منذ الغارة العدوانية الإسرائيلية على سوريا في أيلول 2007، لم تكف حكومتا بوش وأولمرت عن تسريب “معلومات”، وإثارة “روايات” عن وجود برنامج نووي سوري، تم إجهاضه في ذلك الإعتداء الجوي. ثم، فجأة، قررت واشنطن، قبل ايام، نشر صور عما قالت أنه مفاعل نووي سوري تم بناؤه بمساعدة من كوريا الشمالية. وبأسلوب يذكرنا بصناعة النفاق النووي التي ازدهرت لتبرير حصار ثم غزو العراق. مقال الصحفي الأميركي ديفيد ي. سانغر (1)، يضيء على بعض جوانب هذه الصناعة الإعلامية الخطيرة.
نشرت إدارة بوش، يوم الخميس الماضي (25/4/2008)، صورا مفصلة حتى تدعم تأكيداتها بأن المبنى الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية في سوريا في السنة الماضية كان مفاعلا نوويا كان تم إنشاؤه بمساعدة من كوريا الشمالية على مدى سنوات. وقالت الإدارة إنها أوقفت لسبعة أشهر نشر الصور، خشية أن تعد سوريا العدة للانتقام من إسرائيل وتبدأ حربا أوسع في الشرق الأوسط.
وتظهر الصور التي كانت قد التقطت داخل المفاعل قبل تدميره في غارة تم تنفيذها يوم السادس من أيلول 2007 بوضوح القضبان التي تتحكم بالحرارة في المفاعل النووي، فيما يشكل واحدة من عدة تشابهات هندسية مع مفاعل على النصف الثاني من الكرة الأرضية حيث تنتج كوريا الشمالية الوقود لترسانتها النووية.
بينما لم تكن الصور مرفقة بتواريخ، فقد بدت بعض الصور التي التقطت منها على الأرض وإنها ترجع إلى ما قبل عام 2005. لكن، وبعد يوم كامل من اطلاع أعضاء الكونغرس بشكل موجز، اقر مسؤولان كبيران في لجنة الاستخبارات بأن الدليل المعني قد تركهما دون أكثر من مجرد “قليل يقين” بأن سوريا كانت تعد لبناء سلاح نووي.
وقالا انه لم تكن ثمة إشارة إلى أن سوريا قد وضعت أسس عملية تستهدف تحويل الوقود المستنفذ من المفاعل إلى بلوتونيوم بمستوى السلاح، لكنهما كانا قد ابلغا الرئيس بوش في السنة الماضية بأنهما لم يستطيعا التفكير في أي تفسير آخر للمفاعل.
كانت من بين الصور التي عرضت على أعضاء الكونغرس والمراسلين يوم الخميس الماضي صورة لمدير مفاعل بيونغ بيون الكوري الشمالي برفقة مدير الوكالة النووية السورية. كما ظهرت سيارة في الخلفية تحمل لوحة ترخيص سوريا. وعندما سئل عن الدوافع وراء مشاركة كوريا الشمالية في المشروع، قال احد مسؤولي الاستخبارات ببساطة “النقود” لكنه رفض تحديد المبلغ.
لم يكن الكشف عن المفاعل شيئا جديدا، إذ كانت صحيفة نيويورك تايمز قد ذكرت في تشرين الأول أن إسرائيل قد لفتت انتباه الولايات المتحدة إلى إن المرفق السوري كان جزءا من مفاعل نووي، لكنه لم يتم اطلاع عدد من المشرعين أكثر من عدد أصابع اليد الواحدة على الهجوم.
من جهته، قال مسؤول رفيع المستوى في الإدارة أثناء إيجاز قدمه للصحافيين بمساعدة مسؤولي الاستخبارات لأول مرة، إن البيت الأبيض كان قد أجرى مباحثات مستفيضة مع إسرائيل قبل توجيه الضربة المذكورة في شهر أيلول.
وقال المسؤول إن البيت الأبيض كان قد أثار احتمال مواجهة سوريا بمطلب الاختيار بين تفكيك المفاعل أو مواجهة شن هجوم. لكن الفكرة بدت وأنها لم تلق استحسان الإسرائيليين أو البعض في الإدارة.
وفي النهاية، استندت إسرائيل، كما قال المسؤول، بدليل من صور القمر الاصطناعي لتثبت أن المفاعل السوري كان يشكل “تهديدا وجوديا” لإسرائيل، لأنه كان على وشك التشغيل.
وأضاف المسؤول الرفيع في إدارة بوش، والذي كان لاعبا رئيسيا في مداولات السيد بوش أن هجوم إسرائيل نفذ “دون أن تتلقى الضوء الأخضر من جانبنا”. وأضاف المسؤول “لم يطلب من أحد ـ ضوءاً أخضر ـ ولم يعط لأحد مثل هذا الضوء”.
وفيما قال أحد مسؤولي الاستخبارات رفيعي المستوى أن الولايات المتحدة وافقت على أن سوريا كانت ماضية قدما في تشغيل المفاعل، فإنها كانت ستحتاج إلى سنوات قبل أن تستطيع إنتاج وقود يصلح لاستخدامه في صناعة الأسلحة.
وكان من غير الواضح كيف خطط السوريون للحصول على اليورانيوم الذي احتاجوا إليه، ومتى ما حصلوا عليه، فقد كان المفاعل ليحتاج إلى العمل فيه لمدة تبلغ حوالي 18 شهرا قبل أن يتمكن من “طبخ” الوقود، ثم يصلح بعدها لتحويله إلى بلوتونيوم بدرجة السلاح، وكان سيحتاج عندها إلى إعادة معالجة، ربما خارج البلاد، ما لم تجد سوريا طريقة لبناء مفاعلها الخاص.
