ثمة أسئلة استراتيجية يطرحها أصحاب القرار اليوم في شأن التحولات الجارية على المسرح الدولي، ومكانة فرنسا في التحليل الأخير كرافعة لعدد من القضايا التي كانت تستقطب في أثناء الحقبات الذهبية، قطاعات واسعة من الرأي العام في العديد من دول الجنوب، ولاسيما نخب العالم الثالث التي كان يستهويها تمسك باريس بفرادتها وتميزها في أحلك أيام الحرب الباردة. ولعل العهد الاشتراكي الجديد برئاسة فرنسوا هولاند الذي بدأ في ظل تراكم الأزمات الداخلية والخارجية من مالية واقتصادية وسياسية قد دفع أصحاب القرار إلى استشراف المستقبل القريب والمتوسط. الأمر الذي ظهر جلياً في الخطاب الذي ألقاه في إفتتاح مؤتمر السفراء الفرنسيين المعتمدين في العالم قبل أيام في باريس.
فعلى الرغم من الأولوية البارزة التي خص بها الأزمة السورية وتداعياتها على المستوى الاعلامي ـ الديبلوماسي، حيث وضعها في المرتبة الثانية بعد أزمة الاتحاد الأوروبي البنيوية، إلا أن خطابه كان غني الدلالات لتفسير المنحى الجديد الذي قد يأخذه مخاض العلاقات الدولية في المقبل من الأشهر والسنوات. إذ ثمة إعتراف ضمني لدى هولاند بأن العالم القديم الموروث بعد سقوط الإتحاد السوفياتي يتداعى باطراد لمصلحة تجمعات وازنة أخرى تأخذ شكل دول “البريكس” او غيرها من التكتلات الاقليمية والدولية. فقرر على ما يبدو إجراء نقلة قد تكون نوعية في إدارة العلاقات المتعددة الأوجه مع تلك الدول وفق عدد من المبادئ. بينما كان سلفه نيكولا ساركوزي قد التحق بالركب الأميركي في عهد الرئيس السابق جورج بوش واستمر من دون تبصر واعتبار لحساسية الرئيس الديموقراطي الحالي باراك أوباما ومدى انعكاس ذلك على هامش حركة باريس على المستوى الديبلوماسي، كما أنه لم يلتفت إلى تأسيس علاقات متجددة ومثمرة مع دول ناشئة كالبرازيل والمكسيك واليابان وتركيا وفيتنام واندونيسيا وغيرها.
وأكد هولاند بأن “ما يميز العالم اليوم بنظري هو اللاإستقرار، حيث أن النظام القديم تبدد لكن من دون أن ينشأ نظام آخر بعد. ثمة قوى جديدة أكدت حضورها، فهي قوية بعدد سكانها وإقتصادها لكنها لا تزال مترددة لإحتلال مكانها وتولي كل مسؤولياتها. ولقد تبددت المعسكرات منذ وقت بعيد، لكن التجمعات الجديدة لا تزال تبحث عن ذاتها، فهي تقوم على الجغرافيا والمصالح والتقارب الثقافي لكن من دون إنسجام في ما بينها”.
هذه المحصلة تعكس جانباً من قراءة فرنسية واقعية لمخاض نشوء عالم متعدد الأقطاب، ممهورة بتمسك بقيم حقوق الإنسان والديموقراطية والعدالة الدولية والعلمنة والمساواة بين النساء والرجال. .. قد تسترشد بها باريس لنسج علاقات مع دول “البريكس” ودول أخرى ناشئة. ويقول هولاند في هذا الصدد:” حين تكون فرنسا باردة ومترددة أو صامتة تتراجع. ولهذا السبب نخدم مصالحنا ذاتها حين نؤكد تمسكنا بالديموقراطية ومكافحة الفساد وإحترام الحق والقانون. وفرنسا هي جسر بين الأمم، ومنها الدول الناشئة، وبين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب. بلدنا هو جهة فاعلة ووسيط حوار بين الحضارات. ”
ويلفت إلى أن “استقلال فرنسا هو الذي يجعل منها قيمة لا غنى عنها للعالم”، مقترباً بذلك من المفهوم الذي طبع العقود الأخيرة.
في هذا السياق، قال وزير الشؤون الخارجية لوران فابيوس في خطابه الختامي في المؤتمر المشار إليه: “تقوم علاقات الصداقة مع الولايات المتحدة على المعادلة الصحيحة، نحن حلفاء من دون انحياز”… وروابطنا الخاصة مع العديد من الدول، تسمح بالإعتراف بنا كقوة وكقوة مفيدة. لبلدنا تأثير يتجاوز ما يمكن استنتاجه فقط من الحقائق المادية. فرنسا هي في الواقع “قوة تأثير”.
ويؤكد بأنه ” إذا كنا نريد لبلدنا أن يحافظ على مكانته الدولية أو يحسنها لمصلحة مواطنينا. فعلينا أن نثمن مميزاتنا وأوراقنا الرابحة…ونحن في حاجة إلى رؤية واضحة عن العالم وتطوره”.
وما يبدو واضحاً ان شيئاً معيناً يتحرك على مستوى “التفكر الاستراتيجي” في فرنسا لا يزال في بداياته الأولى، إلا أن مآل إرهاصاته هذه ستحددها ترجمة المبادئ على الصعيد العملي في معالجة أزماتها الداخلية الملحة أولاً وكذلك على المستوى الدولي. لكن ما هو مؤكد أن باريس أطلقت مؤشرات انفتاح على البلدان الصاعدة، مع بداية “استدارة” باتجاه دول “البريكس”. أما النظام الدولي الحالي ومعضلاته التي برزت على خلفية إحتدام الانقسام الحاد حول الأزمة السورية فله حديث آخر.
COMMENTS