حبيب الشرتوني يكتب : “عن عمّي شفيق في ذكرى استشهاد سعاده”

حبيب الشرتوني يكتب : “عن عمّي شفيق في ذكرى استشهاد سعاده”

بحرية الصين تطوق حاملة طائرات أميركية : هل انتهت الهيمنة الغربية على “المياه الحرة”؟
عن ناجي العلي: لقاء مع عبد الملك سكرية
إحياء ذكرى سمير أمين في جوهانسبرغ ودار السلام وداكار وفي القاهرة جائزة ستحمل اسمه

بناءً على رغبة الأمين لبيب ناصيف* الواردة على موقع جريدة «البناء» بتاريخ 25 أيلول 2017، ومفادها أن أُرسلَ إليه – كونه أحد أبرز الموثّقين للتاريخ الحزبي – ما يغني السيرة الحزبية كما الشخصية لعمّي شفيق، سائلاً إن كنت أملكُ أية معلومات عنه، وبعد أن هممتُ في تدوين القليل مما عرفته عن عمّي شفيق أو عن الحزب من خلاله – ليس إلّا بسبب قلّة كلامه تماماً كأبي وبقية أعمامي – صادفتني ظروفٌ معيقة طال أمدها حتى مطلع صيف 2019، حيث عدتُ إلى مسوّدتي لأحقق تلك الرغبة التي قد تنتابُ الكثيرين من القوميين ومن أصدقاء الحزب المهتمّين بتاريخه، وعليه أفيدُكم بالتالي:
انتمى عمّي شفيق حبيب الشرتوني إلى «الحزب الشيوعي اللبناني» بعَيد تأسيسه في عام 1924 ببضع سنوات، وكان في مطلع العشرينيات من العمر إذ توفي عن 74 عاماً خلال اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 أي أنه ولد في 1908، فالتقى بعض مسؤوليه في مناسبات حزبية ومنهم فرج الله الحلو وخالد بكداش وأرتين مادويان، كما استطاع أن يستقطبَ ثمانين عضواً انتموا في شرتون وحدها كما روى لي بعضهم، لكنّه لم يمكث أكثر من سنتين في الحزب الشيوعي بعد أن توظّف كتحرّ في العدلية وأفيدَ من أحد المخبرين عن وجود أستاذٍ في الجامعة الأميركية يسعى بأفكاره الغريبة لأذية البلاد، فالتقاهُ بطريقةٍ أوحى له من خلالها أنها صدفة وتعرّف فيها إلى أنطون سعاده مدرّس اللغة الألمانية.
جلس إلى جانبه على أحد المقاعد الخشبية وراح يسأله بعض الأسئلة من باب المسايرة والاستيضاح، فأُعجب بتلك الأفكار وطلب منه موعداً ثانياً ووافق سعاده على الموعد.
أحضرَ في ذهنه مجموعة أسئلة كي لا يدوّنها على ورقة ليتلوها تلاوةً أمام المجيب، وما أن التقاه بادره سعاده قائلاً: تريدُ أن تسألني كذا وكذا، فارتبكَ عمّي قليلاً وكأنّ الآخر يقرأ أفكاره، لكن الأستاذ أكملَ: لا بأس سوف أجيبك على أسئلتك، وفعلاً طالت الجلسة وأجابه مليّاً على ما انتاب ذهنه من حيرة وتساؤلات، وعندها أيقن عمّي أنه يجلسُ أمام زعيمٍ بكلّ ما تحملهُ الصفةُ من معانٍ. بات يتلهّفُ للقائه كلما انتهى من دوام الوظيفة ما جعلَ تلك اللقاءات شبه يومية بين عامي 1933 تاريخ انتماء عمّي إلى الحزب القومي و1939 تاريخ اغتراب الزعيم القسري إلى أميركا الجنوبية. فكان من بين المجموعة الثانية والقليلة العدد التي أقسمت اليمين للمؤسس، فيما اقتصر المنتمون في العام الأول للتأسيس على حفنة كما ورد في وثائق الحزب بسبب سريَّته، وكان يحتفظُ ببطاقته الحزبية القديمة وعليها الرقم 34 أي أنه المنتمي الرابع والثلاثون. (أنوّه هنا إلى أنه لم تكن تتوفر حينها آلات التصوير، كما حصل بعد عودة سعاده من مغتربِه في عام 1947، لذا نادراً ما التُقطت له صور وللقوميين قبل تلك المرحلة).
