خاص ـ الحقول / يمكن أن أضع عنوانا لبحثى : “الحالة الاستعمارية Coloniality بين بنية التحديث، والعولمة ، واستعادة المهدوية”. ذلك أنه أصبح من الشائع على المستوى الأفريقى الآن مراجعة كثير من المقولات التى سادت فى مراحل سابقة عن “التحرر الوطنى” ، وتصفية الاستعمار Deconolization ، أو ما بعد الاستعمار Post-colonialism ، أو التحديث ، لتطرح سؤال : إلى أى حد وصلنا بذلك إلى تصفية “الحالة الاستعمارية” Coloniality، أى البنية الاستعمارية الجديدة للمجتمعات وقواها الاجتماعية ، وليس مجرد تغيير نمط السلطة ؟. وهل نحن ناجحون فى هذه المحاولة لتصفية الكولونيالية Decoloniality ؟ .
إن الفكر الأفريقى بات يكتشف فى الواقع أننا نعيش وهم هذا المتخيل الضرورى عن الاستقلالية ، أو قل الشرط الموضوعى للبنية الذاتية ، بينما ننخرط فى مقولات جديدة عن العولمة و ” ما بعد الحداثة” ، التى باتت كل منها تخدم تفكيك الدول ، ونشر الفوضي، وتحاور التفكير الجهادى أو “المهدوى ” في نفس الوقت بانماط من المطلقات المشتركة . و يجعل ذلك ” من مشروع الدولة الوطنية ” او “الاستقلالية ” بالضرورة مجردات من مرحلة تصفية الاستعمار المجهضة ، ازاء تلغيم الفضاءات الكونية الان بالمزاج الصراعي في “المركز” و”الجنوب “علي السواء
عن الحالة الاستعمارية coloniality
يكاد مفهوم ” الحالة الاستعمارية ” أن يكون الأكثر تعبيرا ، عن ترتيبات الدولة الاستعمارية الحاكمة مباشرة ،والتى تنشأ فيما بعد الغزو ، أو الاحتلال ، أو الاسترقاق ، ليصبح الإقليم أولا قابلا للاستعمار . ومع مجيء الاستقلال الصورى ،يصبح الاقليم متكيفا مع الفلسفات الاستعمارية فيما بعد انتهاء الاستعمار التقليدى . فى الأول يتهيأ الموقف الاستعمارى عبر الإدارة ، واللغة ( فيما يسمى منتج الحداثة ) ، وهيمنة الانتاج الفكرى للاستشراق أو الأنثروبولوجيا ، وفلسفات هيجل ومونتسكيو …. الخ . وفى الثانية تشيع صياغات عن الاستعمار الجديد– New – Colonialialism وعن ” ضرورة الحشد القومى ” ، وتوازن الحداثة والتقليدية ، وبعض أشكال النمو أو التنمية فى دولة الاستعمار الجديد Colonial Stat] Neo فى ظل جهد استعمارى واضح لاستمرار استعمارية (كولونيالية ) السلطة أو ما عرف ب Coloniality of Power .
انتبه المفكر النيجيري” بيتر إيكيه ” P.Ekeh إلى أن ” الحالة الاستعمارية ” ترتب المستعمرة على أساس وجود عالمين tow publicsالمستعمِر والطبقة الموالية له، والشعب ” الآخر” ، حتى يقع الاستقلال فتبقى الطبقة المسيطرة هى العالم الأول ، وتستمر بذلك “الحالة الاستعمارية ” بسلطة جديدة .
تساءل القليلون فقط عن مغزى السقوط العاجل لدولة التحرر الوطنى ، ولم ينتبه الكثيرون الي ان ذلك كان لمجرد تفكير قيادة طبقتها الوسطى فى مشروع التحرر من ” الحالة الاستعمارية ” ، وعدم الاستمرار فى ظل مفردات الخيار الاستعمارى لنمط الاستقلال . ورغم بساطة حدود هذا التفكير نفسه فى التجربة الناصرية ، أو النكرومية ، أو النيريرية ، فقد انزعجت دوائر الغرب ، والرأسمالية العالمية الصاعدة مجددا من احتمالات “القطيعة ” معهم فى أشكال من “النزوع الجنوبى ” أو” القطيعة الجنوبية ” او تطوير المجتمع الأهلى (المحلى أو الوطنى – Nationalism Nativism ) من اجل نمط معيشي مختلف ، إنتقالا إلى أشكال من التكتلات الاقليمية أو الحركات الجامعة Pan – Movements ، وهى الخطيرة على ” الكلية الدولية ” التى يريدونها استمرارا للتماهي مع المستعمر .
