بفريقها التقني السياسي العامل في لبنان، وبعد اتصالات مكثّفة مع الفرقاء المعنيين في المنطقة، في لبنان وسوريا وإسرائيل، من تحديد خط انسحاب القوات الإسرائيلية، وأن قرارات الأمم المتحدة ستلتزم بهذا الخط وتعتمده للتأكد من إتمام إسرائيل انسحابها، وسيكون هذا الخط المرجع الوحيد المُعتَمَد من الأمم المتحدة للقول باتمام الانسحاب».
اعترفت الدولة اللبنانيّة بالخط الأزرق كخط انسحاب لجيش العدو الإسرائيلي وليس كخط حدود دولية، ووضعت تحفّظات عن بعض المناطق حيث يختلف عن خطّ الهدنة. وكان عدد هذه التحفّظات عام 2000 ثلاثة، في رميش والعديسة والوزاني. ولكن، بعد حرب تمّوز 2006 على لبنان وإعادة التدقيق في خط الانسحاب من الجيش اللبناني، والاستحصال على خرائط الخط الأزرق الرقميّة من الأمم المتحدة، تمّ التحفّظ، على 10 مناطق إضافية لتصبح نقاط التحفظ 13، وهي من الغرب إلى الشرق: رأس الناقورة، 3 تحفظات في علما الشعب، البستان، مروحين، رميش، يارون- مارون الرأس، بليدا، ميس الجبل، العديسة، العديسة – كفركلا، المطلّة – الوزاني.
إشكاليّات الخطّ الأزرق
تنقسم إشكاليات الخطّ الأزرق إلى ثلاث مجموعات وهي: مجموعة المناطق المُتَحفّظ عليها (المناطق اللبنانيّة المُحتلّة)، ومجموعة الخروقات الدائمة للخطّ الأزرق، ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا (الحدود اللبنانيّة – السوريّة).
المجموعة الأولى (المناطق اللبنانيّة المُحتلّة)، هي مساحات من الأراضي اللبنانيّة الواقعة بين خط الحدود الدولية (خط الهدنة) وخط الانسحاب (الخط الأزرق) وعددها (13) منطقة تَبلُغ مساحتها 487,485 متراً مربعاً. (انظر الرسم 1). وفي 7 آذار 2018، أقرّ المجلس الأعلى للدفاع في جلسة عُقِدَت برئاسة رئيس الجمهورية استبدال تسمية «النقاط المُتحفّظ عليها» بتسمية «الأراضي اللبنانيّة المحتلّة».
المجموعة الثانية هي مناطق لبنانيّة يحتلّها العدو الإسرائيلي لجهة لبنان خارج الخطّ الأزرق الذي رسّمته الأمم المتحدة ويَخرقها بإحاطتها بسياج تقني، وعددها (18) خرقاً دائماً. (انظر الرسم 2).
وبالتالي، يبلغ مجموع مساحات الخرق الدائم على الحدود بين لبنان وفلسطين حوالي 17،084.16 متراً مربعاً. وإذا أُضيف خرق الغجر – الماري على الحدود مع الجولان المحتل إليها، يُصبح مجموع مساحات الخروقات الدائمة حوالي 736،526.28 متراً مربعاً.
أما مجموع المساحات المحتلّة من قبل العدو الإسرائيلي على حدود لبنان الجنوبيّة (من دون مزارع شبعا)، فيبلغ وفق اعتماد معيار خط الهدنة خطاً للحدود الدوليّة حوالي 1222،013 متراً مربعاً (انظر الجدول).
طروحات جائرة
تقلّصت حدود لبنان مع فلسطين منذ اتفاقية سايكس – بيكو حتى الخطّ الأزرق بمساحاتٍ شاسعة، وخسِرَ لبنان مياه بحيرة طبريا وأراضي سهل الحولة وبحيرته، فسُمّيت خسارة «سايكس – بيكو»، ثم خسر شريط القرى السبع وأخواتها، فسُميت «خسارة القرى السبع»، وبعدها خسر أطراف ومشاعات قرى فسُميت «خسارة خطّ الهدنة»، وفي كلّ مرة تكون الخسارة تحت تسميات مختلفة واتفاقيّات مُجحفة، وحلول وسط جائرة.
فاذا كان الحل الوسط هو التضحية بحقّ أملاً بالاحتفاظ بآخر، سننتهي بخسارة كليهما على حد سواء. لهذا لا يجوز تكرّار أخطاء ما سبق ولا الموافقة على حلٍّ وسط باعتماد الخطّ الأزرق حدوداً دوليّة، فما هو إلّا خط للتحقّق من انسحاب العدو الإسرائيلي لا غير، وإذا كانت هناك من تسوية فيجب أن يكون خطّ الهدنة هو الحلّ الوسط، إذ لا يجوز أن نراكم عدد الأخطاء والخسارات لكي لا تسميها الأجيال القادمة – عندما ستفاوض على خطٍّ مُجحفٍ آخر، «خسارة خطّ لارسن».
خليل الجميل، عميد ركن متقاعد، الملحق العسكري السابق لدى جمهوريّة قبرص، خبير في ترسيم الحدود البحريّة والبريّة.
COMMENTS