أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن (النعسان) وحلفائه عن مشروع إنشاء “الممر الهندي” في قمة “مجموعة العشرين” التي انعقدت في الهند، في مطلع أيلول الماضي. وقال إنه يشمل “خطط لبناء ممر للسكك الحديدية والشحن البحري يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا”.
ثم كشف جيك سوليفان مستشار الأمن القومي في إدارة بايدن، عن أن المشاركة فيه، تنحصر بـ”الهند والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن وإسرائيل والاتحاد الأوروبي”. ما أكد الشكوك بأن هدف الولايات المتحدة وحلفائها من إنشائه، هو كسب مزايا نسبية في “حروب الممرات” التي تخوضها، خصوصاً في قطاع الطاقة.
يطمع الأميركي من وراء “الممر الهندي” بتمزيق الخريطة الجيوطاقية الراهنة ما بين شمال المحيط الهندي وحوض البحر المتوسط وصولاً إلى أوروبا. هدفه إضعاف اعتماد الهند على نفط روسيا الذي بلغ ذروته في شهر آب الماضي، واستبداله بنفط السعودية والعراق والإمارات. كما يبتغي تحويل الهند من دولة جارة إلى عقبة جيوبوليتيكية، ترى فرصة في سد طريق الصين إلى نفط إيران والخليج العربي.
هذا “الممر” الإحتيالي، مصمم للإلتفاف على خط جنوب ـ شمال الذي تعاونت روسيا وإيران على افتتاحه، لربط ميناء بطرسبورغ في الشمال الروسي بميناء مومباي في الجنوب الهندي، عبر إيران وبحر قزوين، من أجل توطيد البنى التحتية للتجارة الأوراسية بالسلع والطاقة والخدمات وتوسيع منافذها.
و”الممر الهندي” ضد مصر أيضا. غايته سلب مزايا الموقع الجيوبوليتيكي الذي تختص به مصر. حسب المخطط المرسوم، سوف يعزلها عن خطوط التجارة والطاقة بين الشرق والغرب، عبر تهميش قناة السويس. إذ تبدأ هذه الخطوط من الهند وتنتهي في مدينة حيفا بـ”إسرائيل” في فلسطين المحتلة ومنها إلى اليونان. إنه يريد عزل مصر عن شبه الجزيرة العربية واليمن، وعن العراق والشام.
إن خريطة “الممر الهندي” لا تلحظ في تجارة الطاقة والسلع في البحر المتوسط غير “إسرائيل”. أما فلسطين ومصر فلا مكان لهما فيهما. كذلك، سوريا ولبنان، اللتان تملكان الحوض النفطي الغازي المشترك بينهما، كدولتين عربيتين شقيقتين، فإن “الممر” المذكور يشكل حرباً عليهما. وهو تتمة لأهداف “قانون قيصر” الذي يمثل عينة عن عمليات الإرهاب الإقتصادي الأميركي.
إن مشروع “الممر الهندي” هو ديناميكية أميركية ـ “إسرائيلية” للصراع الجيوبوليتكي “المستدام”، بين الدول التي ضمها بايدن ـ سوليفان إليه، وبين الدول التي يستهدفها. ولكن خبراء قطاع النفط والغاز يضعون تخميناتهم حول أمن الطاقة ومستقبلها، من خلال تحليل العوامل الكلاسيكية المؤثرة فيه كالإستثمارات والتضخم وأسعار الفائدة ومعدل الطلب والتكنولوجيا مع تغليب أحدها أحياناً.
الأمين العام لمنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) الكويتي هيثم الغيص، “رأى أن نقص الاستثمار يشكل تهديداً لأمن الطاقة”. وهذا صحيح. لكنه لم يعط الصراع الجيوبوليتكي، أو كما يقول البعض “التوترات الجيوسياسية الحالية“، القيمة التي يستحق في التحليل. مع أن صفحات الإعلام وشاشاته متخمة بأخبار “حروب الممرات” التي تشنها الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها لضمان هيمنتها على أسواق الطاقة.
إن مشروع “الممر الهندي” هو تتمة لحرب “أطلسة” أوكرانيا، التي شنتها الولايات المتحدة لأهداف متعددة، منها فصل الإتحاد الأوروبي عن أوراسيا. لقد سبق للولايات المتحدة أن قامت بتمزيق الخريطة الجيوطاقية في داخل أوروبا، عندما جرى تفجير أنبوب “السيل الشمالي” وأخرج من الخدمة وترك الفاعل مجهولاً.