ومع ذلك ففى تلك الفترة الأولى للاستقلال تبلورت جهود فى الفكر الأفريقى عن “الهوية الوطنية ” وعن الصراع الاجتماعى حول التنوع والوحدة ، وليس فقط العرقى والقبلى ، بل وصيغت أفكار للتكامل الاقليمى قاريا أو اقليميا .
لابد أن ثمة من رصد مع المحاولات الأولى للتحرر ، تفكيرا لم يخرج بطبيعته ، ولا الزمن المتاح له، عن هيمنات الكاريزما وأنماط الدولة الوطنية المتاحة فى تلك الفترة ، لكنها شكلت أيضا فى الفضاء الأفريقى كاريزمات فكرية نعتز بها ؛ مثل جمال حمدان فى كتابته عن “شخصية مصر”، وعلى مزروعى عن القيم السياسية للنخبة أو جورج بادمور عن الخيارات الاستقلالية ، وتداول الفكر الحديث عموما مساهمات من أنحاء القارة من مثل : عبد الله العروى ، ومالك بن نبى ، وليوبولد سنغور ، وشيخ أنتا ديوب . ويسرت الميديا الدولية والوطنية فى ذلك العصر التغاضى بذلك عن فكر القطيعة الذي عبر عنه العنف الثورى عند فرانز فانون ، أو مقاطعة العنف الأوربى عند والتر رودنى ، ناهيك عن المقاطعة الواضحة للفكر اليسارى وتحليلاته الاجتماعية التى اتسمت لسوء حظها بالدوجمائية … وهو ما أقصى بشكل ما الأجيال الأفريقية الجديدة عن أى تفكير جديد ذي طابع اجتماعي أو ثورى فيما بعد الاستقلال مباشرة ( لاحظ لجوء هؤلاء بعد قليل إلى استحضار مثالية او انعزالية ” المهدوية الجهادية ” ذات التاريخ فى القارة ،خاصة بعد فشل التجريب الاجتماعي “الاشتراكي” فى بعض بلدانها . لكن ذاك التفاعل الواعد سرعان ما شهد فترة القلق من تصاعد الهيمنة الامبريالية ، حين شاعت فلسفات الانفتاح ، والسوق ، والتكيف الهيكلى ، وظهرت معها المركزية الأوربية صارخة تجاه ” دول ما بعد التحديث ” لتصير مجرد ” دول العالم الثالث” التى تؤكد الاقصاء لا الاندماج .
لم تُجد كثيرا أفكار جاءت من مناطق الكفاح المسلح وعن صاحب أشهر الخطابات فى اليونسكو عن ” ثقافة التحرر الوطنى ” المقرونة به وبنظرية هذا الكفاح، ، وأعنى به ” أميلكار كابرال ” ؛ ومعه نخبة على نفس نغمته من أنجولا ، وموزمبيق ، ولنلاحظ هنا كيف طور هؤلاء فكر الجهاد المسلح ، إلى فكر تحرر ثقافى مستقبلى ، خلافا لمن بدأوا يدفعون بفكر الجهاد الاسلامى ( المهدوى ) السابق عليهم فى القارة ، إلى فكر سلفى ممعن فى المحافظة السياسية والاجتماعية ، بحجة مواجهة التحديث والعلمنة ، بينما ترتبط معظم أطرافه بأقسى مراكزالحداثة ومخططى استعماريتها …
وكان لابد من أعمال فكرية تتجاوز مقولات فانون ، ورودنى ، وألبير ميمى المبكرة ، فكانت الصياغات الفكرية المتماسكة لادوارد سعيد والمدرسة التى أسست لما بعد الاستعمار Post-Colonialism فى القارة كفكر سياسى اجتماعى ، وإن لم يتجاوز التوتر بين العوالم الاستعمارية والتحررية …ولكنه كشف عن دور المستشرقين والأفريكانست كآلية مباشرة للحالة الاستعمارية . وهكذا بدأت تسرى أفكار” القطيعة ” مجددا بأشكال مختلفة من مدارس الاقتصاد السياسى ؛ عن فك الارتباط عند سمير أمين ، أو المواجهة الثورية لأيديولوجية ما بعد الاستعمار عند “كلود آكي” مثلا ، حتى عالم اللغة والأدب عند ” نجوجى وا ثيونجو” ، والفكر الاجتماعى وبدائل الNativism عند ” هوندونجو” ؛ صاحب فكرة Indigenous Knowledge ، كما بدأت مراجعات حول تحرير السلطة الأفريقية من الاستعمارية الكامنة فى المجتمعات أو ما عُرف ب Coloniality of Power . ولا بد للقارئ لهذه الفترة من السبعينيات والثمانينات أن يتابع عناوين المواقع الفكرية الأفريقية فى أنحاء القارة ، من دار السلام و ماكيريرى ، وزاريا وداكار ..وغيرها شمالا وجنوبا ..
