على رغم ارتفاع سقف تمويل خطط الاستجابة الإنسانية الأممية في اليمن، وحديث المنظّمة الدولية عن تنفيذ مشاريع بمليارات الدولارات سنوياً، إلّا أن ذلك لم يسهم في تخفيف معاناة اليمنيين، فيما كشف في المقابل عن أكبر عملية استثمار في مآسي أفقر شعوب المنطقة. وتدور شبهات فساد حول المنظّمات العاملة في هذا البلد، والتي تُحوَّل المساعدات إلى حسابات خاصة بها، ليجري تبديد جزء غير يسير منها في إنشاء تحصينات ضخمة في محيط مكاتب تلك المنظمات، وشراء المزيد من السيارات المدرّعة، فضلاً عن نفقات طائراتها التي خُصّصت لخدمة موظّفيها، بينما يمنيون كثيرون يموتون كلّ لحظة نتيجة فقدان مئات الأصناف من الأدوية والمحاليل المنقذة للحياة.
تمويلات ضخمة
على مدى سنوات الحرب والحصار، تجاوزت الأموال التي حصل عليها «برنامج الغذاء العالمي» الـ12 مليار دولار، في إطار «مشروع الاستجابة الإنسانية» التابع للأمم المتحدة، إلّا أن البرنامج، الذي تحدّث في آخر تقرير له صدر الشهر الفائت عن أنه يقدّم مساعدات لنحو 13 مليون يمني بشكل دوري من إجمالي 30 مليون نسمة، أقرّ هو نفسه بأن مستوى الأمن الغذائي في هذا البلد يعدّ الأسوأ منذ أربع سنوات، وأن سوء التغذية الحادّ في أوساط الأطفال دون الخامسة يتهدّد حياة 2.3 مليون إنسان. إلّا أنه تجاهَل مسألة استيراده كمّيات كبيرة من المساعدات الغذائية الفاسدة بأسعار بخسة، بلغت نحو 93563 طنّ من البقوليات، و362880 طنّ من المكمّلات الغذائية الخاصة بسوء تغذية الحوامل والأطفال دون الخامسة، جرى توزيعها على عشرات آلاف المواطنين. ووفق البيانات التي حصلت عليها «الأخبار»، فقد تمّت إعادة أكثر من ربع مليون طن من زيت الطبخ المنتهي الصلاحية إلى بلد المصدر، فيما أُتلفت أكثر من 440 ألف طنّ من المساعدات نتيجة سوء التخزين في مخازن «برنامج الأغذية» غير المؤهّلة. وتحوّل هذان التهاون والهدر إلى سبب رئيس من أسباب ارتفاع مؤشّرات الجوع في اليمن، حيث من إجمالي 2.3 مليون طفل مصاب بسوء التغذية الحادّ، يحصل 15% فقط على الحدّ الأدنى من الغذاء للبقاء على الحياة، وفقاً لـ«يونيسيف». وفي الإطار نفسه، يؤكد «تقرير التقييم المشترك بين وكالات الاستجابة الإنسانية» في اليمن، والذي أعدّه باحثون مستقلّون من «معهد دراسات التنمية» وصدر منتصف حزيران الماضي، فشل مشروع الاستجابة على رغم حصوله على نحو 16 مليار دولار خلال سبع سنوات من عمر الحرب، مؤكداً أن هذه الاستجابة «منخفضة بشكل غير مقبول». وإذ كشف عن «العديد من الثغرات والتجاوزات وسوء التخطيط وعدم التنسيق وغياب الرقابة والفشل في الوصول إلى الفئات الأكثر ضعفاً»، فقد أكد أن «المدارس الجديدة بُنيت بشكل سيّئ، والطرق نصف مكتملة، والآلات الزراعية لا تعمل، والإمدادات عفا عليها الزمن، وخزانات الصرف الصحي تفيض، ومخيمات النازحين داخلياً تفتقد إلى المراحيض ووسائل الراحة الأساسية». كما انتقد التدابير الأمنية المفرطة التي اتّخذتها المنظّمات، ومنها إحاطة مكاتبها بتحصينات كبيرة ومبالَغ فيها، لينتهي الأمر بالموظفين معزولين في مكاتب محميّة، وبعيدين من التفاعل المطلوب مع المجتمعات التي يعملون فيها.