لقد أدى حظر واشنطن ضخ الغاز الروسي في شرايين اقتصاد ألمانيا وأوروبا إلى ارتفاع ارباح الشركات الأميركية التي تسيطر على تجارة الغاز العربي، وانتعشت صناعة الغاز المسيل في الولايات المتحدة، وأفل الإزدهار في ألمانيا وأوروبا الذي استمر لعقود معتمدا على الوقود الرخيص الذي قدمته لهم روسيا. لقد أصبح تفجير أنبوب “السيل الشمالي” سبباً للبؤس في أوروبا. ينظر الشباب في ألمانيا إلى غلاء الأسعار والتضخم وأوكرانيا كمشكلات شخصية يتوقف مستقبلهم على حلها.
يدير الأميركيون “حروب الممرات” من كرسي القيادة أو من الخلف. فالسيطرة على “ممرات الطاقة”، تعني امتلاك سلطة فتح أو إغلاق أقصر وأسرع وأرخص وأحوط الطرق لضخ النفط والغاز من منابعه وآباره إلى شرايين الإقتصاد الأوروبي والأميركي وبقية الغرب. وإذا ما تحققت فإن “ملكية الممرات” إلى الأسواق ستعلو من حيث القيمة، على ملكية المنابع والآبار نفسها. كما يصبح حق ملكية الوقود المستخرج منفصلاً عن حق أصحابه ببيعه في الأسواق.
والهدف المركزي في سياسة الولايات المتحدة والدول الغربية في قطاع الطاقة، هو منع الدول العربية، إيران، فنزويلا، روسيا، أندونيسيا وبقية دول “أوبك +” من التصرف بحقوقها السيادية في الإحتياطات الهائلة من النفط والغاز الكامنة في اراضيها.
إن هذا الهدف الإمبريالي، بجوهره، يولد ديناميكية الصراع الجيوبوليتيكي المستدام حول “الممرات”. وهذه الديناميكية مرنة، تجمع على شدتها ما بين الإهانات الإعلامية والضغوط الديبلوماسية والعقوبات الإقتصادية والعمليات الأمنية وصولاً إلى الحرب. وقد يطال تهديد هذه الديناميكية جغرافيا الطاقة الأحفورية بأجمعها. إذا لم يتم إحباطها بموازين القوى الرادعة.
يسعى الأميركيون وحلفائهم خلف هذا الهدف دائماً. وفق ما تجود به موازين القوى. ولذا، أصبحت واشنطن المصدر الأول لتهديد أمن الطاقة في العالم المعاصر. في مواجهة هذا التهديد، يقف تحالف “أوبك +” كـمجرد تحالف تجاري، “يتحرك في الإطار الإقتصادي البحت“، ولا تتوفر فيه قدرات الردع الجماعي لصده. باستثناء روسيا التي اعدت ميزان قوى تقليدي ونووي لردع التهديد الأميركي بقدراتها وإمكانياتها القومية الذاتية.
لقد أصبحت روسيا محور الردع العالمي للتهديد الأميركي لقطاع الطاقة، وهذا المحور الذي يضم حلفاء موسكو، قد تشكل طيلة العقد الأخير، من خلال “حروب الممرات” المضادة التي خاضها الروس في سوريا وأوكرانيا وفي القوقاز أيضا، لإحباط نظام الهيمنة الغربي. وتعتبر العملية العسكرية الروسية المستمرة منذ نحو سنتين، لمنع “أطلسة” أوكرانيا، مفتاح الديناميكية الجديدة في بزوغ النظام الدولي المتعدد الأقطاب.
إن خطابات الأميركيين والغربيين، لا سيما بريطانيا، عن أن روسيا قد فاجأتهم بصمودها في حرب “أطلسة” أوكرانيا وسوريا، ينم عن غطرسة وقحة، لأنهم يعلمون عن كثب، بأن روسيا بمواردها القومية الجبارة، ليست كأي دولة من الدول الكبرى في النظام العالمي، فضلاً عن الصين أو دول “أوبك” ذات القدرات الطاقية والمالية الهائلة. إن روسيا هي فرصة لمن يريد دفن مشروع “الممر الهندي” من الدول المستقلة أو التي تريد كسر قيود الهيمنة الأميركية والغربية. لأنها الدولة الوحيدة على وجه الأرض التي تستطيع أن تنتج حاجاتها المادية كلها، فيما هي تدير ظهرها … للعالم.
مركز الحقول للدراسات والنشر
الثلاثاء، 10 تشرين الأول، 2023
COMMENTS