وفى تقديرى أن أعمالا لم يجر الانتباه إليها فى هذا الصدد ، قدمها محمود ممدانى ، والراحل المفكر جوزيف كى زيربو، مما قد نختلف فى تقييم بعض توجهاتها ، أو نتاج هذا الجهد فى الفكر الأفريقى الحديث ، لكن يظل الانتباه عندهما للموقف من الموروث السلطوى للإدارة الاستعمارية ( ممدانى ) ، أو الحديث عن النسيج الاجتماعى الأهلى الضرورى للتنمية ( كى زيربو –آرشى مافيجى..الخ ) مما له قيمة كبيرة فى مراجعة الحالة الاستعمارية ونتائجها على أشكال من الحكم السائدة الآن فى أفريقيا ، ومدى تعبير سلطاتها عن مطامح شعبية حقيقية ، لتغيير وضع “المواطن” والمواطنة ، بعد خروج المستعمِر ليبقى “مجرد رعية ” لدى الطبقة التحديثية الجديدة .
ولذا تعتبر مساهمة “محمود ممدانى ” فى كتاب شهير له عن “المواطن والرعية ” Citizen and Subject ، دراسة متميزة عن مفهوم “اللامركزية ” عند المستعمر ، لبناء الNativism ، مقصاه عن التقدم السياسى أو الحركة الجماهيرية الديمقراطية . ويعتقد أن بنية “الحكم غير المباشر ” الاستعمارية ، هى التى خدمت استمرار الاستبداد نفسه فى شكله “الحضرى ” بعد الاستقلال ، وليبقى الفلاحون الافارقة تخوما لأى سلطة سائدة .
وكان أمام أصحاب ” ما بعد الاستعمار ” حالات” عميقة التأثير فى الفكر السياسى العالمى ، أو الأفريقى خاصة ، هى حالات الهند ، وأمريكا الجنوبية ” . وقد لعبت الثقافة واللغة الوطنيين دورا هاما فى الهند ، كما لعبت بنية السلطة البديلة دورا مماثلا فى كليهما. وانشغل الفكر الغربى التقدمى نفسه بالمثلين مبكرا لثرائهما الفكرى ، حتى لحق بهما الفكر الأفريقى فيما بعد الأبارتهيد ( وذلك بالنسبة لفكرة العرق كمخلف تاريخى يرتبط بالامبراطورية ، إلى أداة تحكم للدولة الحديثة ما بعد الاستعمار ، ومن ثم يصبح التاريخى حداثيا بالضرورة ( هومى بابا ، وبارتها تشاترجى ؛ حول مكون القومية الهندية ) .
توقف الفكر الأفريقى لفترة عقب ” التحول الديمقراطى من الأبارتهيد ” فى جنوب أفريقيا عند الموقف التقليدى لما بعد الاستعمار ، وهو سيادة “الاقتصادى السياسى ” وليس فكر تصفية الاستعمارية Coloniality وساعد اقتراب التجربة الجديدة بسرعة من نمط التطور فى الهند ، والبرازيل ، والأرجنتين بالنزوع الاقتصادوى المشهود ، مما أكد المنحى الكولونيالى لجنوب أفريقيا الجديدة عند كثير من أبنائها من جهة ، كما بدا التأثير الكولونيالي للمستوطنين الأوربيين على الأفارقة يعمل بسرعة ملحوظة وبمنطق دولة ما بعد الاستعمار ، ومن ثم باتت عند جماهير الدولة الجديدة فكرية لا تكاد تنظر لأفريقانيتها ( الشعبية والثقافية بالقدر المناسب لما بعد الاستعمار ) بل يجرى تمكين الطبقات الوارثة بفكرية ” الاندماج فى العالم الجديد ” وليس فى القارة ، وذلك بسرعة النمو الاقتصادى الذى تقوده الطبقة القديمة .
