خاص ـ الحقول / تحدث كثيرون خلال السنوات الأخيرة عن نهاية نظام «سايكس ــ بيكو» الذى وضع خريطة لتقسيم المنطقة العربية فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبمقتضاها تم تقسيم بلاد الشام إلى ثلاث دول: سوريا ولبنان وفلسطين، ثم جاءت حرب فلسطين عام ١٩٤٨ لتبتلع إسرائيل الجانب الأكبر من فلسطين وتعمق مأساة تجزئة الوطن العربى.
وعبر النصف الثانى من القرن العشرين وحتى وقتنا الحاضر ظلت سوريا هى مفتاح الصراع للسيطرة على المشرق العربى. وقد وثق الكاتب الصحفى البريطانى باترك سيل Patrick Seale دقائق هذا الصراع فى كتابه إلهام الصراع حول سوريا(The Struggle For Syria)، الصادر عام ١٩٦٥.
فالصراع حول سوريا – الذى يدخل هذه الأيام أخطر مراحله هو أحد مفاتيح مستقبل خرائط المنطقة العربية والشرق الأوسط عموما خلال السنوات القادمة. وإذ يقول الصحفى السعودى جمال خاشقجى – الذى يقال إنه مقرب من دوائر الحكم فى السعودية: «اليوم اليمن وغدا سوريا، ومن بعدها سلم ورخاء فى مشرق عربى جديد»، فإن اللبيب بالإشارة يفهم!
فى هذا الإطار يجرى صراع ضارٍ حول تقسيم منطقة المشرق العربى إلى كيانات طائفية بترحيل التناقض الرئيسى بين العرب وإسرائيل إلى تناقض ثانوى وتحويل التناقض الرئيسى إلى تناقض بين السنة والشيعة بما يؤدى إلى تمزيق المنطقة العربية وتقويض مفهوم الدولة الوطنية الجامعة (الدولة القطرية فى صياغات أخرى). وهنا يجب أن نشير إلى أن غياب حل سلمى للصراع الدموى القائم فى سوريا، من شأنه أن يؤدى فى نهاية الأمر إلى تقسيم سوريا بين الأطراف المتنازعة، وهو ما يوجه بدوره ضربة قاسية لمقومات الأمن القومى المصرى، إذ إن سوريا تمثل خط الدفاع الأول عن مصر، وتفتيتها قد يقود إلى تفتيت لبنان فى ظل المخططات القائمة بالفعل لتكريس تفتيت العراق ويؤدى إلى تقويض أحد الأضلاع الهامة لحماية الأمن القومى المصرى.
يلعب تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) دور حصان طروادة وهو الأداة لغيره لتنفيذ مخطط التقسيم الطائفى فى سوريا والعراق، فالسكاكين التى يقطعون بها رقاب العباد هى ذات السكاكين التى يتم بها تمزيق جسد ووجدان المشرق العربى. وهنا يحق لنا أن نتساءل عن مصادر التجنيد وأساليب التدريب والتسليح والأذرع الإعلامية والدعم اللوجستى الذى يتمتع به تنظيم الدولة الإسلامية الذى تمدد فى مساحات واسعة من سوريا والعراق.
فرغم ما تضمنه التقرير الهام الذى نشرته مجلة دير شبيجل الألمانية (١٩ أبريل ٢٠١٥) من محاولة للإيحاء بأن عملية تأسيس «تنظيم الدولة الاسلامية» هى من صنع عناصر من الاستخبارات العراقية عملت خلال فترة حكم صدام حسين، فمن الواضح ما فى ذلك التقرير من محاولة لإبعاد الأنظار عن الجهات الحقيقية التى كانت وراء ظهور هذا التنظيم وتغلغله ــ كما يذكر هذا التقرير أنه سبق انطلاق التنظيم فى سوريا، وخاصة فى محافظة الرقة، ظهور ما سمى «مدارس الدعوة الاسلامية» فى أرياف محافظة الرقة، لتمهيد التربة لعملية السيطرة العسكرية لمقاتلى داعش. هذا ناهيك عن أساطيل السيارات الحديثة رباعية الدفع التى تجوب ربوع المناطق التى تخضع لنفوذ ما يسمى تنظيم الدولة الاسلامية فى سوريا والعراق، بل فى سيناء وليبيا.
وبذكر ويسلى كلارك، أحد الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين، أن أمريكا، قامت بالتعاون مع أصدقائنا وحلفائنا فى المنطقة العربية، بتمويل تنظيم داعش لمحاربة حزب الله فى لبنان. كما أشار عسكرى أمريكى آخر يدعى رالف بيترز إلى أن هناك خرائط جديدة تعد لما يسمى الشرق الأوسط الجديد تقوم على تقسيم كل من العراق وسوريا ولبنان والسعودية. وهذه الخرائط الجديدة لن ترسم بالقلم والمسطرة كخرائط سايكس ــ بيكو، وإنما سيتم التقسيم «بالدم»، حسب تعبير مصطفى البرزانى، الزعيم الكردى فى حديثه إلى جريدة الحياة اللندنية، أو «بالبلطة»، حسب تعبير الزعيم اللبنانى وليد جنبلاط.
وقديما قال أبا إيبان ــ وزير خارجية إسرائيل الأسبق ــ إنه يود أن يرى المنطقة العربية على هيئة «بناء من الفسيفساء» ليكون وضع إسرائيل وضعا طبيعيا فى إطار هذا الموزاييك. ويرى العديد من المراقبين الذين ترددوا على العراق أخيرا أن الدولة العراقية والمجتمع العراقى فى حالة تحلل، مما أدى إلى تنشيط المشروعات التقسيمية على غرار «مشروع بايدن» الذى تم طرحه عام ٢٠٠٧ لتقسيم العراق الذى تم إحياؤه أخيرا فى الكونجرس الأمريكى.
وفى قلب هذه الأحداث والتحولات المصيرية يبرز دور مصرــ بجيشها المتماسك ووحدتها الوطنية ــ كرمانة الميزان لتصد تلك الهجمه العاتية على مستقبل المنطقة العربية والمشرق العربى خصوصا. لكن الحفاظ على هذا الدور لن يتم إلا بالحرص على مزيد من الديمقراطية ومزيد من العدل الاجتماعى. ولنتذكر فى هذا السياق قول حافظ ابراهيم ــ شاعر النيل ــ فى قصيدة «مصر تتحدث عن نفسها»: «أنا إن قدر الإله مماتى لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى».
COMMENTS