عندما توجه ياسين الصالحي مبكراً، صباح أمس، بشاحنته إلى مصنع شركة «اير برودكت» الأميركية، في مجمع «سان كينتان» الكيميائي الفرنسي قرب مدينة ليون، لم يكن أحد ليعلم بعد أن محاولة تفجير مصنع غاز «الأسيتون»، ليس سوى المقدمة في ثلاثية، كان أعدَّ لها «داعش» على الأرجح، في اليوم ذاته.
فخلال ساعتين من صبيحة أمس كانت فرنسا تهتز، للهجوم الأول، فيما كان سيف الدين رزقي يحوِّل تونس مرة جديدة إلى عنوان لمذبحة على شاطئ للسياح الأجانب في سوسة، بعد أن قتل منهم 37 شخصاً وجرح 39. وأقفل أخو «داعش» أبو سليمان الموحد ثلاثية الموت والرعب في الكويت، بتفجير نفسه بين مصلِّي الجمعة، من الشيعة، في جامع الإمام الصادق، في قلب الكويت، ليقتل 27 منهم، ويجرح حوالي 227.
ويبدو التزامن في العمليات، مع فارق ساعتين بينها وإيقاع الرعب في النفوس وإثبات القدرة على تنفيذها في قارات ثلاث، في أوروبا وأفريقيا وآسيا، أول الرسائل التي أرادت الجماعة التي تقف وراء ثلاثية الجمعة السوداء، توجيهها في شهر رمضان، في جميع الاتجاهات.
ويجري تداول فرضية رسالة ثانية احتفالية ودموية، مع اقتراب موعد بلوغ «الخلافة البغدادية» عامها الأول، منذ أن أولاها لنفسه، إبراهيم البدري السامرائي (أبو بكر البغدادي)، من فوق منبر مسجد الموصل في 29 حزيران العام 2014.
واستبق المتحدث باسم «داعش» أبو محمد العدناني ثلاثية الجمعة الدموية، برسالة صوتية قبل أيام، حث فيها أنصار التنظيم التكفيري «على التركيز على العمليات الخارجية، واستهداف الكفار».
وليس واضحاً حتى الآن ما إذا كان تنظيم البغدادي قد لجأ بمفرده إلى رعاية وإعداد الهجمات الإرهابية الثلاث. فمن بين العمليات الثلاث لم يحظ بتبني «داعش» الصريح سوى الانتحاري أبو سليمان الموحد في مسجد الإمام الصادق، الذي «التحف حزاماً للعز ناسفاً في معبد للرافضة» ليفجر نفسه لحظة انتهاء الصلاة، وتأهب أكثر من ألف مصلٍّ للانصراف.
وتكفلت راية التنظيم السوداء على أسوار المصنع الأميركي قرب مدينة ليون بإشهار وجوده، وزاده حضوراً توسط راياته رأس مقطوعة لرب عمل الانتحاري ياسين الصالحي، جزه بنفسه ورفعه عند بوابة المصنع، لينقل للمرة الأولى تقنية الذبح «الداعشية» إلى أوروبا. ويبدو الاستنكاف عن تبني العمليات في فرنسا طريقة عمل «داعش» وغيره.
وكان رجال الإطفاء تمكنوا من الإمساك بالصالحي قبل أن يتسنى له تفجير مستودع عبوات غاز «الأسيتون»، بعد أن نجا بأعجوبة من انفجار عبوات الغاز التي صدمها بشاحنته في مستودع مجاور. أما الحراس فكانوا قد سمحوا للرجل الهادئ الذي عرفوه بالدخول كعادته في شاحنة شركة النقل التي يعمل لديها إلى باحة المصنع، من دون أدنى شبهة.
أما سيف الدين رزقي، الذي نزل من زورق عند شاطئ فندق «مرحبا» في سوسة التونسية ليمطر السياح الأوروبيين بعشرات الطلقات، ويطاردهم في أروقة الفندق، قبل أن تتمكن الشرطة من قتله، فلا تشير إلى علاقته بـ «داعش» سوى المعلومات التي نشرتها صفحات «الجهاديين» في تونس، عن إعداد أشهر المطلوبين أحمد الرويسي مجموعة من الانتحاريين التونسيين وتدريبهم للقيام بعمليات ضد السياح الأجانب، وذلك قبل مقتله في سرت الليبية في السادس من آذار الماضي، في اشتباك بين جماعته «أنصار الشريعة»، التي بايعت «داعش»، ورتل من قوات «فجر ليبيا».
ويبدو الانتحاري الفرنسي ياسين الصالحي، الأكثر شبهاً بالذئاب المنفردة في إستراتيجية «داعش»، والأكثر إثارة للسجال في فرنسا، بعد ستة أشهر على مقتلة «شارلي إيبدو» في كانون الثاني الماضي، إذ لا تملك الأجهزة الأمنية الفرنسية أي إنذار مبكر عن شخصية رب العائلة المسالم، كما شهد بذلك أهل وجيران وزملاء، وتصنيف وريقات من الاستخبارات الخارجية عن نزعته السلفية، وشروعه منذ ثلاثة أعوام بالذهاب أبعد في التطرف كما يقول تقرير امني، من دون أن يمنع ذلك خروجه من دائرة المراقبة.
