بعد زيارة مرسي إلى الرياض : المـكشـوف والمـستـور فـي الـعـلاقـات المـصـريـة ـ السـعـوديـة؟

بريطانيا الإمبريالية تنوي التنافس مع روسيا على النفوذ في الدول الأفروآسيوية وأميركا اللاتينية
بلاك ووتر : الحكومة الأميركية تتستر على جرائم شركات الأمن الخاص؟
ألمانيا : الحكومة تقر استراتيجية الأمن القومي

أثارت زيارة الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي إلى السعودية الأسبوع الماضي نقاشاً حامياً، لم يهدأ بعد. وجاء اختيار مرسي للسعودية، كأول محطة يزورها كرئيس مصري، مناسبة لانتقادات حادة، بسبب مساندة السعودية للمخلوع مبارك، بكل ما أوتيت من قوة. ولكن بعيداً عن مناقشة مبدأ الزيارة في حد ذاته وتوقيتها ورمزيتها وملابساتها، فالسعودية دولة عربية شقيقة ووازنة في المنطقة، إلا أن مرسي اقترف خطأ استراتيجياً فادحاً يتجاوز بكثير الجدل القائم حول كل ما سبق.
تعاني العلاقات المصرية ـ السعودية من عطب أساسي، بعد أن قايض مبارك الدور المصري الإقليمي بالعطايا المالية أو ما يُسمى «المساعدات المالية السعودية»، وهو أمر قد لا يعيب السعودية ولا يُعدّ حكراً على تعاملها مع مصر، ولكن العيب، كل العيب، يتمثل في الاستمرار بالسياسات ذاتها مصرياً، من دون القدرة على اجتراح واقع مغاير يترجم موازين القوى العربية والإقليمية بعد 25 يناير/كانون الثاني 2011 خصوصاً، و«الربيع العربي» عموماً.
وتكمن غلطة الرئيس مرسي في زيارته للسعودية، أنه وضع مصر في موقع «الحامي للمسلمين السنة»، في حين نصب السعودية «راعياً» لهم، «مع ما للحماية والرعاية من نسب وأصهار»، حسبما قال، وفاته أن للمفردات أهمية فائقة في السياسة الخارجية واضعاً بذلك مصر مجدداً في الاصطفاف المذهبي الذي تفضله السعودية لأسباب ومبررات سنفصلها ـ مقدماً بذلك هدية كبرى لم تدفع السعودية ثمناً سياسياً أو اقتصادياً لها، وأضاع ـ بتصريحاته حول هوية مصر المذهبية ـ الفرصة على بلاده لتوسيع هامش مناورتها الإقليمية.

كيف نفهم السياسة السعودية؟
تحاول هذه الورقة تحليل طبيعة العلاقات السعودية ـ المصرية على أرضية المصالح الوطنية المصرية، وفي إطار عملية معقدة من التوازنات الدولية والمحلية والإقليمية؛ فتستعرض الجزء الغاطس والعائم في العلاقات المصرية ـ السعودية، قبل أن تنتهي ـ في ضوء كل العناصر السابقة ـ بالإجابة بالنفي عن سؤال: هل نجحت زيارة مرسي إلى السعودية؟
تعد السعودية أحد أكثر بلدان المنطقة تعقيداً وتركيباً، وذلك على العكس تماماً من الصورة النمطية المستقرة في أذهان الكثيرين داخل المنطقة وخارجها. حتى نفهم الطبيعة المركبة للسعودية، علينا تذكر أن السعودية هي بالأساس منطقة نجد ذات الطابع المحافظ والمنغلقة في قلب الجزيرة العربية. ويرتب ذلك على آل سعود المتحدرين من نجد السيطرة على البحار المفتوحة لتأمين منطقتهم المعزولة في عمق الصحراء: شرقاً حيث الخليج، أو جنوباً إلى المحيط الهندي وبحر العرب، أو غرباً وصولاً للبحر الأحمر. أخضع الملك عبد العزيز الحجاز العام 1925 فضمن لنجد طريق البحر الأحمر، في حين بقي طريق نجد إلى المحيط الهندي وبحر العرب مرتهناً بصفقات ومواءمات سياسية مع حكام