قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى، التي وُقِّعَت عام 1987 بين الرئيسين الأسبقين، الأميركي رونالد ريغن والسوفياتي ميخائيل غورباتشوف، خطوة حاسمة على طريق تفكيك بنية العلاقات الدولية التي قامت على مؤسسات دولية وتحالفات ومواثيق ومعاهدات واتفاقيات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لم يخف الرئيس الأميركي منذ أن كان مرشحاً نيته «تحرير» الولايات المتحدة من «أعباء» هذه التحالفات والمعاهدات والاتفاقيات، أو على الأقل تعديلها لتصبح أكثر انسجاماً مع مصالحها بحسب تعريفه لها.
وتأتي هذه الخطوة لتكمل مساراً بدأ مع إدارة جورج بوش الابن التي قامت كجزء من سعيها لترسيخ الهيمنة الأحادية الأميركية على العالم، في ظل موازين قوى دولية مختلفة عن تلك الحالية، بالانسحاب من معاهدة الحد من منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ عام 2002. اتخذ القرار في ظل ما تسميه تقارير البنتاغون «تصاعد التنافس بين القوى الكبرى» وعودة سباق التسلح بينها، وكذلك تزايد مناطق «الاحتكاك» وساحات الحرب بالوكالة، المنخفضة التوتر حتى الآن. وهو سيؤدي بلا ريب إلى اشتداد التنافس المذكور واستعار الصراعات بالوكالة ودخول العالم في حقبة فوضى مفتوحة على شتى الاحتمالات يصعب التنبؤ بمداها الزمني والجغرافي.
محاولات استعادة الهيمنة الأحادية والفوضى
يذكر دايفيد سانغر وويليام برود، في مقال نشراه في «نيويورك تايمز» يوم 19 من هذا الشهر أنّ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، على الرغم من اتهاماتها لروسيا بتطوير ونشر أسلحة نووية تكتيكية ممنوعة بحسب معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى، لم تنسحب من المعاهدة بسبب اعتراضات الأوروبيين على ذلك، ولحرصها على عدم إطلاق سباق تسلح جديد. لم تكن إدارة أوباما أقل تمسكاً بالحفاظ على موقع مهيمن للولايات المتحدة على صعيد عالمي ولا أكثر تهاوناً مع منافسيها الجدد وأولهم الصين التي صاغ الرئيس الأميركي السابق سياسة «الاستدارة نحو آسيا» لمواجهة صعودها أساساً. الخلاف بين مواقف الإدارتين هو في الحقيقة خلاف بين مقاربتين أميركيتين لمستقبل الدور الدولي للولايات المتحدة.
وبينما ترى الأولى، التي كان أبلغ المعبّرين عنها زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر، أن على الولايات المتحدة أن ترتضي بموقع «الأولى بين متساوين» في علاقاتها مع القوى الدولية الأخرى نظراً للتحولات التي طرأت على موازين القوى الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، أي أن تعترف لهؤلاء بدوائر نفوذ إقليمية على الأقل وأن تحترم المعاهدات والاتفاقيات التي عقدتها معهم، أصرت الثانية على حيوية حفاظها على تفوقها العسكري النوعي عليهم واحتواء صعودهم باعتبارهم «قوى تحريفية»، كما ورد حرفياً في استراتيجية الأمن القومي الأخيرة، ساعية لتغيير أسس النظام الدولي الحالي وأن لا تتردد واشنطن في التحلل من أية معاهدات أو اتفاقيات تمنعها من التصدي لهم بنجاح. كان أوباما يتبنى إلى حد ما المقاربة الأولى، بينما يعبّر ترامب بفجاجة عن الثانية.
الذريعة التي أوردتها الولايات المتحدة لتبرير انسحابها من المعاهدة هي، بالإضافة إلى الاتهامات الموجهة ضد روسيا بتطوير ونشر أسلحة نووية تكتيكية وصواريخ كروز جديدة ورفضها للشفافية في ما يتعلق بذلك، مباشرة الصين في بناء صواريخ متوسطة المدى تحمل رؤوساً نووية. هذه الأخيرة غير موقعة على المعاهدة وهدفها الأول من تطوير قدراتها الصاروخية هو إبعاد البحرية الأميركية قدر المستطاع عن شواطئها وقواعدها في بحر الصين الجنوبي.
وكانت المعاهدة تنص على منع جميع الصواريخ الأرضية التي تراوح مسافتها ما بين 500 إلى 5500 كلم، أي تلك القصيرة أو المتوسطة المدى القادرة على حمل رؤوس نووية تكتيكية أو تقليدية. ولا تشمل المعاهدة الصواريخ الجوية والبحرية. السبب الرئيسي الذي يفسّر السلوك الروسي هو الاستثمار المكثف للولايات المتحدة بأنظمة الدفاع المضادة للصواريخ ومحاولاتها تطويق روسيا بها لشل قدرتها على الرد على ضربة نووية أولى قد تتعرض لها. في مواجهة هذه الاستراتيجية الأميركية الهجومية، لا تمتلك روسيا، حسب سانغر وبرود، سوى الاعتماد على الأسلحة النووية التكتيكية والحرب السيبرانية كجزء من خيار هجومي قليل الكلفة نظراً لأوضاعها الاقتصادية والمالية.
وما إعلان الرئيس فلاديمير بوتين لقرب نشر روسيا لصواريخ بالستية جديدة قادرة على حمل رؤوس نووية تفوق سرعتها سرعة الصوت إلا تأكيد لهذه الحقيقة. الدوافع نفسها، أي الانتشار العسكري الأميركي في جوارها ضمن استراتيجية احتواء موجهة ضدها، تحمل الصين على تنمية قدراتها الصاروخية والنووية التكتيكية.
بكلام آخر، تنسحب الولايات المتحدة من المعاهدة في سياق سياسة هجومية ضد البلدين مهّدت لها في جميع وثائقها الرسمية الخاصة باستراتيجيتها العامة كاستراتيجية الأمن القومي واستراتيجية الدفاع الوطني والوثيقة النووية التي صدرت جميعها في بداية هذا العام. سيترتب على هذه السياسة انطلاق سباق تسلح من دون ضوابط، بما أن الولايات المتحدة بادرت إلى ازالتها، وتصاعد في التوتر بين الأطراف الدولية يترجم عبر المزيد من احتدام النزاعات بالوكالة كما هو الحال في أوكرانيا أو إلى حد ما في سوريا وإلى محاولة استثمار كل طرف لنقاط ضعف الطرف الآخر لاستنزافه (الناتو في أفغانستان، الإيغور في الصين، الشيشان والقفقاز في روسيا، الصراع بين فنزويلا والولايات المتحدة).
قد يفضي هذا التوتر المتصاعد حتى إلى تدويل أزمات محلية في مناطق مختلفة من أفريقيا أو العالم العربي وتحولها إلى ساحات مواجهة واستنزاف. سيتيح هذا التنازع الدولي المزيد من الفرص أمام الأطراف الإقليمية وحتى المحلية، دولتية كانت أو غير دولتية، للاستفادة من التناقضات وتعزيز قدراتها وتحقيق بعض أهدافها. جموح إدارة ترامب في مواجهة القوى الدولية المنافسة خبر سار بالنسبة إلى جميع أعداء الولايات المتحدة في جنوب العالم.
وليد شرارة، كاتب ومفكر سياسي عربي من لبنان
23 تشرين الأول/ أوكتوبر، 2018