تبدو الأردن في عداد الدول الفاشلة، حقا. فلا التاريخ ولا الجغرافيا، ناهيك عن السياسة، أعانت أو تعين هذا البلد العربي على التحرر من أزماته الإجتماعية ـ الإقتصادية البنيوية المزمنة. يستهل عمر عساف هذا التحليل(1) متسائلا، بحسرة : هل ينجح الاردنيون في فك ارتباطهم التاريخي بالفقر :
يبدو أن الأردنيين والفقر متلازمة واحدة غير قابلة للانفصال. وهذه المتلازمة ليست حكراً على السكان فحسب، بل تشمل الدولة الأردنية بما هي أرض وحكومة أيضا. فالأردن يصنّف ضمن اكثر عشر دول في العالم فقراً في المياه، حتى أن السكان عندما يغنون منذ عشرات السنين، كانوا ينشدون المطر. وفي الفولكلور الشعبي الأهزوجة الشهيرة: “ياالله غيثك يا ربي / تسقي زرعنا الغربي”.
اقتصاد ضعيف
كان الأردنيون منذ مطالع القرن الماضي يعيشون على اقتصاد الكفاف، ليدخلوا بعد ذلك في كنف الدولة (الجيش والحكومة) التي صارت الموظّف الأول لهم، لتضمن ولاءهم، وتنقلهم من حال البداوة والمجتمعات الزراعية البسيطة إلى التمدن.
وفي عهد حكومات رئيس الوزراء وصفي التل، أخذت الدولة بعدا اجتماعيا اقتصاديا تمثل في ايجاد حزمة من التأمينات والنظم الاجتماعية التي تبعد المواطنين عن العوز والفاقة. ووصف النظام الاقتصادي الأردني آنذاك بـ”الاشتراكي المختلط” المنفتح على السوق.
وقد دامت هذه الحقبة من أواخر الستينات حتى أواخر ثمانينات القرن الماضي، وساعد في ذلك الدعم (العربي أو الأجنبي أو كلاهما الذي) كانت تتلقاه الدولة، والمرتبط بدورها السياسي، بصفتها الناطقة باسم الفلسطينيين في بادئ الأمر، حتى عام 1974، وليستمر باعتبارها المسؤولة دوليا عن الضفة الغربية المحتلة حتى أواخر عام 1988، عندما فكت ارتباطها القانوني والإداري مع الضفة، وما تلا ذلك من أزمة اقتصادية خانقة كان متنفسها أحداث نيسان 1989 التي أطاحت حكومة رئيس الوزراء زيد الرفاعي، لتتجه الدولة الأردنية ببطء نحو اقتصاد السوق (التسعينات)، ولتبدأ مع بداية العقد الحالي مرحلة “تفكك الدولة وتخصيصها”. وزادت اعتماد الاقتصاد الأردني في غضون السنين العشر الأخيرة، ليتحول من اقتصاد “شبه معتمد” إلى “معتمد كليا” على الخارج.
الخصخصة، وانخفاض حجم المساعدات، وتوجه الدولة إلى التحلل من مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية حيال مواطنيها، وتضاؤل فرص العمل في دول الخليج العربي، ساهمت كلها في التضييق على الأردنيين واقتصادهم، لولا استدامة الدعم العراقي النفطي [في عهد الرئيس العراقي السابق صدام حسين]، وتحول الأردن بوابة العراق التجارية خلال فترة الحصار [الأنغلوساكسوني على العراق ما بين 1991 ـ 2003] وارتباط الاقتصاد الأردني والصناعة بالعراق. وهو ما انتهى إلى غير رجعة مع سقوط بغداد [تحت حراب الإحتلال الأميركي البريطاني] في نيسان 2003، لتبدأ معها مرحلة أشد قسوة من كل سابقاتها.
وازدادت هذه المرحلة قسوة شهراً فشهراً، خصوصا مع الرفع المتدرج لدعم الحكومة لأسعار النفط والسلع الأساسية، وزيادتها نسب الضريبة العامة على المبيعات لتصل إلى 16 في المئة، وتوسيع قائمة السلع والخدمات المشمولة بها هذه الضريبة حتى لم يبق من الاستثناءات إلا القليل جدا.
قرارات صعبة
مطلع السنة الجارية، ألغت الحكومة دعم المحروقات نهائيا، مما رفع أسعار النفط إلى أرقام قياسية جديدة، تلتها ارتفاعات جنونية في أسعار معظم السلع الأخرى. واكتملت الحلقة الأسبوع الماضي [أواسط آذار/مارس 2008] برفع أسعار الكهرباء والماء.
هذا كله أدى إلى تآكل الرواتب المتدنية أصلا، إضافة إلى معدل البطالة الذي بلغ 13,2 في المئة للثلاثة الأرباع الأولى من العام الماضي، فيما بلغ معدل التضخم في أسعار المستهلك 5,5 في المئة للفترة ذاتها، استناداً الى أحدث أرقام دائرة الإحصاءات العامة.
