يوم الجمعة، المُصلون يخرجون من جامع في بيروت لم يُنجز عُمرانه بعد، ما زال قيد الإنشاء، في العادة يفترشون الباحة الأمامية المقابلة للبناء، التي كُتب على مدخلها اسم الجامع والذي يعود لأحد الأئمة الأربعة. في الشارع الخلفي للجامع ارتفعت اكوام النفايات، وسُدّت الطريق على السيارات كما على عابري السبيل وغرقت المستوعبات الخضراء الصدئة، تحت وابل الأكياس المربوطة أو المتروكة على غاربها، تلفظ ما في داخلها نحو الاسفلت.
انه اضراب عمال التنظيفات منذ ثلاثة ايام والمدينة تضج بروائح نفاياتها.
يخرجون متلاطمين، في مشهد يشبه الى حد بعيد، خروج التلامذة الى الملعب، فرصة الساعة العاشرة، لا اعلم اذا ما كان هذا التوقيت لا يزال معمولا به في المدارس حتى اليوم.
هُنا، يمشون في الشارع المحاذي للجامع كأنه ملعبهم، شارع حيث يصعب على السيارات عبوره كما على المشاة من غير المُصلّين، لا سيما النسوة المنتظرات حتى انتهاء توافد مُصلي يوم الجمعة. على وجوههم علامات الخلاص من الفرض الاسبوعي، مبتهجين، يتنفسون الصعداء ويتفرقون، كل في طريقه نحو المنزل، انه وقت الغداء، بعضهم يتوقف عند الملحمة في زاوية الشارع، يأخذ معه الكبة النيئة، وآخرون يتوقفون عند الخضري “يفاصلونه” على اسعار الفاكهة، يحملونها معهم الى عائلاتهم. والفقير منهم يكتفي بلفة خبز وقنينة المشروب الغازي الأمريكي المفضّل لدى اهل بيروت ولدى العمال السوريين في ايامنا هذه.
نزولا باتجاه السراي الحكومي السابق، فرُغ الجامع المقابل له من المصلين، الا بضعة من الشبان المرتدين للملاءات البيضاء، الراخين لِحاهم، يخدمون شيخهم الذي ما لبث في الداخل يتابع امور الارامل ويوزع “الحسنات”، بما اوتي من اموال مغفولة المصدر او حصص من الأغذية تبّرع بها احد “المحسنين الكبار”، اما من داخل البلاد او خارجها.
ثلة من النسوة، يقفن خارج مبنى الجامع، كل منهن تدخل بدورها الى حضرة الشيخ، طبعا بإشارة من شاب يعمل في خدمته، تدخل امرأة تجاوزت الخمسين من العمر، لا يطول بها المقام عند الشيخ المحسن، فتخرج كالخائبة تحمل كيسا من النايلون الأسود في داخله: كيلو من الارز وكيلو من السكر وكيلو من العدس وكيس شاي لا يتجاوز الاوقية وعلبة من البسكويت صناعة تركية.
شابة تتوارى وراء النسوة، المنتشرات، المنتظرات في الخارج، تفضل ان تظفر باللقاء الاخير مع شيخ الجامع، من الاعلى، ترتدي حجابا اخضرا لماعا، ومن الاسفل حذاء بكعب عال، يختفي لونه تحت تنورتها الطويلة، لباسها غير متناسق على جسد جميل، رموشها كثيفة وكحلتها السوداء زادت من الق عينيها.
ها هي امرأة في العقد الثالث تخرج من باب الجامع الموارب، بعد ان طال بها المقام قليلا، تطل عليهن بمكياجها الرخيص وحجابها البالي الالوان، وحذائها المتسخ، وعباءتها السوداء المغبرة والفضفاضة. تبتسم لقريبتها المنتظرة علامة تقول بأنها ظفرت بورقة نقدية. النسوة هنا يفضلن “الكاش” على المؤن.