.
لذلك بات الكثيرون يتفقون فى منطقة الجنوب الأفريقى فى المقارنه بين ما خلفته الأبارتهيد من ميراث ” النفى ” للآخر ، وبناء البانتوستانات كأساس للعنف الذى ساد المنطقة الجنوبية ، وبين قيام نظام موال لآليات العولمة بإعادة ترتيب ” العالم الكولونيالى المحلى الحديث ، فيما أسماه ” توريز مالدونادو ” فى مقولاته عن ” كولونيالية ” الوجود الانسانى الأفريقى قبل أو بعد الأبارتهيد .
لكن تصفية الكولونيالية ظلت شاغلة للمثقف الجنوب أفريقى ، حتى أنى لم أرى كثافة تعبير عن صعوبات تصفية الكولونيالية Decoloniality، ومدى امكانياتها إلا فى انتاج حديث لأبناء هذا الاقليم من أمثال ” سابيلو جاتشينى ..، و” وكينيث أوميجى” ، و ” مارتا موتيسى “، وغيرهم .
تجاوز المنطق الاستعمارى
لقد شغل هؤلاء عدم انتقال منطق ” تصفية الكولونيالية ” إلى المستوى الشعبى بعد ، رغم قسوة ميراث الأبارتهيد ، بل وضاعف قلقهم عدم تصفية ” كولونيالية السلطة ” القديمة بشكل يتناسب مع اتفاق “التحول” (1991/1994) . ورغم البداية العازفة عن ” التوجه لأفريقيا ” عقب التحول فى الجنوب الأفريقى ، فقد فوجئت مؤخرا بشباب المدرسة الحديثة هناك يتابع بإلحاح ظاهرتين على المستوى الأفريقى ، يعتبرهما من علامات الرغبة الشعبية التى يتابعونها فى هذا الصدد ، وهى ظاهرة مؤتمرات السيادة الوطنية الشعبية ، التى عرفتها القارة غربا وشرقا فى حوالى عشرة دول بين (1989/ 1991) وما بعدها فى “الكونغو الديمقراطية وغيرها ، وهى ما كادت تسمى بالربيع الأفريقى ، لولا تغطية ربيع “الأورانج” الأوربى عليها . وكذلك كان الحال تجاه انتفاضات وثورات ما عُرف بالربيع العربى (2010/2011) ، فقد اعتبرها كل من ” أوميجى” و”جاتشينى” انتفاضات ثورية تحمل امكانية التبشير بنهاية ” ما بعد الاستعمار التقليدي”Post-colonialism التى أعقبت خروج المستعمر ، وتكوين دولة ما بعد الاستعمار بأمل الانتقال إلى مرحلة تصفية الكولونيالية واشترطوا لذلك أن ” تنجح تلك الثورات فى إنجاز المطامح الشعبية ، وصناعة الشعوب لتاريخها ، والانتقال من الحرية القانونية ، إلى الحرية الشعبية “… إلى آخر ما افتقده البعض فى تطور هذه الثورات ، بل انها في تقديرهم جعلت من تصفية الحالة الكولونيالية وهما حتى الآن ( ومن قبل كتب ذلك جبرين ابراهيم عن تجارب مؤتمرات السيادة الوطنية الشعبية (1989/1991) .
وتظل المسألة الإسلامية ، أو السلفية فى السنوات الأخيرة أيضا مقابلا سلبيا لفكرية الثورات الشعبية ، باعتبار ما تفرضه هذه السلفية من عزلة داخلية على نفسها ، بسبب موقفها من التحولات الاجتماعية التى تحتاجها شعوب القارة . وبينما تركز هذه التنظيمات فيما يسمى المواجهة مع الغرب أو الحداثة ، فإن الكثير منها يوثق علاقاته بمركزية الغرب نفسه .
