«الطلعات الجوية الروسية فوق الأطلسي وبحر البلطيق لا تقلقنا»، هكذا تحدّثت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تعليقاً على ما رصده حلف شمال الأطلسي من حركة لطائرات روسية في أجواء البلطيق، الأمر الذي أثار تخوّفاً لدى أقطابه. تبدو ميركل «غير قلقة» ومرتاحة نسبياً، وشبه متأكدة من أنّه «لا خروقات أخرى ستحصل في هذا الإطار». الموقف الألماني هذا ليس مستغرباً، إذ إنّه منذ بداية الأزمة الأوكرانية تميّزت ألمانيا عن أغلب القوى الغربية بطريقة تعاملها مع روسيا.
فلقد ردد مسؤولون غربيون من الاتحاد الأوروبي والـ”ناتو”، بغضب، أنّ انضمام القرم إلى روسيا هو «اجتياح» خطير يهدّد الأمن الدولي وأمن القارة الأوروبية. وقد تجسّد هذا الخطاب عبر فرض عقوبات على روسيا لتكون بمثابة تهديد رادع لها عمّا يعتبرونه غزواً لشرق أوكرانيا. ولكن، ومع أنّ ألمانيا قد شاركت في فرض هذه العقوبات ولم تختلف مع حلفائها في الخطوط العريضة للسياسة تجاه روسيا، إلا أنّ موقفها لم يكن حازماً وأبقت هامشاً من لغة الحوار بينها وبين موسكو، فاتحةً بذلك مجالاً للنقاش والمفاوضات وإيجاد الحلول.
من الواضح إذاً أنّ النزاع الذي نتج من الأزمة الأوكرانية بين روسيا والغرب قد «زعزع التجانس في الأحلاف الغربية، ليس فقط في حلف شمال الأطلسي، بل في الاتحاد الأوروبي أيضاً. صحيح أنّ ألمانيا اتخذت موقفاً شبيهاً بموقف حلفائها من روسيا، لكنها ستظلّ تؤدي دور الوسيط بهدف التوصل إلى حلّ مع الروس»، بحسب ما يقول البروفيسور الألماني وعضو المجلس التنفيذي في «معهد أبحاث السلام» في فرانكفورت، هانس سبانجلر، في حديثٍ له مع «الأخبار».
فمن أين يأتي هذا «التمايز» الألماني في الموقف من روسيا؟
خلفيات تاريخية رسّخها تعاون اقتصادي
تسكن ضفاف نهر الفولغا الروسي مجموعات إثنية ألمانية نزحت إلى روسيا في القرن الثامن عشر وحافظت على لغتها وتمايزها الثقافي وعاداتها وتقاليدها، ما أدّى إلى تمازج ثقافي مميّز بين الروس والألمان وأعطى العلاقة بين الأمّتين طابعاً استثنائياً. ومع أنّ تبدلات ديموغرافية طرأت، فرضتها الحروب والمتغيرات الاجتماعية، فانخفض عدد الألمان في روسيا، إلا أنّه لا تزال مجموعات منهم موجودة حتى اليوم في تلك المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، فرضت الحرب الباردة وطأتها على ألمانيا، وتولّد عن هزيمة النازيين من قبل المعسكر الغربي والشرقي في الوقت عينه تقسيم البلاد إلى شطرين: ألمانيا الشرقية التابعة للاتحاد السوفياتي، وألمانيا الغربية الموالية للمعسكر الغربي. بقيت الحال هذه ردحاً كافياً من الزمن، نحو أربعة عقود، ما سمح لجيلين على الأقلّ من الألمان الشرقيين بأن ينشأوا في ثقافة روسية، ويتعلّموا اللغة الروسية، ويكملوا دراساتهم في جامعات ومعاهد روسية؛ ومنهم المستشارة الألمانية الحالية أنجيلا ميركل، ما رسّخ التفاعل والتماذج الحضاري بين ألمانيا وروسيا.
وبعد أن توحّدت ألمانيا، تحسّنت العلاقات الروسية – الألمانية بشكل كبير، وذلك لعدّة أسباب بحسب البروفسور سبانجلر، أوّلاً «شعور الألمان بالامتنان لقبول الروس بتوحيد ألمانيا وتخلّيهم عن الجمهورية الديموقراطية الألمانية، والإحساس بضرورة تحسين هذه العلاقة من قبل الطرفين، وثانياً نزوح عدد كبير يفوق المليون من الإثنيات الألمانية التي كانت تعيش في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ما سمح بتكوين جسر ثقافي بين المجتمع الروسي والمجتمع الألماني، وأخيراً والأهمّ رؤية ألمانيا لنفسها كدولة تجارية ساعية إلى تطوير آفاقها على صعيد التصدير، لذا جهدت لإبقاء علاقة طيّبة مع روسيا».
