انفجرت الحرب الأهلية في تشاد، ووصل رجال القبائل المتمردون على نظام حكم الرئيس إدريس ديبي إلى العاصمة نجامينا، وحاصروا القصر الرئاسي. وقد تدخلت القوات الخاصة الفرنسية، والطيران الحربي الفرنسي لصالح قوات ديبي، وأجبرت المتمردين على التراجع عن أسوار نجامينا. ويحلل محمد جمال عرفة[i] هذه الحرب، ويشرح أسباب نشوب التمرد، معللا ذلك بتورط فرنسا والإتحاد الأوروبي في استخدام الأراضي التشادية لانتهاك حرمة أراضي السودان وتقسيمها :
رغم النفي السوداني الرسمي على لسان الرئاسة والخارجية والدفاع لأي تورّط في معارك تشاد المجاورة لأقاليم دارفور، فلا يعني هذا أنه ليس هناك مصلحة للسودان في هدم نظام الرئيس التشادي الحالي إدريس ديبي ومجيء نظام حكم جديد موالٍ له هناك، ليس فقط بسبب الخلافات بين النظامين، وإنما لأن تشاد تحولت ـ في سياق السعي الغربي لتفكيك السودان ـ الى مقر رسمي للتحالف الغربي لإدارة صراع دارفور ومساندة المتمردين لتشجيع الانفصال هناك، بل وتستعد تشاد للسماح بدخول قوة أوروبية للتمركز في حدود دارفور.
وقد تحولت تشاد الى مركز لإدارة العمليات ضد السودان، ومركز للصراع بين المخابرات الفرنسية (كممثل للغرب) والمخابرات السودانية، وهو ما اعترفت به الصحف الفرنسية علناً مثل لوفيغارو، وكان من المنتظر (قبل 24 ساعة من هجوم متمردي تشاد الأخير) أن يشهد شرق تشاد وكذلك شمال شرق جمهورية إفريقيا الوسطى، انتشاراً لقوة أوروبية (يورفور) أعطى الاتحاد الأوروبي الضوء الأخضر لانتشارها، قوامها 3700 جندي فرنسي وأيرلندي وبولندي، تحت زعم حماية اللاجئين السودانيين والنازحين في هذه المناطق، ما يعني مزيداً من التدخل المتوقع في دارفور السودانية بمخلب تشادي.
والأهم أن الخرطوم لها مصلحة مباشرة في قلب نظام حكم الرئيس التشادي الحالي، ليس فقط لوجود تداخل بين القبائل السودانية والتشادية (26 قبيلة حدودية)، ما يعني أن ما يجري في تشاد يؤثر مباشرة على دارفور والعكس، ولكن لأن حكومة الرئيس ديبي التي تسيطر عليها العناصر الموالية للغرب والفرنكوفونية (وهي أقلية تعادل 7% تقريباً) وليس العناصر العربية المسلمة التي تمثل الأغلبية، حوّلت تشاد تدريجيّاً لهوية ثقافية فرنسية على حساب الهوية العربية الإسلامية، ما يضرّ بالأمن القومي السوداني الساعي لتأمين الحدود مع تسعة دول إفريقية وعربية عبر نشر الفكر الإسلامي وتدعيم الهوية العربية والإسلامية فيها.
الهدف اختراق الغرب السوداني
فقد اعتادت الخرطوم نتيجة اشتباكها مع حدود (تسع) دول إفريقية وعربية أخرى، أغلبها يعاني من صراعات قبلية ومشاكل عرقية، أن تتلظى بنيران هذه الصراعات التي تمتد غالباً لحدودها مع هذه الدول، ذلك أن قوات التمرد في هذه الدول المضطربة غالباً ما تعسكر قرب الحدود المشتركة أو تقيم داخل الأراضي السودانية وتدور بينها وبين قوات الدول الأخرى معارك مستمرة.
والوضع في تشاد أكثر حساسية؛ بسبب تحولها في عهد الرئيس الحالي بوابة لإدخال القوات الأجنبية كي تعسكر قرب حدود السودان، ونتيجة مشاركة القبائل على جانبي الحدود في القتال، حيث تقف قبائل المسيرية مع المتمردين التشاديين، بينما تقاتل قبائل الزغاوة ـ التي ينتمي لها الرئيس ديبي ـ مع الحكومة التشادية., ولذلك، اختارت الخرطوم ـ كما فعلت في حالات مماثلة على حدودها المضطربة ـ دواء «الكي» مع نظام ديبي التي ساعدته على الوصول الى السلطة.