ثمة معالجات من غرب أفريقيا تمثلها مساهمات حديثة لمثل ” سليمان بشير جيانى ” و ” عثمان كان” و غيرهما ، ذات طابع ثقافى دفاعى عن الموروث الإسلامى فى علاقته بتحرير العلاقة أو تطبيعها مع الغرب … عبر إعادة النظر فى تاريخ الأسلمة السلمى ، ونفى طبيعة العنف فيها ، بل وتعاونها السابق مع الغرب ، رغم سيادة التصور الغربى للإسلام باعتباره تهديدا . وقد يتصل بذلك جهد مستمرلكاتب آخر مثل “السيد ولد أباه” يؤكد على عقلانية التراث الإسلامى منظورا إليه فى تتابعه التاريخى ، وليس بالصياغات الأوربية الإقصائية ، التى تجعل العنف الإسلامى فى النهاية رهين العنف المفاهيمى الأوربى عن الإسلام ، وهذا -فى تقدير عدد من مثقفى الشمال الأفريقى خاصة – هو ما يجعل العنف المتبادل أساسا للعلاقة المتوترة مع هذه الأطراف الآن .
لم ير كثير من الباحثين بالطبع ما حدث بعد ذلك ، إلا عودة لخلق ” روح الامبراطورية ” ومعها آليات الكولونيالية القديمة حول الدولة العرقية ، أو الإثنية ، والفوضى الخلاقة التى أطلقت موجات الماضوية والجهادية فى دولة الاستعمار الجديد لمنع تحقق أى انجاز وطنى فى إطار العولمة …وعبر الكثيرون عن رؤية واضحة للغرب(الرأسمالية العالمية ) متمسكا بالحقائق المطلقة عن نفسه ، وهو ينشر التفكيك ، ولا يفكك نفسه ، مثل تمسكه بالعقلنة وتصدير اللاعقلانية ، مما جعل التنوير الإسلامى الذى عرفناه أول القرن العشرين يرتد بدوره – عند الكثيرين – إلى عالم الدين المطلق ، ذى التاريخ الاستبدادى ، ومن ثم فشلت معه الأفكار الديمقراطية. لذلك احترس الأفارقة من مسمى “الربيع” ، إلا ما ظهر فى التحليل المتأخر عند ” أوميجى” و”جاتشينى” ، أو عندما فرضتها انتفاضات “بوركينا فاسو” مؤخرا (2014/2015) لاستعادة الحكم التقدمى هناك.
أعتقد أن درس “ما بعد الكولونيالية ” وما بعد الأبارتهيد” هو الذى ظل شاغلا لكثير من مفكرى القارة . تحدثوا عن ” الموجة الثانية للتحرر” ، “نزونجولا” (الكونغو) ، والدولة التنموية ” عند تانديكا مكانداويرى” ولجأ بعضهم إلى ضرورة العودة لأفكار الوحدة الأفريقية ( عيسى شيفجى) للتعاون فى خلق أنماط جديدة للتغيير ، أو ناضل البعض من أجل أفكار موجة ” جنوب / جنوب ” ( سمير أمين) ، و” ياش تاندون فى محاولة للتخلص من استدامة الاستعمار أو الاستعمار الجديد ، ونتائجه فى أشكال الاستبداد السياسى أو الطبقى .، بل ويتحدث “سمير أمين” عن الأبارتهيد على مستوى عالمى بسبب التمركز الرأسمالى وتأخرالتحول الديمقراطى عبر التنمية مع العدل الاجتماعى.
معالجة الاقصائية
لا أقصد هنا الرصد السياسى وأنا أعالج حركة الفكر الأفريقى ، لذلك يهمنى الإشارة إلى بحث معوقات حركة تصفية الكولونيالية Decoloniality، كما جاءت فى بعض الاجتهادات مستخلصة من الحالة الاستعمارية القديمة ، أو ما سيرد عن رصد المعوقات فى الوضع الراهن لدول ما بعد الاستعمار ..