هذه الاوضاع المعيشية الصعبة دفعت الحكومة إلى سلسلة من الإجراءات، تؤيدها أوامر ملكية صارمة، لتخفيف وطأة ارتفاع الأسعار، بينها زيادة الرواتب وإعفاء مجموعة من السلع الأساسية من الضرائب والجمارك، وكان آخرها أمر الملك قبل أسبوع تأجيل رفع أسعار الغاز والأعلاف.
وكشف التقرير التحليلي لواقع العمالة والبطالة في المملكة لعام 2007، الصادر قبل أربعة أيام عن دائرة الإحصاءات العامة، تباينا كبيرا في مستويات الأجور والدخل حتى نهاية العام الماضي، وتشوهات هيكلية في واقع سوق العمالة وتركزها لفترات عمرية أو في مناطق [أردنية] معينة جاذبة للعمالة في مقابل مناطق أخرى طاردة لها.
ولفت تقرير دائرة الإحصاءات العامة الى تفاوت في مقدار الدخل الشهري بين فئات الدخل المختلفة، وبلغت نسبة من يحصلون على دخل اقل من 300 دينار شهريا (المئة دينار تساوي 140 دولاراً أميركياً) نحو 80.7 في المئة من مجموع العاملين.
وراوح ما نسبته 75 في المئة من فئات الدخل بين 100 إلى أقل من 300 دينار شهريا للفرد الواحد، وبلغت أعلى نسبة للفئة 100 ـ 199 ديناراً حيث بلغت نحو 41 في المئة تلتها الفئة 200 ـ 299 بنسبة 34.1 في المئة.
أما فئة الدخل الأقل من 100 دينار فبلغت نحو 6 في المئة فقط، علما أن الحد الأدنى للأجور هو 120 ديناراً.
غير أن نسبة التضخم مرشحة للارتفاع إلى نحو 9 في المئة مع ارتفاع الأسعار، الامر الذي يوجب، وفق خبراء، ربط الأجور ارتفاعا وهبوطا بارتفاع أسعار السلع والخدمات، وهو ما طلبه الملك من الحكومة صراحة.
نادي باريس
غير أن أزمة معقدة تنتظر الحكومة قبل نهاية الشهر الجاري، إذ يفترض أن تكون الحكومة قد انتهت من توقيع اتفاقات الشراء المبكر لما يقارب 2,3 مليار دولار من مديونيتها الخارجية.
وبموجب اتفاقات أردنية عقدت قبل بضعة اشهر مع نادي باريس، فإن هذا المبلغ سيستحق الدفع قبل انقضاء الشهر الجاري، وسيحصل الاردن بموجب هذه الاتفاقات على نسب خصم بمتوسط يصل إلى 11 في المئة في مقابل تسديد هذه الديون.
ولكن، لا يلوح في الأفق، وبعد الزيارات التي قام بها العاهل الاردني للسعودية والولايات المتحدة وسلطنة عمان، أن الأزمة قد حلت جذريا، على رغم أن المسؤولين الأردنيين طالبوا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بقوة بتقديم الدعم المادي.
ويرجح مراقبون أن تلجأ الحكومة إلى الاقتراض الداخلي، وهو ما يحذر منه الكاتب الاقتصادي حسن الشوبكي، الذي يؤكد أنه مع نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بلغت المديونية الخارجية 5.3 مليارات دينار.
ويلفت إلى أن المشكلة تتضح في تكرار استخدام أداة الاقتراض الداخلي، بحيث ارتفعت المديونية الداخلية بين عامي 1989 ـ 2007 من 995 مليون دينار إلى 3,29 مليارات دينار، بنسبة زيادة بلغت 230 في المئة، وهي مرشحة لتخطي حاجز الخمسة مليارات دينار، اذا استمرت الحكومة في استخدام أداة الاقتراض الداخلي، وسيلة لحل الأزمات المالية أو الهروب من الاستحقاقات الاقتصادية التي تفرضها جدولة المديونية مع الدائنين.
ويرى الشوبكي أن خطر الاقتراض الداخلي لا يقل عن الخارجي، وأن حجم الدور السياسي والتحالفي الذي يضطلع به الأردن إقليميا وعالميا، لا يتناسب والتسهيلات الممنوحة للمملكة على صعيد تخفيف عبء المديونية وحل الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، ومعظمها يتصل بأسباب سياسية وتقلبات إقليمية لا يد للأردن فيها.
أين الأردنيون من هذا؟
أحد الأمور التي حيرت المراقبين الأسبوع الماضي، أن الحكومة الحالية برئاسة رئيس الوزراء نادر الذهبي، حافظت في الاستطلاع التقليدي الذي يجريه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية بعد مرور مئة يوم على تشكيل الحكومة، على مستويات متقاربة من الشعبية التي حصلت عليها عند تأليفها، خلافا للحكومات السابقة.
وجه المفارقة أن الحكومة اتخذت جملة من القرارات الاقتصادية غير المقبولة شعبيا منذ توليها المسؤولية.
ويرى المراقبون أن المواطنين يستوعبون الضرورات التي جعلت الحكومة تتخذ هذه القرارات الصعبة، ولكن إلى متى سيتحملون تزايد الضغط؟
COMMENTS