ماذا وراء “دولرة أسعار السلع” في لبنان ؟

ماذا وراء “دولرة أسعار السلع” في لبنان ؟

موظفو غوغل: لا تكنولوجيا في خدمة الأبارتهايد “الإسرائيلي”
بكين وشراكاتها المتعدّدة: لا مواقف بالمجّان
أين الأحزاب والجمعيات في أزمة النزوح…؟

عندما اتخذ وزير الإقتصاد والتجارة أمين سلام قرار “دولرة” أسعار السلع، ارتفعت بعض الأصوات المعترضة عليه، كان الإتحاد العمالي العام أبرزها. حيث رأى أن “الدولرة” في لبنان تتنافى مع الدستور لأنها تنتقص من سيادة الدولة، وتخالف “قانون النقد والتسليف” الذي يحدد الأسعار بالعملة الوطنية.

برر سلام مقاصد قرار “تسعير السلع بالدولار الأميركي”، بـ”الحفاظ على استقرار أسعار السلع في الأسواق وحرصاً على حماية المستهلك”. لكنه تراجع في وقت لاحق، وأقر بإنه “قرار ترقيعي واستثنائي للحد من وطأة الازمة المعيشية في هذه المرحلة”، وبذلك، دعم رأي نقابات العمال.

لم تدفع السلطة الأوليغارشية المواطنين على درج الإنهيار الإجتماعي بضربة واحدة. كلا. لقد أنزلتهم عليه بضربات متتالية إلى حضيض الفقر. “ابتكرت” مشاريع متنوعة لخداعهم، كـ“بطاقة الدعم الإجتماعي” أو قانون “كابيتال كونترول” أو إطلاق “منصة صيرفة” لدعم أسعار الواردات ألخ.

تتزين الأوليغارشيه بالطابع الإجتماعي أو الإقتصادي والمالي لهذه المشاريع، لإخفاء مسؤوليتها عن كارثة الإفقار. فقد انهارت مداخيل الأجراء في القطاعين العام والخاص وأصحاب المهن الحرة (أطباء، مهندسين، محامين) ومالكي الودائع المصرفية الصغيرة، الذين كانوا عماد الطبقة الوسطى في المجتمع.

لقد اجتاحت “الدولرة” جيوب الأغلبية الإجتماعية في لبنان، في غياب تحالف سياسي منظم، يتصدى لأضرارها وينقذ الوطن. ويوضح قرار الوزير أمين سلام، كيف “تستثمر” الأوليغارشيه الحاكمة هذا الغياب، للمضي في السياسة الخرابية التي تتبعها منذ انفجار أزمة النظام الرأسمالي ـ المذهبي في عام 2019.

وقد لاحظت الباحثة ليديا اسود، إن علة “الدولرة” هي الجور السياسي المزمن لأوليغارشيي النظام، الذين عمقوا “اللامساواة الشديدة في المداخيل والثروات” في المجتمع. فمقابل “فئة الـ1 في المئة الأكثر ثراءً من اللبنانيين التي تستأثر بنسبة 25 في المئة من الدخل الوطني، تحصل شريحة الـ50 في المئة الأكثر فقرًا على أقل من 10 في المئة” منه.

كذلك، ما يتعلق بالثروات، وجدت هذه الباحثة، أن فئة الـ10 في المئة الأكثر ثراءً من اللبنانيين تملك نحو 70 في المئة من مجموع الثروات”. وهذا يعني أن “[بقايا] الطبقة الوسطى والفقراء ليس أمامهم سوى فرصة ضئيلة لتحقيق الارتقاء الاجتماعي”. ولا شك أن إباحة “الدولرة” تضعف الآمال بـ”الإرتقاء”.

إن المحور المركزي في هيكل السلطة الأوليغارشية مكون من “الإرتباط الوثيق بين نخب رجال الأعمال ونخب السياسيين. إن أبرز المساهمين في ما لا يقل عن 18 مصرفاً من أصل المصارف العشرين الرئيسة في لبنان، هم شخصيات مرتبطة بالطبقة السياسية أو مقرّبة منها”.