لعل شرح مفكرينا لحالة الاقصاء الاجتماعى ، لهذه الشعوب هو الامتداد الفعلى لفكر وحالة “التخوم” واختيار بعض القوي الاجتماعية بين “القطيعة” مع التخلف الموروث ، أو الاندماج مع العولمة من أجل الحداثة الوافدة ..وهذا الارتباك فى صورة دول الجنوب هو الذى زحفت به موجة العولمة إلى خلق كل هذه الفوضى من جهة ولجوء بعض عناصره الشابة للإرهاب من جهة اخري …
وتتجه بعض مدارس الفكر الأفريقى لاتهام أجواء العولمة الجديدة ، رغم مركزيتها – باشاعة الفوضى والعنف ، الداخلى أو الذاتى ، والخارجى القائم على موضوعات الصراع ..وهنا تدخل عند البعض فكريات ما بعد الحداثة مع ما بعد الكولونيالية ، لتضع المجتمعات الأفريقية أمام خيارات اللحاق بحداثة العولمة ومن ثم التبعية أو رفض العولمة والحداثة ، باستحضار الماضى السلفى ، أو العنصرى و القبلى ، والتعبير بالعنف المهدوى عن خروج هذه العناصر على العالم الكولونيالى إلى درجة تجعل من جماعات العنف المدمر (الإرهاب) عالم مركزى بدوره للفكر المطلق ، حتى بعيدا عن التدين السلفى ، وعن المسجد ، لجوءا إلى النص الدينى المجرد ، والمطلق و المتعالى، سهل التناقل عبر أحدث وسائل الاتصال “الامبريالية ” لتخريب مجتمعات بدأت بالوطنية المحلية أصلا لتنتقل تباعا إلى المراكز الرأسمالية ،مصحوبة بالقدسية المطلقة او ميراث المهدوية الجهادية
المخاوف الجديدة –ازاء ذلك- تكمن فى صعوبة صياغة واجبات الدولة الوطنية نحو تصفية “الحالة الكولونيالية ” جذريا بسبب الاحتواء العولمى ، ومن ثم يصعب استعادة تراث الوطنية ، بينما يتعولم تراث الفكر الاصولى المطلق بطبعه .”….وكان تراث الوطنية ” نفسه يتماهى لفترة مع” الجهادى” كجزء من التحرر الوطنى ، بينما المطلق السلفى الحديث ،والاقصائي ،لايتخيل إلا العنف وسيلة للوصول لهدفه فى تسييد المطلق الجديد على العولمى (الامبريالى)، وكأنهما فى ،أو من ،فضاء واحد ، و من ثم يصعب توفير هامش لمراجعة التراث أو لعملية التنوير…الخ
الخلاصة
باتت الحالة الاستعمارية أو الكولونيالية تركن باضطراد إلى الخطاب الثقافى هروبا من النمط الاقتصادى أو المجتمعى ، وما نشهده هو تصميم النظام الرأسمالي العالمي وأدواته الثقافية على عدم التسليم بتصفية الحالة الكولونيالية ، بل ودفع المزاج الصراعى وثقافة العنف نفسها بعد نهاية الحرب الباردة إلى الحضور فى إتجاه الصراع الأيديولوجى مع ما أسمته العالم الإسلامى أو ما تخوفت منه فى القطيعة الجنوبية ” بعد التحركات الشعبية الأخيرة . ومن هنا تصعب المساهمة فى حوار حقيقى حول بدائل مثل تنمية ” بلدان العالم الثالث” عبر مشروعاتها الخاصة للدولة الوطنية أو التنموية ، فقد أدى ذلك إلى الإفقار / الإقصاء الدائم بين العالمين فيما يشبه صيغة “إيكيه ” نفسه ، حيث أصبحت الطبقة العليا فى هذه البلدان ( وهى كمبرادورية الطابع) متماهية مع خطط الرأسمالية العالمية فى عملية إقصاء الفقراء اقتصاديا وثقافيا ، ومن ثم لم يعد هناك مكان لعملية اجتهاد أو صياغات دينية متقدمة فيما يسمى بالتنوير أو الحوار الحضارى كمنتج للحداثة المصحوبة بعناصرها الكولونيالية ، بل هناك جهاد وعنف يمثلان أدوات” المطلقات” الحديثة ، وهى أدوات لايلتقى عندها المنطق طالما أن الرأسمالية القائمة على “العقلانية ” لم تعد تصدر لبلداننا إلا اللاعقلانية ، ولتصبح الماضوية أو الجهادية – بعد فراقها لتراثها كحركات تحرر سابقة ، هى الرد السلفى “الحديث ” على أوضاع شبه كولونيالية.؟
وهنا أيضا يتساءل المفكرون الأفارقة الآن ، مسلمون وغير مسلمين : هل نعود إلى منتج الاستشراق والانثروبولوجيا لدراسة موقف شعوبنا تجاه الارهاب الذى نتهم به وحدنا ؟. ولماذا لا تصدر إجابات مناسبة فى الشمال الأفريقى المسلم مثلما تستمر الاجتهادات من غرب وجنوب أفريقيا ؟.
وإلى أى حد يتطلب الموقف تصفية الكولونيالية من الجسد الثقافى والاقتصادى فى أنحاء القارة من أجل فكر جديد حول التنمية الذاتية والتعاون الدولى المتوازن فى مواجهة المطلقات المعولمة دينيا وسياسيا وعسكريا .
COMMENTS