مشاريع عالية الكلفة
تَكشف وثائق حصلت عليها «الأخبار» أن عدداً من المنظّمات الدولية حصلت على تمويل كبير لتنفيذ مشاريع إنسانية في اليمن، من دون أن تجد هذه المشاريع طريقها إلى التنفيذ. وبحسب تلك الوثائق، فإن أحد المشاريع الذي قادتْه منظمة «يوسيد» الأميركية تحت مسمّى «مجتمعات يمنية معاً أقوى»، بلغت كلفته 11.6 مليون دولار، من بينها 9.1 مليون دولار نفقات إدارية أي ما نسبته 78%، مقابل 2.5 مليون دولار استفاد منها المجتمع كتمويل مباشر، وهو ما لا تتجاوز نسبته 22%. كذلك، وصلت كلفة مشروع «ماوي» المموَّل من قِبَل المفوضية الأوروبية عام 2019، ولمدّة عام، لتحسين الظروف المعيشية في مخيّمات النازحين، إلى 1.3 مليون دولار، إلّا أن استفادة النازحين منه لم تتجاوز 394 ألف دولار بنسبة 29%، مقابل أكثر من 700 ألف دولار بنسبة 71% كنفقات تشغيلية. أمّا النموذج الثالث، فيتمثّل في قيام منظّمة «أوفندا»، بين عامَي 2019 و2020، باقتطاع نحو 9.1 مليون دولار كنفقات تشغيلية من منحة مالية قُدّمت كمساعدة طارئة للحدّ من الأمراض ووفيات السكان المتضرّرين من النزاعات، مقابل مساعدات مباشرة استفاد منها المستحِقّون بلغت 2.6 مليون دولار. أمّا أحدث حلقات ذلك المسلسل، فتجلّت مطلع الأسبوع الجاري، عندما أعلنت «الوكالة الأميركية للتنمية» تنفيذ مشروع صرف صحّي مع منظمة «يونيسيف» بقيمة 18 مليون دولار، ليتبيّن أن ما نُفّذ فعلياً هو مشروع لا تتجاوز كلفته مليونَي دولار، ما أثار حفيظة العشرات من الناشطين اليمنيين
اشتراطات ومخاوف
إزاء ذلك، تُحمّل المنظّمات الدولية وشريكاتها المحلّية سلطات صنعاء المسؤولية عن تأخير بعض المشاريع أو عدم وصولها إلى خواتيمها المرجوّة. وفي هذا الإطار، يقول مسؤول في منظّمة محلية تنفّذ مشاريع أممية في صنعاء، رفض الكشف عن اسمه، لـ«الأخبار»، إن «الهاجس الأمني يسيطر على عمل الجهات الحكومية المشرفة»، مضيفاً أن «هناك قصوراً كبيراً في إعداد خطط الاحتياج السنوية من قبل الحكومة»، متّهماً الأخيرة بأنها «همّشت دور الجهاز المركزي للإحصاء، وفي الوقت نفسه تريد مشاريع تنموية ومستدامة من دون أن تكون لديها رؤية وخطّة منطقية». ومن هنا، «تقع المنظّمات تحت ضغوط تتسبّب بارتكابها أخطاءً، أو إعاقة بعض المشاريع ورفضها أيضاً تحت مبرّر عدم تلبية أولويات المرحلة»، كما يقول المسؤول.
من جهتها، تشكو منظّمة محلّية أخرى، شريكة للأمم المتحدة أيضاً، من اشتراطات يضعها «المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي في صنعاء (سكمشا) لمنح التراخيص للمشاريع المقدَّمة من قِبَل المنظّمات»، موضحةً أن «من بين هذه الاشتراطات، طلب تعديل حجم بنود الموازنات المالية للمشروع بحجّة رفع نسبة المعونة التي تصل إلى المستفيدين»، مضيفةً أنه «أحياناً يكون المجلس على صواب، وأحياناً أخرى على خطأ، وهو ما يؤدّي إلى إلغاء مشاريع يكون اليمن في أمسّ الحاجة إليها». كذلك، «يضغط «سكمشا» لإلغاء الموازنات المخصَّصة لبناء قدرات المنظّمات المحلية في المشاريع المقدَّمة له، وهو ما يؤدي إلى إضعاف هذه المنظّمات وإبقاء تلك الدولية هي المستحوذ على تنفيذ النسبة الأكبر من المشاريع»، وفق ما يقول مصدر في المنظّمة المُشار إليها، مُطالباً المجلس بـ«إعادة النظر في التعاطي مع الأنشطة المتعلّقة بحماية المرأة والمساواة، والتي تتمّ عرقلتها بحجّة أنها تمثّل خطراً على الهوية الإيمانية والعادات والتقاليد المجتمعية، وفي الغالب تكون هذه المخاوف غير منطقية ومبالَغاً فيها».