سلطنة عمان واليمن، وهما أعرق حضارتين في الجزيرة العربية. تأسيساً على ذلك دأبت العائلة السعودية الحاكمة على حفظ توازنات غاية في التعقيد، وعلى مستويات متعددة، أولاً بين الأجنحة المختلفة للعائلة الحاكمة وامتداداتها في مؤسسات الدولة السعودية. وثانياً بين القبائل المنتشرة في نجد وبعضها البعض، ومرة ثالثة بين نجد والحجاز حتى بعد إخضاع الأخيرة، ومرة رابعة بين نجد في مقابل الإحساء والقطيف حيث التمركز الشيعي، وخامسة بين السعودية في مقابل اليمن وسلطنة عمان. ومرة سادسة بين السعودية والعراق في الشمال الشرقي للجزيرة العربية، وسابعة بين السعودية والأردن الذي يفصلها جغرافياً عن إسرائيل، ويملك معها علاقات ود ظاهر وتاريخ باطن من الصراع (حكم الهاشميون الحجاز قبل تغلب آل سعود عليهم وطردهم منه). ثم مرة ثامنة وليست أخيرة تفرض الجغرافيا ـ السياسية توازناً ما بين السعودية والدولة العربية الأكثر سكاناً وتأثيراً، مصر، حيث لا يفصلهما عن بعضهما البعض سوى البحر الأحمر. وتملك السعودية مع مصر ذاكرة مريرة تعود إلى حكم محمد علي باشا (1805ـ1820)، الذي قضى على الدولة السعودية الأولى قبل مئتي عام تقريباً، كما ترجع إلى الزعيم جمال عبدالناصر، الذي وضعها في الخمسينيات والستينيات، بمشروعه القومي وسياساته الشعبية، أمام أصعب التحديات في تاريخها.
تحتاج السعودية المترامية الأطراف، فوق كل تلك التوازنات المحلية والإقليمية، إلى ضمان خارجي لأمنها وثرواتها النفطية الضخمة، وهو الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة الأميركية منذ أربعينيات القرن العشرين وحتى الآن. باختصار تجتمع في تفاصيل المشهد السعودي العام، تعقيدات عائلية ـ قبائلية ـ عربية ـ دولية قل نظيرها، فضلاً عن خلفيات تاريخية مازالت تحكم سلوك العقل السعودي بشكل أو بآخر. ولأجل ضمان استمرار حكم العائلة المالكة السعودية بالنسق والوتيرة ذاتهما، في بيئة إقليمية مضطربة ودولية متقلبة، يتطلب الأمر من حكام السعودية السهر على استمرار التحالف السعودي ـ الأميركي عبر التنسيق الكامل في سوق الطاقة العالمية واستثمار العوائد النفطية هناك، بما يحفظ مكانة الدولار كعملة العالم. وفق هذا المقتضى تعد الولايات المتحدة الأميركية بمثابة الخط الأول للدفاع عن السعودية والساحة الأساسية للتأثير السعودي، حيث تملك الرياض تأثيراً غير منكور في الولايات المتحدة الأميركية، وعلاقات متشابكة مع مجموعات الضغط الأساسية فيها: اللوبي النفطي، المجمع الصناعي ـ العسكري وقطاع البنوك والمصارف.
يُعدّ التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، القطب الدولي الأعظم، والاعتماد عليها في حماية أمنها القومي في مواجهة الطامعين في ثرواتها النفطية، عمود خيمة المصالح الدولية للسعودية. ولذلك الغرض ترسم السعودية سياساتها النفطية في سوق الطاقة العالمية (تصدر 10 ملايين برميل نفط يومياً) بالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة الأميركية، كما تستثمر السعودية فوائضها النفطية بالأخص في الولايات المتحدة الأميركية بحجم استثمارات يتعدى ستة تريليونات دولار، مع ملاحظة أن التريليون هو ألف مليار.