كلَّفه الزعيم – كما فهمت من أطراف كلامه – في تلك الفترة مع بعض القوميين من رعيلِه بعددٍ من المهام التي ارتدى بعضها طابعاً أمنياً على سبيل حماية القوميين من الاعتداءات والانتهاكات التي كانوا يتعرّضون لها، ومع أنه لم يبُح لي بشكلٍ واضح بما فعله في ذاك الوقت، إنما ألمحَ مراراً عن عدم قبول الزعيم بالرضوخ لتلك الاعتداءات للتنازل عن حقوق القوميين في الدفاع عن أنفسهم، ما اقتضى استعمال العنف في بعض الحالات. 
أما بالنسبة إلى المهام الحزبية العادية فانصبّ غالبها على إيصال المراسلات بشكلٍ سرّي وعلى عمليّة انتشار الحزب من خلال نشر فكرِه وبناء علاقات اجتماعية في عددٍ من المناطق والمتّحدات ومع عائلات وجمعيات ومؤسسات وأفراد.
وما لمستُه من كلام عمّي كان إعجاباً عند معظم القوميين بشخصية سعاده أكثر منه فهماً للعقيدة التي وضعها.
أُضيف هنا نصاً عن تلك الحقبة كنتُ قد دوَّنته في مذكراتي التي لم تصدرْ بعد للأسباب المعروفة:
أمّا عند انكشاف «القومي» في عام 1935 أُحيل إلى المحكمة المُختلَطة من قضاة لبنانيين وفرنسيين، الذين نصحوه بنكران انتمائهِ بسبب وساطة جدّي له الذي كان مختاراً أساسياً لمحلّة رأس بيروت على مدى 24 عاماً ثمّ اليد اليُمنى لرئيس دولة ما قبل الاستقلال حبيب باشا السعد.
أجابهم عمّي: في الأمس كنتُ معهم بألف خير واليوم أُنكرُهم لأنَّهم في شدَّة؟
وعندما حاولوا إلقاءَ اللوم عليه وكأنّه اقترفَ ذنباً، أكملَ كلامه باتِّجاه أحدِهم: هل لك يا حضرة القاضي أن تجيبني على سؤال، لمَ أنت هنا؟
قال القاضي: نحن الذين نطرح الأسئلة، ولكنني سأجيبُك بعد الانتهاء من جلسة الاستجواب. وبعدها أجاب: لأنَّني درستُ الحقوق وبرعتُ بالقانون. 
قال عمّي: ليس هذا ما أقصدُه. تعجَّب الآخر مُضيفاً: وما السبب إذاً؟ أجابَه: أليس لأنَّك وطنيٌّ من عائلة كريمة، وتُحبُّ فرنسا بلادَك، حتى منحتكَ ثقتَها واختارتك ممثلاً عنها في القضاء؟ فمن جزمَ لك أن ليس عندنا من يُشبهُك؟ 
أُخليَ سبيلُه كي لا يُحاكم بالسجن مع التأجيل كأكثر البقية، لكنه خسرَ وظيفتَه.
عادَ شفيق الشرتوني وتمكَّن بعد سفر زعيمِه عشية الحرب العالمية من الالتحاق بوظيفةٍ ميدانية في الجمارك المُختلَطة السورية اللبنانية، مهمّتُها ملاحقة عمليات التهريب على الحدود بين الشام ولبنان من جهة وفلسطين من جهةٍ ثانية، وكادَ يُقتل أكثر من مرة خلال مواجهته لعصابات التهريب التي كان يتلاعبُ البريطانيون والفرنسيون وحتى اليهود بها إلى أن شكتْه امرأةٌ حاسدة من قريتِه للسلطات فطُرِد نهائياً من سلكِ الدولة. بعدها عملَ قليلاً مع الكنيسة قبل أن يعودَ ليُقيم في الجبل، يعتني بالأرزاق متَّكلاً على أبي في مساعدتِه، ما لم يدَع أولادَه يحظَون برعايةٍ وعلمٍ كافيين.
أخطأ طبيبٌ في مستشفى الجامعة الأميركية تقديرَ حالتِه مُجرياً له عملية جراحية لا لزوم لها، استأصلَ فيها مُعظم أمعائه، ما قضَى على عافيتِه. أما بعد عودة سعادة من المهجر، فقد أعفاه من المهمات نظراً لحالِه، واعداً بالإرسال في طلبِه إذا احتاجَه. وبعد استشهادِه اكتفى عمِّي بالاطِّلاع على أخبار القوميين، والتردُّد في أحيان قليلة على أماكن وجودِهم.
يُلاحظ في رسالة سعادة إلى رفيق الحلبي المؤرَّخة في عام 1934، أنَّ اللوم الذي وجَّهه فيها إلى شفيق الشرتوني لبوحِه عن وجود الحزب إلى كلٍّ من السيدين محمد الباشا، الذي شغلَ فترةً طويلة وظيفةَ مدير «اليانصيب الوطني اللبناني» ونجيب حلاوة، الذي تركَ بصماتٍ في سجلِّ انتشار الحزب، لا سيَّما في الجبل وفي المغتربات، هو في محلِّه، إذا أخذنا بعين الاعتبار الطريقة السريَّة التي اتَّبعها سعادة للحفاظ على الحزب في السنوات الثلاث الأولى على تأسيسِه. 