التسهيلات «قائمة»
في المقابل، ينفي مدير عام الإعلام في «المجلس الأعلى للشؤون الإنسانية»، جمال الأشول، أن يكون المجلس سبباً في تأخير أيّ مشاريع إنسانية، مشيراً، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «إجمالي المشاريع التي تأخّرت المنظّمات في تقديمها إلى المجلس بعد توقيعها مع المانحين، بلغت 59». وحول رفض المجلس التوقيع على المشاريع، يفيد بأن «الاتفاقيات الفرعية التي تمّ التوقيع عليها من قِبَلهم، خلال الفترة الممتدّة من كانون الثاني حتى أيلول من العام الجاري، بلغت 134»، لافتاً إلى أن «المنظّمات نفسها رفضت التوقيع على خمس اتفاقيات فرعية، فيما المجلس رفض ثلاثاً لأسباب عدة منها أنها لا تلبّي حاجات المواطن، أو تمسّ الهوية اليمنية وعادات وتقاليد المجتمع اليمني، وحوّل ستّاً أخريات إلى أنشطة». ويؤكد الأشول أن «المجلس يقدّم كافة التسهيلات للمنظّمات الدولية العاملة في مناطق سيطرة حكومة صنعاء»، موضحاً أنه «أصدر 4241 تصريحاً لتسهيل حركة العاملين في المجال الإنساني بين المحافظات، كما أصدر 18374 تصريح نقل لبرنامج الأغذية العالمي خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري»، مضيفاً أنه «تمّ أيضاً منح الشحنات الجمركية للمساعدات الواصلة عبر المنافذ الجمركية وميناء الحديدة خلال الفترة ذاتها، 825 تصريحاً بإجمالي 523 ألف طن، فيما بلغ إجمالي عدد الموظفين القادمين إلى مطار صنعاء الدولي، والذين مُنحوا تأشيرات وتصاريح دخول 1973 منذ بداية 2022 وحتى أيلول الفائت».
انخراط في الانقسام
تتّهم مصادر حكومية في صنعاء، في حديث إلى «الأخبار»، منظّمات تابعة للأمم المتحدة برفض إيصال المساعدات إلى عدد من المحافظات كصعدة مثلاً، تحت ذريعة أنها أُعلنت من قِبل التحالف السعودي – الإماراتي كمنطقة حرب عام 2015، فضلاً عن تصنيف مناطق أخرى كمحافظة ريمة على أنها «عالية المخاطر» على رغم تصاعد المعاناة الإنسانية فيها. وتعتبر المصادر هذا السلوك «متناغماً مع رغبات وتوجّهات دول العدوان».
كذلك، تُقابل بعض المنظّمات الدولية رفض صنعاء منحها تراخيص لتنفيذ مشاريعها، بنقل هذه الأخيرة إلى مناطق سيطرة الحكومة الموالية لـ»التحالف»، والمعترَف بها دولياً، على رغم إقرار الأمم المتحدة، أخيراً، بأن عمل المنظمات في المحافظات الجنوبية محفوف بالمخاطر. إذ أكدت مديرة العمليات والمناصرة في مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، رينا غيلاني، في إحاطة قدّمتها لمجلس الأمن الشهر الفائت، أن «تدهور الوضع الأمني في محافظتَي أبين وشبوة، يجعل العاملين في المجال الإنساني عرضة بشكل متزايد لعمليات سرقة السيارات والاختطاف وغيرها من الحوادث»، مُذكّرةً بأن خمسة من موظفي الأمم المتحدة لا يزالون في عداد المفقودين بعد اختطافهم في العاشر من شباط الماضي، من الطريق الرابط بين الخديرة ومودية في أبين.
على رغم ما تَقدّم، تُواصل الحكومة الموالية لـ»التحالف» تصعيد ضغوطها على المنظّمات الدولية العاملة في صنعاء بهدف دفْعها إلى نقل مقرّاتها إلى عدن، بذريعة وسْم حركة «أنصار الله» بالإرهاب من قِبلها. كما أنها تلجأ إلى التحريض ضدّ كيانات مموّلة من الأمم المتحدة كـ«المركز الوطني للألغام»، الذي ينتظر منذ سنوات وصول معدّات خاصة بكشف الألغام وسترات واقية للكاشفين. ويضاف إلى ذلك، تضييقها الخناق على المنظّمات المحلية، وإقرارها قائمة خاصة بالبنوك المصرّح لها بالتعامل مع الوكالات والصناديق والمنظّمات كشرط لاستمرار مشاريعها. ووفقاً لوثيقة صادرة عن البنك المركزي في عدن، فقد وجّهت تلك الحكومة المنظّمات الدولية والمحلّية بنقل أرصدتها إلى بنوك خاضعة لرقابة بنك عدن وإشرافه، تحت طائلة اتّخاذ إجراءات عقابية ضدّها.
رشيد الحداد، صنعاء