تستورد السعودية السلع والخدمات الضرورية ـ وغير الضرورية ـ من دول العالم المختلفة، بما يضمن التأثير في القرار السياسي لهذه الدول وتعديل نظرتها إلى السعودية ونظامها السياسي ـ الاجتماعي. وفي سياق التحسين المستمر لصورتها في الغرب، خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، تبذل السعودية الكثير من الجهد والمال لعقد مؤتمرات «حوار الأديان» وحملات الديبلوماسية العامة لتعميم صورتها باعتبارها «الشريك» الذي يعتمد عليه في الشرق الأوسط وسوق الطاقة العالمية. أما الخط الدفاعي الثاني للسعودية فهو جبهتها الداخلية، التي تسهر العائلة الحاكمة على بقاء خيوط توازناتها في يدها، عبر إجراء المواءمات المطلوبة لهذا الغرض. يتمثل الخط الدفاعي الثالث للسعودية في التوازنات الإقليمية، وعدم بروز مصادر تهديد لمصالحها، مع ملاحظة أن الخط الثالث هو أصعب خطوط الدفاع السعودي، لأنه يتعامل مع أطراف إقليمية طامحة، تكون في الأغلب أقوى عسكرياً، وأكثر سكانياً وتملك مشروعاً قادراً على حشد جماهير المنطقة خلفه (حالات مصر الخمسينيات والستينيات وإيران منذ مطلع القرن الجديد). وتتفاقم الصعوبة بملاحظة أن السعودية تمثل حالة استثنائية لا يمكن تعميمها إقليمياً، مثلما يصعب تصور أن يصمد نموذجها السياسي والمجتمعي الذي تمثله أمام المقارعات السياسية والإعلامية للمشروعات الإقليمية المختلفة.

الخطوط العامة لمصالح السعودية الإقليمية
تنظر السعودية إلى التوازن الراهن بالشرق الأوسط بين القوى الدولية، والذي يعرف نفوذاً واضحاً للولايات المتحدة الأميركية مقابل الأقطاب الدولية الأخرى، باعتباره مؤاتياً لمصالحها فتعمل على تثبيته بكل الوسائل. ويظهر ذلك في سعيها لمنع أطراف دولية، مثل روسيا أو الصين، من إيجاد موطئ قدم لها في المنطقة، إلا بقدر ما تسمح به موازين القوى بين الأقطاب الدولية. ويعد الإعلام جوهر «القوة الناعمة» السعودية في الإقليم، إذ تسيطر المملكة على وسائل الإعلام النافذة عربياً، بغرض وضع أولويات السعودية وخياراتها السياسية في مقام الخطوط العامة للسياسة العربية. وبالإضافة إلى ذلك تعمل السعودية على نشر المناخ المحافظ، دينياً وسياسياً وإعلامياً وثقافياً، في المنطقة، بما لا يتناقض مع أطروحاتها أو نظامها السياسي. ويتم ذلك عبر تثبيت قيم «الربيع العربي» المناسبة لها والمؤاتية لمصالحها، في مقابل أفكار التغيير الليبرالية في الأربعينيات أو القومية واليسارية في الخمسينيات والستينيات، أو تلك الأفكار التي ظهرت مؤخراً في سياق «الربيع العربي». برعت السعودية في الأغلب ـ في اختيار وتعميم الاصطفاف الإقليمي المؤاتي لمصالحها، وهو راهناً الاصطفاف «السني ـ الشيعي»، حيث تملك الأدوات اللازمة لإدارة هذا الاصطفاف: الفوائض المالية، وجود المقدسات الإسلامية في مكة والمدينة ضمن حدودها السياسية، السيطرة الإعلامية، التحالفات الإقليمية مع الأطراف المحلية في بلدان المشرق. باختصار تكمن المصالح الإقليمية للسعودية في معاداة التغيير وتفضيل إبقاء التوازنات العربية والإقليمية على حالها، أو بعبارة أخرى تدافع السعودية بضراوة عن استمرار الوضع القائم (status quo)، ما يمثل نقطة ضعفها الأساسية. ويعود السبب في ذلك إلى اضطرارها للتموضع في موقع الدفاع أمام أية قوة في المنطقة، تطرح مشروعاً إقليمياً يتجاوز حدودها، بغض النظر عن محتواه. لكل ذلك تعمل السعودية بدأب على تعزيز ورعاية الاتجاهات المحافظة السياسية والدينية في المنطقة، فتفلح من ناحية في كبح الاتجاهات الليبرالية، إلا أنها من ناحية أخرى تدفع ثمناً سياسياً كبيراً لظهور اتجاهات راديكالية ومغرقة في المحافظة خلال العقدين الأخيرين (حالة تنظيم القاعدة مثالاً).