لكن التمازج الثقافي، وبالرغم من أنه منح هذا الطابع الاستثنائي للعلاقة بين روسيا وألمانيا، فإنّه لا يشكّل الدعامة الوحيدة التي أبقتها صامدة في ظلّ التوتر السائد في العالم جراء الأزمة الأوكرانية، فالتعاون الروسي – الألماني على الصعيد الاقتصادي هو «حجر الزاوية في العلاقة بين البلدين»، كما يصفه البروفيسور سبانجلر.
في العام الماضي، بلغت قيمة التبادل التجاري بين البلدين 76،5 مليار يورو (بحسب موقع the local)، معظمها من واردات البتروليات والغاز الطبيعي والأسمدة الكيماوية. وتصدّر ألمانيا إلى روسيا الحديد ومعادن أخرى وأجباناً وخضاراً، والسيارات بشكل أساسي.
ويبدو أن العامل الأبرز يتمثّل في وجود أكثر من مئة شركة ألمانية، تتركز في ولايات البلاد الشمالية، تربطها بروسيا علاقات تبادل تجاري وصفقات، ولمعظمها أيضاً مالكون روس مثل شركة لبناء السفن في فيسمار وشركة الأخشاب «ايليم تيمبر» في فيسمار كذلك. ولكن الأهمّ هي شركة «نورد ستريم» التي تغذّي ألمانيا بالغاز الطبيعي الروسي (تملك شركة «غازبروم» الروسية نسبة 51% من «نورد ستريم»)، عبر خط أنابيب يمتد في قعر بحر البلطيق وصولاً إلى بلدة «لوبمين» الألمانية. واللافت أنّ من يترأس مجلس شركة «نورد ستريم» هو المستشار الألماني السابق، غيرهارد شرودر، الصديق المقرّب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ وهو ما ظهر جلياً في صور عناقهما «الحار» في مدينة سانت بترسبورغ الروسية حيث احتفل شرودر أخيراً بعيد ميلاده السبعين. وقد كانت تصريحاته في أعقاب مؤتمر الأعمال الروسي – الألماني منذ أسابيع لافتة وصريحة، حيث أكّد أنّ على ألمانيا أن تعمّق روابطها في ما يتعلّق بالطاقة مع روسيا وأن تسعى إلى رفع العقوبات عنها، وأضاف أنّ على ألمانيا أن تعود إلى سياستها السابقة مع روسيا وتبتعد عن المواجهة معها. وشدّد على ضرورة تطوير التبادل بين البلدين، خاصة في ما يتعلّق بمصادر الطاقة. وهو يرى أنّ العقوبات الاقتصادية لا تسبب إلا الضرر لكلا الطرفين.
يوضح البروفسور سبانجلر أنّ «ألمانيا احتسبت، بتأنٍّ، العواقب التي قد تطرأ عليها جراء العقوبات الاقتصادية على روسيا، لذلك هي تردّدت كثيراً قبل أن توافق على هذه العقوبات. ولطالما فضّلت ألمانيا المفاوضات الجماعية، لذلك هي حاولت البحث عن حلّ سلمي للأزمة الأوكرانية عبر المفاوضات، وحين رأت أنّ روسيا لم تتقبّل هذه الحلول، تشدّدت في مواقفها».
الأكيد إذاً أنّ العلاقة الروسية الألمانية تتسم بالاستثنائية، وتزداد تعقيداً بعد أحداث أوكرانيا. وبالرغم من عدم تقبّل السلطة الألمانية لأفعال روسيا في الشرق الأوكراني، إلّا أنّ هناك ثوابت بينها وبين روسيا تعمل للحفاظ عليها، أبرزها التعاون الاقتصادي بين البلدين. أمّا بالنسبة إلى المستقبل، فتطرح علامات استفهام كثيرة، في خضمّ المرحلة الحساسة التي يمرّ بها العالم والتي قد تكون بوادر حرب باردة جديدة، قد لا تكفي خلالها الدعامة الاقتصادية للمحافظة على علاقة مستقرّة بين روسيا وألمانيا.
COMMENTS