وبرغم أن الاستنفار الأمني الفرنسي في أعلى درجاته، إلا انه من الصعب بمكان حماية جميع المراكز الحساسة، والمصنع الأميركي الفرنسي واحد منها، وفي قلب منطقة الصناعة الكيميائية الفرنسية. ولكن ذلك لم يمنع الرئيس فرانسوا هولاند من تقديم أقصى ما يمكن للسياسي تقديمه: طمأنة الفرنسيين، في خطاب سريع ومباشر، عن «قدرة فرنسا على المواجهة وحماية نفسها».
إلا أن السياسة المتبعة إزاء هذه المجموعات، لا تزال احتوائية، وليست استئصالية بما يكفي كما كانت عليه السياسة الفرنسية تجاه الإسلاميين الجزائريين، لمنع تسرب، ليس فقط المئات من العائدين من سوريا، حيث يقاتل بشكل متواصل أكثر من 400 فرنسي، من بين 1500 يعودون إلى «داعش»، والجماعات الجهادية الأخرى، من دون أن تتمكن الأجهزة الفرنسية، من اعتقالهم. إذ إن الخطر لا يأتي من العائدين من «الجهاد» السوري. وهؤلاء كانت الأجهزة الفرنسية قد غضت الطرف عنهم، مطلع الحرب السورية، أملا بالتخلص منهم في المحرقة السورية. لكنها طالت أبعد من الحسابات الأولى، التي أملت سياسة لا مبالية تجاه خطرهم، لأنه كان يقتصر على سوريا، من دون توقع عودتهم إلى ساحة «الجهاد الفرنسي»، وهو ما يجري اليوم.
كما أن ما يجمع الانتحاريين الثلاثة، في الكويت وفرنسا وتونس، هو انعدام المفاجأة. إذ إن السؤال الذي كان يطرح هو ليس لماذا وقعت العمليات الانتحارية، إنما لماذا تأخر وقوعها. إذ يشكل الاهتراء الأمني التونسي تجاه «داعش» عاملاً جاذباً، ليس بسبب قرب تونس من ليبيا فحسب، بل لأن ما يحدث هو أن تونس نفسها، قبل ليبيا، تحولت إلى مصدر للإرهاب، يمتد من شمال أفريقيا إلى المشرق العربي، وخصوصا سوريا. إذ لم يشارك ليبي واحد في العمليات الإرهابية التي أصابت تونس، فيما نقل «أنصار الشريعة» إلى «داعش» بيعتهم التونسية إلى ليبيا نفسها. وقتل في سوريا وحدها ما يقارب ألفي تونسي، كما شكل «الجهاديون» التونسيون الكتيبة الأولى من المقاتلين الأجانب في سوريا، وفي وقت مبكر من الحرب الى جانب «لواء الأمة» الليبي الذي كان يقوده الشيخ مهدي الحاراتي. ويبدو أن أول إجراء قررته تونس إزاء عملية سوسة، التي ستدمر الجهود التي بُذلت لترميم القطاع السياحي الحيوي، هو منع سفر التونسيين ممن هم ما دون الخامسة والثلاثين من العمر، قبل الحصول على موافقة مسبقة.
أما العملية الانتحارية في مسجد الإمام الصادق، فمن الواضح أن «داعش» سينقل الحرب ضد الشيعة في الخليج من السعودية إلى كل «إماراته». فبعد تفجيرات مساجد القطيف الشيعية المزدوجة، تبدو مساجد الشيعة الذين يشكلون 33 في المئة من سكان الكويت، أهدافاً محتملة لتفجيرات قادمة. وكان «داعش» وضع، منذ العام الماضي، الكويت على خريطة «دولة الخلافة». وينحو التنظيم في الساحة الكويتية إلى تفجير البيئة التي لا يزال يتعايش فيها خط سلفي «جهادي» صاعد ومنغمس في الحرب السورية، مع حضور شيعي قوي، واتجاه متزايد لدى الأسرة الأميرية والحكومة إلى الاعتماد على الكتلة الشيعية، لاحتواء السلفيين، والتقارب مع إيران، التي زارها أمير الكويت قبل عامين. وكان أمير الكويت أول الواصلين إلى مسجد الصادق، ليصف ما جرى بأنه «شرير وإجرامي».
ويبدو الخوف من العدوى السعودية مبرراً، لكنه يأتي متأخراً. وبرغم استعادة وزارة الأوقاف السيطرة على خطب الجمعة، وعدم التسامح مع دعوات «الجهاد» والتكفير، إلا أن ظاهرة «مساجد التنك» الخارجة عن سيطرتها، تحولت إلى منابر للسلفية «الجهادية»، كما أن جماعات وشبكات سلفية كويتية «جهادية» تعد إحدى اكبر الممولين للجماعات «الجهادية»، من «احرار الشام» و «جبهة النصرة» وغيرها في سوريا.
وكان مجلس الأمن وضع الداعية حجاج العجمي على لائحة الإرهاب، كما وضعت وزارة الخزانة الأميركية شافي العجمي على لائحة الإرهاب أيضاً، وكلاهما كانا أول من موَّل «جيش الإسلام» بـ 400 ألف دولار، لإطلاق عملياته قبل ثلاثة أعوام في غوطة دمشق.
COMMENTS