يغلق الإعلان يوم الخميس الماضي فصلا من فصول الاستخبارات السرية والعملية العسكرية، فيما يفتح فصولا أخرى سيكون لها دورها خلال الفترة المتبقية من مدة رئاسة بوش.
ولعل السؤال الأهم الآن يتعلق بالكيفية التي سيرد بها الكوريون الشماليون. وقال بعض المسؤولين إنهم يأملون في أن يحرج الإعلان كوريا الشمالية، ويحملها على الاعتراف بنشاطات عدم الانتشار النووي، في حين قال آخرون انه قد يدفع كوريا الشمالية إلى الانسحاب من طاولة المفاوضات، وبالتالي انهيار الصفقة التي كان السيد بوش يأمل في التوصل إليها مع نهاية فترة رئاسته، والتي تقضي بأنه في مقابل إفصاح كوريا الشمالية عن كافة نشاطاتها النووية، فإن الولايات المتحدة سترفع العقوبات عنها وتشرع في مفاوضة الكوريين الشماليين على مكافأتهم بسبب تنازلهم عن الوقود والأسلحة.
يضاف إلى ذلك أن الإعلان المذكور يثير احتمال حدوث توترات جديدة مع سوريا، سيما وأن البيت الأبيض اتهم حكومة سوريا يوم الخميس الماضي بالتغطية على دعم الإرهاب، وبأنها تقوم باتخاذ إجراءات من شأنها زعزعة الاستقرار في لبنان والسماح للمتشددين بالدخول إلى العراق.
وفي السنة الماضية، كان السيد بوش قد أمر باقتصار أمر المعرفة بموضوع المشروع السوري على قلة من المسؤولين، وكلف وكالة الاستخبارات المركزية بتولي مسؤولية وتجميع أرصدة وكالات الاستخبارات الأخرى.
ومع ذلك، كان الأميركيون قد أخذوا على حين غرة. فطبقاً لقولهم، كان لديهم شكوك في أن كوريا الشمالية وسوريا تعملان معاً في سوريا، لكنهم عرفوا عن أمر مفاعل “الكبر” اسم اقرب بلدة من الموقع بعد تلقوا صورا عن داخل المفاعل في الربيع الماضي من إسرائيل، كما كان مسؤولون أميركيون وإسرائيليون قد أفادوا في السنة الماضية.
كانت صور منتقاة فقط قد نشرت من قبل وكالات استخبارات يوم الخميس الماضي، بما في ذلك شريط فيديو جمع بين صور ثابتة ورسومات، وكان مصحوباً صوت مرافق يعطي الإيحاء بشعور وجود حقبة حرب باردة في سياق الحرب الكورية. وفي الحقيقة، فقد كان القصد في جزء منه، كما قال المسؤولان، هو محاولة جلب تلك الحرب ـ التي لم توقع الولايات المتحدة وكوريا الشمالية أبدا على معاهدة سلام بخصوصها ـ إلى نهايتها.
لكن المعركة تستمر في داخل الإدارة حول ما إذا كانت تجب محاولة التوصل إلى صفقة مع كوريا الشمالية أو إبقائها خاضعة للعقوبات، على أمل تنشيط إمكانيات انهيار حكومتها في الأشهر الأخيرة لرئاسة بوش. في هذه الغضون، أعرب النائب الجمهوري بيتر هويكسترا من ميتشيغان عن انزعاجه يوم الخميس الماضي من أن الإدارة انتظرت سبعة أشهر لاطلاع الكونغرس على هذه التفاصيل. وقال “اعتقد بأن كثيرا من الناس يعتقدون بأنه قد تم استغلالنا هذا اليوم من جانب الإدارة”. في وكالة الاستخبارات المركزية (السي. آي. إيه) قال مدير الوكالة الجنرال مايكل في هايدن للموظفين يوم الخميس إنهم “يجب أن يشعروا بالامتنان لان جهدنا كفريق فيما يتعلق بمفاعل الكبر كان دراسة قضية بحرفية تحليلية عالية ومهارة بشرية وجمع تقني وتعاون وثيق”. لكن، وحتى هذا الانتصار، كما يلاحظ بعض الخبراء، يثير أسئلة حول تركيز الوكالة. إذ أن المفاعل كان قد بني في حدود 100 ميل من الحدود العراقية، لكنه لم يتم التعرف إليه مع ذلك، رغم أن الإدارة كانت تبحث عن أي شكل من هكذا برامج تسليح في العراق. وبالإضافة إلى ذلك، يقر بعض كبار المسؤولين في الإدارة بأن من المرجح أن يجد خليفة السيد بوش نفسه أمام وجود 10 أسلحة نووية كورية شمالية أو وقود نووي أو أسلحة، في مقابل سلاح أو سلاحين اثنين كانا لديها عند تولي السيد بوش مهامه كرئيس في عام 2001. وقال غراهام اليسون، وهو أستاذ في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب “الإرهاب النووي”، والذي كان في واشنطن يوم الخميس الماضي للإدلاء بشهادته حول برنامج إيران النووي : “إنني أميل إلى القول أن النتيجة هي ثمانية لصالح كيم يونغ ايل مقابل صفر لبوش، وإذا ما استطعتم أن تشيدوا مفاعلا في سوريا، من دون أن يتم تعقبكم في سوريا لثماني سنوات، فكيف يكون من الصعب بيع قليل من البلوتونيوم لأسامة بن لادن”؟
COMMENTS