مخاوف السعودية من الوضع المصري الجديد
تحيط مصادر التهديد بالسعودية من كل اتجاهات جوارها الجغرافي، سواء من أقصى الشمال حيث الوضع في سورية المتحالفة مع إيران، أو من الشمال الشرقي حيث العراق بتركيبته السياسية الجديدة، أو من الشرق في الخليج عموماً والبحرين خصوصاً، إذ أن تغير المعادلات الداخلية في البحرين سيعني خسارة مباشرة للسعودية. ومن الجنوب الغربي، حيث عدم الاستقرار في اليمن والمعارك الطاحنة التي دارت مع الحوثيين فيه خلال الأعوام القليلة الماضية، كل مصادر التهديد هذه تحمل ـ من المنظور السعودي ـ طابعاً يتعلق بالصراع السني ـ الشيعي، الذي تراه المملكة الصراع الأساسي الدائر في المنطقة. وتأسيساً على ذلك تعد إيران من المنظور السعودي ـ التهديد الرقم الواحد لأمنها القومي، وبسبب موازين القوى الراهنة في المنطقة وعدم قدرة التحالف الذي تقوده السعودية على تعديل هذه الموازين من دون إسناد إقليمي، تحتاج السعودية إلى حلفاء ينضوون في معسكرها من داخل الإقليم. هنا بالتحديد تكمن مخاوف السعودية من محاولة القاهرة الجديدة توسيع هامش مناورتها الإقليمية؛ عبر مد جسور التواصل إلى طهران. ستشكل إعادة العلاقات المصرية ـ الإيرانية، ضغطاً كبيراً على السعودية التي ستكون متعرضة وقتها للضغط عبر سواحلها الشرقية من إيران، أو من سواحلها الغربية من مصر، وهو تهديد مزدوج لم تتعرض له المملكة في تاريخها حتى الآن. ومع انسحاب القوات الأميركية من العراق، ومحاولة واشنطن اجتراح توازنات جديدة للقوى في المنطقة، بحيث تؤمن مصالحها من جهة، ولكنها لا تضطر إلى التوسع في قواعدها العسكرية فيها من ناحية أخرى. هنا ستلعب التحالفات الجديدة في المنطقة الحجر الزاوية في السياسة الأميركية الجديدة، وبالتالي يعد المحور المصري ـ التركي نظرياًـ أحد أضلاع التوازن الأميركي الجديد. ومن شأن تطوير العلاقات المصرية ـ التركية إلى مرتبة «التحالف الاستراتيجي» كما تدعو أنقره إليه، أن يضعف الرقم السعودي أكثر في المعادلة الإقليمية، خصوصاً أن القاهرة وأنقره تتحالفان أيضاً مع الولايات المتحدة الأميركية، وكلتاهما له حيثية طائفية سنية قادرة على التنافس مع مثيلتها السعودية.
مثلت «القضية الفلسطينية» وعدم القدرة على تسويتها، سلمياً او عسكرياً، نقطة الضعف الأبرز في التحالف الذي قادته السعودية في العقود الأخيرة. ومن شأن محاولة النظام الجديد في مصر أن تعزل إسرائيل سياسياً واقتصادياً فينفتح على قطاع غزة، ويتبنى مطالب الشعب الفلسطيني، أن يكتسب مشروعية عربية وإسلامية جديدة، ويجبر السعودية على مسايرته حفاظاً على شرعيتها العربية والإسلامية. ستؤدي المسايرة إلى خلق مشاكل للسعودية وإلى إجراء تبديلات لا تريدها في أولوياتها الاستراتيجية (إيران العدو الرقم الواحد)، ما يجعلها أيضاً تدفع كلفة سياسية كبيرة في واشنطن وعند مجموعات الضغط المؤثرة هناك، مع العلم أن تحالف الرياض الخارجي الأساسي يقع وراء المحيط وليس داخل المنطقة، كما سبق شرحه.
تعني عودة مصر إلى المعادلات الإقليمية اكتسابها رصيداً كبيراً في العالم العربي، بما تملكه من مقومات القوة الناعمة، وبالرصيد التاريخي الذي راكمته في عقود خلت، ما يفقد السعودية موقع القيادة الذي تولته خلال العقود الثلاثة الماضية بموافقة ومبايعة «مباركية» واضحة. عند تبني القاهرة الجديدة لفكرة «تصدير ثورتها» إلى العالم العربي، عبر ظهور خطاب سياسي مصري يدعو إلى التغيير، لن تكون السعودية في منأى من انتقال «الربيع العربي» إليها. وازدادت المشكلة مع ظهور «الإخوان المسلمين» على الساحة السياسية المصرية والعربية بعد «الربيع العربي»، وهو ما يهدد بسحب الشرعية الدينية السنية التي تلتحف بها السعودية، عبر تقديم نموذج إسلامي سني مغاير وأكثر تناغماً مع العصر. ومن نافلة القول أن محاولة «الإخوان المسلمين» لتفعيل تنظيمهم في السعودية ستعقد التوازنات الداخلية السعودية بشكل كبير.

أوراق السعودية حيال مصر
تحتفظ السعودية بعلاقات وثيقة مع أجهزة ومؤسسات ورموز الدولة المصرية، منذ أيام الرئيس المخلوع مبارك، وهو ما يسمح لها بتأثير لا يستهان به على عملية صنع القرار في مصر. كما تتحالف السعودية مع التيار السلفي وترعاه (يملك 25% من مقاعد البرلمان المنحل)، بغرض تحجيم «الإخوان المسلمين» وكبح قدرتهم على المناورة في الداخل أمام القوى الليبرالية واليسارية من ناحية، والمؤسسة العسكرية من ناحية أخرى. وتمتلك السعودية وسائل إعلام نافذة عربية ومصرية، حيث تعد المالك الأكبر للصحف والفضائيات العربية، وبدورها تتحالف أغلبية الصحف والفضائيات «المستقلة» في مصر (زاد عددها بعد 25 يناير/كانون الاول 2011 بوضوح) مع السعودية عبر طرق وأساليب شتى، ما يؤثر بشدة على أجندة السياسة الداخلية المصرية. ويعرف العالمون ببواطن الأمور أن القيادة السعودية تعد خطاً أحمر في الغالبية الكاسحة من وسائل الإعلام المصرية، سواء قبل الثورة أو بعدها، في حين لم يكن المخلوع مبارك أو المنتخب مرسي كذلك بأي حال وحتى الآن. كما برعت السعودية في استمالة النخبة العربية والمصرية الإعلامية والسياسية، بطرق وميكانيزمات لا تحتاج إلى كثير من الشرح، وهو ما يضمن لها وسيلة ممتازة للتأثير في التوازنات الداخلية المصرية.