لكنَّه وللتوضيح فقط، لا يتشابه أبداً مع ما جرى بعد ذلك في تاريخ الحزب الطويل من مخالفةٍ لنظامِه أو تسريبٍ لأسراره وأخبارِه الداخلية، مهما تعددت الأسباب.
هذا مع العِلم أنَّ الرسالة وجِّهت إلى الحلبي عن الشرتوني لعلاقتِه الممتازة به، إنَّما قصدَ الزعيم منها إغناءَ القوميين وخصوصاً في البدايات بالتوجيه الضروري والملائم. كما يُلاحظ أنَّ التساؤل الذي دارَ فيها حول إمكانية التزام الشرتوني بما وعدَ به تجاه الحزب، بدَّدته العلاقة التي عادت ونشأت بين هذا الأخير والزعيم في المرحلة التي تلَت تاريخ الرسالة، التي اتَّضح أنها يتيمة لم يعقبها أُخرى. ما يدلُّ في كِلا الحالين على مدى الرضا الذي بلغَه الزعيم من أداء الشرتوني.
وهكذا يُفهم أيضاً التنافُس الشخصي الذي ألمحَ إليه، والذي هدفَ بالأساس للتضحية في سبيل الحزب ولبذلِ ما يمكن بذلُه. وليس كما بات يُفهم اليوم عن التنافُس بين أشخاص لاكتساب مرابِح معيَّنة أو امتيازات مضرَّة بالمؤسسة الحزبية. 
وهذا ما تثبتُه الوقائع المعاشة والوارد أيضاً جزءٌ بسيطٌ منها، أكان في بقية الوثائق أو فيما دوَّنته عن حياة عمّي شفيق، ومن هنا اقتضى التصويب فيما خصَّ مضمونَ الرسالة. 
أستطردُ في الفقرة الأخيرة التي واكبت مراحل زمنية انتهت بانتهاء مسيرة عمّي الحزبية والشخصية بالقول: 
إنه عملَ مع ابنه البكر الرفيق كمال الشرتوني – الذي قُضي عليه بأسلوبٍ موارب بعد حادثة الجميّل ودُفن في بيروت بعد تخريب وتفجير مقبرة عائلتنا – على تأمين 120 صوتاً انتخابياً في شرتون وحدها من أصل 500 صوت لمرشّح الحزب القومي المحامي عصام العريضي خلال آخر انتخابات نيابية جرت في 1972 قبل اندلاع أحداث لبنان عام 1975، فيما ظلّ الكتائبيون يدققون بهذا الشأن لسنوات امتدّت إلى ما بعد تلك الحِقبة، كما مكثَ صلباً حتى آخر يومٍ من حياته لا يهادنُ الأفكار والسلوكيات الفئوية والانعزالية، لا بل يواجهها متى اقتضت الحاجة، ويعلنُ جهاراً انتماءه لفكر سعاده تحت أي ظرف ودون أية خشية، ولا أخفيكم أنه قد أنقذني في إحدى المرات من خطرٍ مؤكّد واجه فيه مجموعةً متهوّدة ومرتبطة مباشرةً بجهة رسمية إسرائيلية، وقد أوردتُ الحادثة في مذكراتي فيما أتحفّظ الآن عن سردِها. 
أمسى عمّي شفيق في ذاكرتي هو وجدّي وأبي كما بقية أعمامي رمزاً للرجولة والمروءة والصلابة، وقد سرتُ في هذا الطريق مقتدياً بهم ومقتنعاً تماماً أن التربية العائلية أساسٌ في تكوين أي انتماء وطني، فكيف بالانتماء للفكر القومي والاجتماعي المرتكز إلى قيمٍ ومناقب لا يجوز التفريط بها.
 (وثائق وصور خاصة مرفقة)
* يجدر بي التوضيح بأن جريدة «البناء» هي الجريدة المعبّرة عن «الحزب القومي» الذي تنكّر كلياً لشخصي محوّلاً قراراً حزبياً لمسألة شخصية بحتة استفاد منها بعض أفراده ما آل إلى تلبية رغبة الأمين المذكور بالنشر في مطبوعة أخرى جريئة.


حبيب الشرتوني، أحد قادة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية
النص منشور في الأخبار، الإثنين 8 تموز 2019

Please follow and like us: