لكي تفهم مقدار الرداءة في البرامج «الكوميديّة» اللبنانيّة، يكفي أن تقرأ/ تكتب مقالةً كهذه، لا تجترح فكرة خارج إطار البديهيّات… كلّ ما تفعله، أنّها تطرح السؤال التالي: أيعقل أنّنا ما زلنا نشاهد برامج تسخر من المعوّقين؟ كيف يمكن مثلاً، لصنّاع برنامج «ما في متلو»، وهم يطرحون أنفسهم كفنانين مؤثّرين في الرأي العام، تقديم فقرة «كوميديّة» قوامها السخرية من ذوي الاحتياجات الخاصّة؟
في حلقة أمس الأوّل من البرنامج، عرضت «أم تي في» مشهداً ساخراً بعنوان «تعارف»، يجمع بين عبّاس شاهين، ونعيم حلاوي، ورولا شاميّة. يريد نعيم أن يتزوّج، فيعده عبّاس بتعريفه على امرأة جميلة وذكيّة، واعداً بأنّه «لن يغشّه». يتلهّف نعيم للقاء العروس المفترضة، فتطلّ رولا، بأناقتها المعهودة، لتجلس إلى مائدة الرجلين في أحد المطاعم، وهو الفضاء الذي تدور فيه معظم أحداث «ما في متلو» (للمصادفة). ينبّهنا نعيم إلى ما قد لا نراه بالعين المجرّدة للوهلة الأولى، حين يهمس في أذن صديقه: «عبّاس، عم تعرج». وفيما يتولّى عبّاس مهمّة تذليل العقبات، مؤكداً لصديقه أنّ صعوبات المشي لدى رولا لن تمثّل مشكلة، «فأنت لن تشركها في السبق»، بحسب تعبيره «المهضوم»، تبدأ «عيوب» رولا بالانكشاف. تقع عينها الزجاجيّة، ثمّ تجد صعوبة في سماع اسم «العريس»، لأنّها «طرشاء» مع مدّ الألف، كما يخبرنا عبّاس. وأمام هذا «الواقع المرير»، ينسحب نعيم صارخاً: «حلّ عنّا ياه!».
لا يظهر المشهد نعيم وعبّاس في موقع المخطئ لكي نفترض أنّه يسخر من أسلوبهما في التعاطي مع الشخصية التي تؤدّيها رولا. على العكس، يقدّم الحكاية من وجهة نظرهما، واضعاً الشخصيّة المعوّقة في إطار هزليّ، على اعتبار أنّ معاناة أحدهم من صعوبة في المشي، يمكن أن تشكّل نكتة الموسم. يلعب المشهد لعبة الانكشاف/ الاكتشاف الرائجة في الكوميديا العربيّة، والتي ابتُذِلت لكثرة ما استنفدت. الرجل الكامل الخالي من العيوب، الموجود دوماً في موقع الحَكَم، ينتظر بفارغ الصبر فتاة أحلامه، ليتبيّن لاحقاً أنّه مخدوع، فهي إمّا «غوريلا»، أو «شيطانة»، أو «عجوز»، أو «سوداء»، أو «بقرة»، أو.. «فكحة وعرجاء». يقدّم مشهد «ما في متلو» خطاب تمييز مزدوجاً: تمييز جندري، وتمييز تجاه المعوّق.. والأنكى أن الأمرين يصوّران كنكتة مقبولة، شائعة، ومن لا يفهمها، فذلك لأنّه أغبى من تقدير حسّ الفكاهة عند مطلقيها.
لا يخرج «ما في متلو» عن الصيغة المطروحة للبرامج «الكوميديّة/ الترفيهيّة» على الشاشة اللبنانيّة، والمحكومة بسوء تقدير صانعيها لما يمكن أن يكون موضوعاً للسخرية. كلّها برامج شَيّدت على مرّ السنين، أرشيفاً مثقلاً بعيوب عدّة، أخطرها العنصريّة تجاه الفلسطيني والسوري والمصري وكلّ الجاليات الآسيويّة والأفريقيّة. نزعت تلك البرامج عن السخرية وظيفتها الأصليّة، كأداة لتعرية النظم المتخلّفة، ومقارعة أدوات السلطة، وحوّلتها إلى وسيلة للتنمّر، وتكريس قيم ذكوريّة ورجعيّة.
مع كلّ حلقة من «كتير سلبي شو»، و«كوميكاز»، و«بس مات وطن»، و«إربت تنحلّ» وغيرها، نحاول إعادة قولبة معاييرنا حول ما هو مضحك، وما هو مبكٍ، وما هو مثير للاشمئزاز. رغم اختلاف الأساليب، تتقاطع تلك البرامج في عدّة مفاصل أساسيّة، أبرزها الكسل، والعجز عن ابتكار جديد. على سبيل المثال، تختار إطارات بصريّة جامدة لا تتغيّر: مطعماً، مكتباً، سريراً، رصيف الشارع، باب المنزل أو باب المصعد… كما تلجأ إلى قوالب كوميديّة بائدة، مثلاً تقليد سياسي مع تضخيم عيوبه من دون انتقاده فعليّا، مشاهد خيانات زوجيّة مع تفنّن في إيجاد مكان مبتكر لإخفاء العشيق، مشاهد صراخ من دون طائل مليئة بشتائم غير موظّفة في إطار انتقادي واضح، إحالات جنسيّة ذكوريّة تبرّر العنف أو الاغتصاب، إلى جانب اسكتشات مخصّصة لتحقير العامل الأجنبي مهما كانت جنسيّته. تجد نفسك تبحث عمّا قد يثير الضحك في تلك الحفلة العشوائيّة. ومع كلّ حلقة تحاول أن توسّع الهامش قدر المستطاع بين «التافه»، و«المسلّي».
يؤشّر نهم الشاشات لتقديم هذا النوع من الكوميديا، إلى أنّه ما زال يحقّق نسب مشاهدة كافية ليستمرّ لمواسم بعد أخرى. الأرجح أنّ كثراً يجدون في تلك البرامج، متنفّساً للترفيه، بعيداً عن الأخبار السياسية. وبما أنّ أساليب الترفيه الأخرى غير متاحة حالياً ــ بسبب أزمة ابتكار جديّة ــ ما علينا إلا أن نتمنّى على من يحتكرون «ترفيهنا»، السادة صانعي البرامج الكوميديّة، أن يحاولوا التخفّف من بعض ما يقدّمونه من قرف. قلّدوا السياسيين، خوضوا ما تريدون من نقاشات غير مفهومة على مداخل المصاعد والبيوت وفي غرف النوم، ووفّروا علينا نكاتكم المسيئة للنساء وذوي الاحتياجات الخاصّة وكلّ من هو غير لبناني.
COMMENTS