انتهت المقابلات، وبقيت ذات الحجاب الاخضر اللماع ترسل ابتسامتها لخادم الشيخ الى ان اشار اليها بالدخول، فلملمت نفسها ودخلت مسرعة، وخادم الشيخ لم ينس ان يغلق الباب خلفها قليلا، وهو ينتظر من حوله ريبة مما يفعله. طال بها المقام، زائرة مختلفة عمن سبقنها من نساء، عفوا، طالبة حسنة من نوع آخر والشيخ نيّته سليمة ولا يعرف سوى الحلال. يخاف غضب لله عليه يوم القيامة حيث لا ينفعه مال ولا بنون، صحيح انه متزوج ولديه ثلاثة نسوة، لكنه ارادها الرابعة، وهو لا يأتي بمنكر فقد أُجيز له.
سألها: “هل انت طاهرة اليوم حتى اكتب عليك؟” احمرّت وجنتاها، وأرخت رأسها خجلا، ففهم الشيخ الفطين فقال لها: بسيطة، يوم الجمعة “الجاي” (القادم) تأتين إليّ بعد الصلاة ومعك هويتك ونتمّم الامر”. لم تُجبه الا بموافقة من رأسها وبسمة فاترة.
خرجت منفرجة الشفاه، تُخبّىء شيئا في جيب تنورتها الطويلة، كانها ورقة المائة الالف الخضراء، دفعة واحدة، وتتأبط كيسا كرتونيا فيه زجاجة عطر وعباءة زهرية ومنديلا مناسبا من الزهر الفاتح جدا.
لم أنتبه الى امرأة في العقد السادس من العمر، في يدها المحمول “الموبايل”، تنتظرها في الزاوية الملاصقة للحديقة العامة، وعندما وصلت اليها، ضحكت بصوت مسموع، ناظرة خلفها، متحسبة ان تكون في مرمى عيون خادم الشيخ ويرى فعلتها. نهرتها المرأة الهرمة ولكزتها بكوعها : امشِ ندخل الحديقة، نسولف هناك.
كانت السماء مُتعكرة بفعل غيمات تشرينية، والهواء يحمل الينا برودة الخريف في مدينة لم تعد تشبه نفسها، في مدينة تشعرنا بالغربة في كل يوم، في مدينة تتخلى عنا.
دخلتا الحديقة، اعمال فنية جميلة تُطالعك وقد رُصفت في اماكن متفرقة من الحديقة، وخيمة صُنعت من اوراق الجرائد، يا لها من فكرة في زمن، تستجدي فيه الصحيفة قراءها بعدم التخلي عنها! هذا عمل فني من وحي الواقع.
رف من النسوة السوريات يدخلن الحديقة، غير آبهات بالاعمال الفنية، يحملن هواتفهن المغلفة بأغطية براقة تلمع تحت شمس تشرين الخجولة. تشحط خلفهن فساتين طويلة ملونة او عباءات سوداء ويتضاحكن مسرورات بلقاء بعضهن بعيدا عن الحرب في بلادهن القريبة البعيدة ويتسرب من ايديهن اولادهن باتجاه مرجة الالعاب، اما من كان طفلا في العربة المجرورة، فهو سيبقى في مكانه وعلى مسكة عربته اكياس البزر والعصير والبسكويت لتزجية الوقت.
اتخذتا ركنا في الزاوية الشمالية بعيدا عن الجامع. فاجأتها بسؤالها: “هل سيكون لك مسكناً؟”. ضحكت كالمعتوهة وهي تميل بجزئها الاعلى من جسدها نحو المرأة الهرمة بحركة دلع واجابت: “ما ادري، الجمعة الجاي حيكتب عليّ”.
مرّت امرأة عجوز بجانبهما، تحمل قنينة ماء صغيرة وكيس اسود، فنظرت ناحيتهما متفاجئة: “أأنتما هنا”، ضحك الجميع وألقت العجوز بجسدها المثقل بالسنين، الى جانبهما. ودار حديث غير مسموع تنتابه الضحكات بين جملة وجملة. فتحت العجوز كيسها واخرجت خسّة وهبها اياها الخضري، قصفت الاوراق وقدمتها الى جليستيها واخذت تلوك بدورها ورقة بعد ان نفضتها.
فتاة في العاشرة من عمرها تمر بصحبة امها بالقرب منهن، فتنزلق قدمها وتقع ارضا، يصرخن جميعهن: الله الله، الله يحرسك، تساعدها الام على النهوض، وتُناولها العجوز قنينة الماء: “الله يسمي على قلبك، صابوها بالعين”، يوسّعن في المكان كي يُجلسن الام وابنتها التي انزلقت للتو بسبب حذائها الاسود اللمّاع غير المناسب لارتياد الحديقة.
نظرت المرأة التي جاءت برفقة الشابة التي كانت عند الشيخ، نحو الفتاة الصغيرة، بفستانها الأسود القصير يتوسطه رفرافان على الخصر من ناحية اليمين ومن ناحية الشمال، وتحته “كولون” نايلون اسود مشبّك. ملابس هذه الطفلة شبيهة او مقتبسة عن “موضة” ملابس فتاة ناضجة. لباس في تفصيله الكثير من الاغواء. توجهت المرأة الى ام الطفلة وسألتها بلؤم: “تريدين تجوزيها؟”. فدُهشت الام واجابت ببراءة: “بعدها صغيرة”. فردت عليها بجرعة لؤم إضافية: “ترى هاللبس ما يجيب غير الفحولة”. صُعقت الام: “من لهجتك مبينة سورية. نحنا مش متل عندكن، ما عنا هالشي، ما منجوز البنت صغيرة”. اجابتها: “اي والله، انا كل بناتي تجوزوا بعمرها يعني اكبر شوي، من عندكن، اكبر وحدة ما يجي عمرها 17 سنة”.
ارتبكت المرأة البيروتية وعلّقت:” شكلو ما رح تتركو لبنات البلد عرسان” وضحكت واقفة على قدميها، مادّة يدها الى ابنتها ان تقوم لمتابعة النزهة.
هُنا شلة من الرجال العجائز يدخنون ويلعبون الورق ويتصايحون بين فينة واخرى. شابان يتمشيان، مُتأنقان بشكل مضحك، فيه الكثير من التأخر عن “الموضة”، يبحثان عن نصيبهما من الجنس الآخر. اطفال يلهون بأصوات مسموعة وطفلة صغيرة ترتدي بنطالا تحت فستانها، تقول لأخيها الاصغر: “ما تروح لبعيد بيخطفوك” وام تقصقص البزر الابيض تنده من بعيد: اسمع كلمة اختك”. نسوة توزعن على المقاعد الخشبية وفي ايديهن سجائر دخانها يتصاعد، كأنهن في اعلان تجاري عن التدخين. اناس يمارسون الرياضة ويتابعون اعمالهم عبر الهاتف او يثرثرون مع اصدقاء.
امرأة تدخل توزّع الابتسامات على حراس الحديقة، ماشية بتأن اذ من خلفها يمشي ردفيها، وفيهما الطُعم، علّها اليوم تظفر بصيد ذكري ثمين. امرأة تُمارس هواية المشي السريع على وقع الاغاني، تضع نظارتيها الشمسيتان الكبيرتا الحجم على عينيها والسماعات الكبيرة الحجم ايضا على اذنيها، ترافق الاغنية بصوتها كأنها تعيش في عالم “الكارا أوكيه”.
اصوات عجلات الاطفال وكلمات من محادثات هاتفية طويلة تُسمع من هنا ومن هناك وضحكات النسوة المنفلتة، تحيات تُلقى على حين غرة بين اناس تعودوا اللقاء في ارجاء الحديقة ، وصراخ العجائز لاعبي الورق، كل ذلك على وقع اصوات البنائين وآلاتهم التي تصدر الضجيج في الجهة المقابلة للحديقة.
آذان العصر يرتفع وترتفع معه اعداد المتنزهين. انها حديقة المُشاهدات الحيّة في بيروت التي تمضي الى الموت بإرادة شعب لم يعد يريد شيئا، ليس فقط يوم الجمعة بل كل الايام. فهو في كل يوم ينتظر عودة الكهرباء بعد انقطاع ويعبّىء المياه من الصهاريج الناشطة تجارتها منذ سنين. ويرتاد شارعا آخر اذا ما تكومت النفايات في شارع حيّه، وهو يتبادل النكات يوم انتخاب الرئيس ويحتفل ليلا بتحقيق حلم عمره 26 سنة وتنصيب زعيمه رئيسا للبلاد، ويطلق الالعاب النارية بتكليف زعيمه رئيسا لتشكيل الوزارة، ويسير في مواكب الفرح في طرقات المدينة التي تحتضر: في بيروت.
نجوى زيدان، كاتبة وصحفية عربية من لبنان
بيروت، تشرين الثاني، 2016