هذا ما ينعكس غالباً على مساندة الخرطوم للمتمردين ودعمهم، حسبما جرى مع حركات مسلحة إثيوبية سابقاً وإريترية وأوغندية، وآخره حركات التمرد الثلاث في تشاد التي تمتد حدودها مع السودان بطول 1360 كلم، بعدما وصل الاستفزاز التشادي ـ الذي ساهم في إشعال أزمة دارفورـ حدّ قصف مدنٍ سودانية بالطائرات وقتل سودانيين وفتح بلادهم لفرنسا والغرب لاختراق الغرب السوداني من هناك. ويؤيد هذا قول «موسى هلال» ـ الذي يتردّد أنه زعيم ميليشيا «الجنجويد» الموالي للخرطوم وعُيّن في منصب مستشار في وزارة الحكم الاتحادي مؤخراً ـ إن «تغيير الأوضاع في دولة تشاد المجاورة سينعكس خيراً على السودان»!
التلاعب السياسي له ثمن!
من الطبيعي أن تكون الخرطوم صاحبة مصلحة في إسقاط حكم الرئيس ديبي الذي ساندته حتى تولى السلطة عام 1990، ثم انقلب عليها مع بروز أزمة دارفور بفعل الدعم الفرنسي له، ومن الطبيعي أن يحدث تدخل عسكري فرنسي حاسم ضد المتمردين عقب محاصرتهم قصر الرئاسة وسماح الفرنسيين للطائرات التشادية والفرنسية بالتحليق وقصف المتمردين الذين لا يملكون سوى عربات (نصف نقل) ورشاشات ثقيلة، بل وزيارة وزير الدفاع الفرنسي لـ«نجامينا»؛ لتأكيد وقوف باريس مع ديبي ضد المتمردين وضد آمال الخرطوم في إزاحته.
ورغم محاولات الصلح بين الرئيس ديبي والسوداني المشير البشير في طرابلس والسعودية وعواصم إفريقية أخرى، فقد استمر تنفيذ تشاد للخطط الغربية في محاصرة السودان من الغرب وتسهيل التدخل الفرنسي والأوروبي في دارفور، وتجاهل مطالب المعارضة ـ وهم زملاء الرئيس ديبي السابقين ممن انقلبوا عليه ـ وتحصنت بالحماية الفرنسية، دون خطوات حقيقية لحل الخلافات الداخلية وعدم استخدام حدودها معبراً للتدخل الأجنبي.
ولم يشفع له أنه (إدريس ديبي) وصل إلى السلطة في انقلاب مسلح عام 1990، بعد أن انطلق هو أيضاً من السودان ونجح خلال السنوات الأخيرة مرات عدة في مواجهة حركات تمرد وإعادة ميزان القوى لصالحه، ثم شرع في التحالف مع المخططات الفرنسية والغربية مقابل وعود اقتصادية لنشر قوات أوروبية على حدوده مع السودان، ما يُعتقد أنه دفع الخرطوم لحث حركات التمرد الثلاث على توحيد جهودها وتشكيل تحالف في كانون الثاني 2007، بدأ هجومه الأخير حتى وصل الى القصر الرئاسي، قبل أن ينسحب تحت وطأة العمليات العسكرية الفرنسية السرية المساندة لحكومة ديبي.
ولا شك أن إعلان ديبي سيطرته على كل أرض تشاد مرة أخرى وإبعاد المتمردين، الذين قالوا إنهم انسحبوا لغرض التحصين ومعاودة الهجوم، ومساندة فرنسا والغرب علناً له، بعدما ظهرت باريس بموقف متذبذب وحيادي في البداية كي لا تخسر المعارضة لو سيطرت فعليّاً على القصر الرئاسي، سيكون له تأثير لافت على الأوضاع في السودان وخصوصاً دارفور.
وطالما استعادت حكومة تشاد سيطرتها، فمن الطبيعي أن تستأنف خطط نشر هذه القوات الأوروبية التي جرى تجميدها عقب دخول المتمردين، بل إن الرئيس ديبي وجه «نداء رسميّاً» إلى الاتحاد الأوروبي لنشر سريع لقوة «يورفور» الأوروبية في تشاد وإفريقيا الوسطى، خصوصاً بعد تواتر الأنباء عن حشد المتمردين مرة أخرى لقواهم على بعد 400 كلم شرق نجامينا.
خلاصة الأمر أن من حق السودان أن يقطع الأيدي الأجنبية التي تعبث بأمنه في الغرب وتسعى لتفكيك دولته عبر المقاول التشادي، وأنه ولو لم يثبت ماديّاً أن للسودان يداً في دعم متمردي تشاد، فهذا لا ينفي أن هناك مصلحة سودانية واضحة وأكيدة لمدّ يدها في تشاد ردّاً على مدّ الأخيرة يدها في دارفور نيابة عن فرنسا والغرب.
COMMENTS