جرت مياه كثيرة في نهر النيل منذ زيارة الاقتصادي المصري الكبير طلعت باشا حرب إلى السعودية عام 1933، التي دشن خلالها عدداً من المشاريع الاقتصادية المصرية مثل إنشاء فرع لبنك مصر في السعودية، وافتتاح خط طيران تجاري بين جدّة والقاهرة، كما نفذت مصر وقتها عدداً من المشروعات العمرانية في السعودية. قامت مصر خلال تلك الفترة وما تلاها بمساعدة السعودية، عبر تقديم المساعدات المصرية الاقتصادية والتنموية. وتصادم البلدان ـ كما هو معروف ـ في الخمسينيات والستينيات وتواجها في حروب بالوكالة. ومع تقلب الأيام والفورة النفطية في سبعينيات القرن الماضي (خلال وبعد حرب أكتوبر/تشرين الأول المجيدة 1973)، فقد انقلبت المعادلة تماماً. خرجت السعودية ودول الخليج رابحة سياسياً من التحولات الدولية والإقليمية التي تلت الحرب، إذ مالت الموارد المالية، المتحققة للرياض من ارتفاع أسعار النفط، ميزان القوى العربي والإقليمي لمصلحتها. وفي الوقت نفسه خرجت مصر منهكة من حروبها مع إسرائيل، وهي تعاني من ضائقة اقتصادية. ومع التحولات السياسية الكبرى لمصر في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، أصبحت ورقة «المساعدات المالية» السعودية ورقة هامة للأخيرة في إدارة علاقاتها مع مصر. وتفاقم الوضع في عصر الرئيس المخلوع مبارك، الذي كان أول حاكم مصري يسلم للسعودية بزعامة العالم العربي. وتظهر هذه الحقيقة باستعراض مواقف الراحلين: الملك فؤاد، والملك فاروق، والرؤساء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات، حيال أحقية مصر في قيادة المنطقة. تمثل حجر زاوية السياسة السعودية في عصر مبارك في منع مصر، منافسها التقليدي على الزعامة العربية، من امتلاك هامش مناورة خاص بها، بحيث لا تتمكن من تغيير التوازنات الإقليمية الراهنة، ومن ثم مقايضة هذا الهامش بما يسمى «المساعدات المالية السعودية».
استمرت سياسة توظيف «المساعدات المالية السعودية» للتأثير على القرار السياسي المصري بعد 25 يناير/كانون الثاني 2011، عبر وعود بمساعدات تبلغ أربعة مليارات دولار لم يصل منها مصر إلا حوالي نصف مليار دولار فقط، مقابل ستة تريليونات دولار (ستة آلاف مليار) تستثمرها السعودية في الدول الغربية عموماً والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً، أي أن مصر حصلت عام 2011 من السعودية على «مساعدات مالية» تمثل واحد من اثني عشر ألفاً من مجموع الاستثمارات السعودية بالخارج.
وإذ يحلو لبعض المحللين السعوديين التذكير بحجم العمالة المصرية في السعودية التي تزيد عن مليون شخص، إلا أن هناك بالمقابل 400 ألف سعودي يعيشون في مصر. تعد السعودية أكبر شريك عربي تجاري لمصر، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في العام 2010 حوالي مليارين ونصف مليار دولار، ولكن مع عجز في الميزان لصالح السعودية ناهز المليار دولار. كما تأتي السعودية كثاني أكبر مستثمر في مصر، حيث يقدر حجم الاستثمارات السعودية في مصر بعدة مليارات من الدولارات، إلا أن أغلب هذه الاستثمارات يتموضع في الأنشطة الخدمية والتجارية، التي لا تطور هيكلية الاقتصاد المصري بقدر ما تعيده على السعودية من فوائد مالية كبيرة. وبالإضافة إلى ذلك يمول الرأسمال المصري ـوفقا لأرقام هيئة الاستثمار السعودية ـ أكثر من ألف مشروع في السعودية، بإجمالي تمويل قدره ثلاثة أرباع مليار دولار (750 مليون دولار). ويبلغ الإنفاق السعودي في السياحة المصرية نصف مليار دولار سنوياً، ولكن في مقابل مبالغ أكبر يدفعها المصريون سنوياً إلى السعودية لقاء زيارتهم الأماكن الإسلامية المقدسة (مكة والمدينة المنورة) في مواسم الحج والعمرة. لكل هذه الأسباب تحتاج مقولة «المساعدات المالية» السعودية لمصر إلى تروٍ وتمحيص كبيرين؛ وإذ ترددت أقاويل بشأن هروب قسم من أموال الرئيس المخلوع مبارك إلى السعودية، تصبح مقولة «المساعدات المالية المصرية» إلى السعودية مشروعة ومبررة إلى حد كبير.

هل نجحت زيارة مرسي؟
تعاني العلاقات المصرية ـ السعودية من عطب أساسي، مفاده أن التلويح بما يسمى «المساعدات المالية السعودية» لانتزاع انصياع مصري كامل للشروط والرغبات السعودية، قد أصبح المعلم الأساسي لهذه العلاقات في العقود الثلاثة الماضية. من ناحية أخرى تدفع الامكانات الاقتصادية لكلا الطرفين المصري والسعودي إلى الدخول نظرياً في علاقة تكاملية، بحيث تتضافر الفوائض المالية السعودية، مع الأيدي العاملة المصرية والموقع الجغرافي المتميز، لخلق فوائد متبادلة للطرفين، وهو ما لم يحدث بالقدر الكافي حتى الآن. فلا مبارك كان قادراً على خلق تنمية اقتصادية في مصر، ولا السعودية كانت راغبة في ذلك للأسباب التي شرحناها. والدليل على ذلك أن الاستثمارات السعودية في مصر تمثل أقل من كسور ضئيلة (أقل من واحد بالعشرة آلاف) من مجمل استثماراتها في العالم.
وقد استمرأ مبارك مقايضة الدور بالعطايا، وفاته أن العطايا لا تؤسس لأدوار، وإنما تلغيها بمرور الوقت. قد لا يعيب السعودية أنها تستخدم فوائضها المالية للتأثير على القرار السياسي للدول الأخرى، ولا يعدّ هذا الأمر حكراً على تعاملها مع مصر، إذ تقوم السعودية عبر وسائل متنوعة، بالتأثير على قرارات الدول الكبرى بما فيها الولايات المتحدة الأميركية. ولكن العيب، كل العيب، يتمثل في الاستمرار بذات السياسات مصرياً، من دون القدرة على اجتراح واقع مغاير يترجم موازين القوى العربية والإقليمية بعد 25 يناير/كانون الثاني 2011 خصوصاً، و«الربيع العربي» عموماً. أثبتت السياسة السعودية تجاه مصر أن الأولى لاعب عقلاني يعرف حدود قوته ومواضع استخدامها، في حين أن الثانية قد فرّطت، تحت حكم مبارك وهيمنة نخبته الفاسدة، في مصالحها الوطنية من هذه العلاقة. لا تلام السعودية هنا، ولا يتحمل الرئيس المنتخب محمد مرسي وزر ذلك بأية حال.
ربما يكون إعادة تقييم مصر لتوجهها الاستراتيجي هدفاً بعيد المنال راهناً، في ضوء عدم استقرار التوازنات الداخلية المصرية، ولكن يتوجب على مصر الآن أن تعمل على توسيع هامش مناورتها الإقليمية كهدف مرحلي. ويمكن الوصول إلى هذا الهدف المرحلي عبر الوقوف على مسافات بعينها من مختلف القوى الإقليمية؛ بحيث تسقط في يدها أوراق جديدة لمساومة اللاعبين الآخرين في لعبة التوازنات الإقليمية.
وضع الأخير مصر مجدداً في الاصطفاف المذهبي الذي تفضله السعودية ـ لأسبابها ومبرراتها التي أتينا عليها سابقاً ـ، مقدماً بذلك هدية كبرى لم تدفع السعودية ثمناً سياسياً أو اقتصادياً لها. وغاب عن الرئيس المصري المنتخب أن الهوية الطائفية لمسلمي مصر ليست في حاجة إلى إثبات من أحد، مثلما لا يتطلب تظهيرها مواجهة مذهبية مع أحد. سيؤدي وضع الأمور في هذا السياق المذهبي الصرف، إلى أن تتصارع مصر مع تركيا على المركز الثالث في «المعسكر السني»، بعد السعودية وباكستان. بالمقابل سيقود توجه مصر نحو مشروع وسطي، ولعب أدوار إقليمية متدرجة مع حالتها الراهنة؛ عبر قيادتها لعملية الحوار السني ـالشيعي، إلى نتيجة مختلفة تماماً. ستضع هذه العملية ـ إن حدثت ـ مصر في الصف الإقليمي الأول مباشرة، وتكسبها قوة ناعمة جديدة، ولن تكلفها أثماناً باهظة لقاء ذلك. هنا بالتحديد مكمن الخلل بالأداء المصري، فالرئيس محمد مرسي، زار السعودية في ظرف دقيق وحساس مصرياً وعربياً، في زيارة تطمين ليس من المهم كثيراً الاستغراق في مناقشة مبرراتها. شد مرسي الرحال إلى السعودية وهو رئيس منتخب لأكبر دولة عربية، في ظروف سعودية معقدة بعد وفاة وليي العهد، الأميرين سلطان ونايف، وقلق يتعلق بالخلافة وميكانيزمات انتقالها بين أكبر أعضاء العائلة الحاكمة سناً، وهو ما أعطاه مزية سياسية فريدة. ولكن مرسي أضاع ـ بتصريحاته حول هوية مصر المذهبية ـ الفرصة على بلاده لتوسيع هامش مناورتها الإقليمية، فاقترف بذلك خطأ استراتيجياً فادحاً يتجاوز بكثير الجدل حول توقيت الزيارة ورمزيتها وملابساتها. وإذ يقوم المنتظم الإقليمي الراهن على جثة مصرـ مبارك التاريخية، يتوجب من أجل تحقيق طموحات المصريين وحقهم الطبيعي والمشروع في المشاركة بتقرير مصير الإقليم، إزاحة منتظم كهذا. ولن يتأتى ذلك إلا بإعادة تشكيل علاقات مصر الإقليمية والدولية، مع تلافي أوجه القصور التي شابتها في العقود الثلاثة الماضية، واستعادة هامش المناورة الإقليمية لمصر بكل الطرق والوسائل، وعدم التفريط به سواء تحت الضغط أو الترغيب بأي وسيلة حتى ولو كانت «المساعدات المالية السعودية».
لا يريد أحد قطيعة مع السعودية أو تردياً في العلاقات معها، فذلك لا يخدم بالضرورة المصالح الوطنية المصرية، ولكن من غير المقبول وطنياً في مصر، خصوصاً بعد انتفاضتها الشعبية الباسلة، أن تستمر العلاقات الثنائية مع السعودية سائرة بذات الآليات والمنوال الذي سارت عليه في العقود الثلاثة الأخيرة؛ بحيث تخصم من مكانة مصر وقدرتها على المناورة الإقليمية بعد أن تؤبدها في موقع المستجدي لما يسمى «المساعدات المالية السعودية». ربما يكون الأوفق للمصالح العربية العليا أن يصار إلى إعادة تركيب العلاقة الثنائية المصرية ـ السعودية على أساس الندية والمنافع المتكافئة، وبما يعكس ثقل مصر الحضاري والتاريخي. ولا يعقل أن تستمر العلاقات المصرية ـ السعودية سائرة في مباراة صفرية، فيها فائز بكل شيء وخاسر لكل شيء، بل يجب العمل على تبديل إطارها ليصبح تنافسياً ـ تعاونياً لمصلحة الطرفين. ولأجل الوصول إلى هذا الهدف الكبير، ينبغي أن يتحاور البلدان الكبيران بهذه الروحية، وأن يديرا خلافاتهما على هذه الأرضية.

Please follow and like us:

COMMENTS