وحينما نجد “أفراداً مقرّبين للغاية من الطبقة الحاكمة يسيطرون على 43 في المئة من أصول المصارف التجارية”، سندرك أن “الدولرة” تدفع نحو تركز ثروات الأوليغارشيه الحاكمة. فهي وسيلة لمكافحة “اقتصاد الكاش” ومراقبته، بإجبار اللبنانيين، الذين فقدوا ثقتهم بالرأسمال المصرفي، على إخراج أموالهم من خزنات البيوت والمكاتب إلى السوق، والتي تنوف عن 10 مليار دولار.

لقد “صاغت الأوليغارشيه/ الأقلية الإجتماعية نموذجاً سياسياً ـ اقتصادياً لـ[نظام] الحكم لتعزيز امتيازاتها”. وهذا ما يبرر اتهام “الحكومة وكبار التجار” بالمسؤولية عن قرار الوزير بـ”دولرة الأسعار. لكن “النموذج” نفسه كان يشتغل برضى الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، وحتى الفاتيكان، وهذه القوى الخارجية تهدد السياسيين الأوليغارشيين، اليوم، بالعقوبات إن لم يعيدوا تشغيل النظام بشروطها.

إن التأييد الغربي للأوليغارشية اللبنانية ليس مجانياً. فقد “أعلن مصدر رسمي أن لبنان تعرض لضغوط دولية أدت لموافقته على الدولرة”. ومن المفترض أن تكون الأجهزة الأميركية هي التي تقف خلفها. لأن وفود الخزانة الأميركية التي تزور لبنان تطالب حكومته بالسيطرة على “اقتصاد الكاش”.

لا يطالب الأميركيون، بالمقابل، السلطة الأوليغارشية، بتقييد الرأسمال الربوي الذي تمثله المصارف، حتى يمكن تحفيف التفاوت الإجتماعي بين اللبنانيين، وتخفيف تركز المداخيل والثروات. لقد “بلغ صافي أرباح بنك لبنان والمهجر 731 مليون دولار في العام 2017، وهو رقم يقرب الأرباح التي صرح بها شرودرز في العام 2016، سادس أكبر مصرف في المملكة المتحدة من حيث الأرباح”.

أما “صافي ربح بنك عودة فقد بلغ 559 مليون دولار في العام 2017، ما يجعله يتجاوز ستاندرد تشارترد، سابع أكبر مصرف من حيث الأرباح في المملكة المتحدة. بينما لم تتجاوز، قبل عشرين سنة بالتمام، أرباح القطاع المصرفي اللبناني برمته 436 مليون دولار”. لم يكترث مسؤولو إدارة بايدن وسفراءه لهذا التفاوت، لأن قسماً كبيراً من هذه الأرباح الربوية، تم تدويرها في بيوت المال الغربية.

يرمي الأميركيون من تشجيع “دولرة” النشاط الإقتصادي إلى توثيق تبعية اقتصاد لبنان، وخصوصاً الرأسمال المالي، للسوق الأميركية. وهذه غايات قد تعيد الحياة إلى “النموذج اللبناني” الذي دمر حياة المواطنين، لكنها تتناقض مع مصلحة اللبنانيين الذين يجدر بهم تعبئة مدخراتهم ورؤوس أموالهم، للإنتقال إلى الإقتصاد الإنتاجي.

تروج وسائل الإعلام الممولة من الأميركيين في بيروت لقرار الحكومة بـ”دولرة الأسعار”. لم يجدوا أفضل من ممثل التجار لـ”يطلع على شاشة تلفزيون أل.بي.سي” مدافعاً عن القرار. يشارك رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بهذا الترويج. يقول لمواطنيه إن “لبنان لا يخضع لحصار أميركي”. يريد أن يزيد ارتباط اقتصادنا بالدولار الأميركي، بينما الدول العربية الأخرى تتخلى عنه كعملة تبادل أو احتياط، بسبب انعدام الثقة بالولايات المتحدة الأميركية

مركز الحقول للدراسات والنشر

‏الأربعاء‏، 19‏ ذو القعدة‏، 1444 الموافق ‏الأربعاء‏، 07‏ حزيران‏، 2023

Please follow and like us:

COMMENTS