هل أرادت واشنطن، حقاً، أن تُخْضِعَ تل أبيب للقانون الأميركي؟
وعدت الولايات المتحدة الأميركية بتطبيق “عقوبات” على وحدات معينة في جيش الإحتلال “الإسرائيلي”، بموجب “قانون ليهي”. ورجحت تقارير إعلامية أميركية و“إسرائيلية” نشرت في شهر نيسان / أبريل الماضي، أي بعد ستة أشهر على حرب الإبادة الجماعية في غزة، أن تمنع واشنطن المساعدات عن هذه الوحدات، بسبب “انتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان في الضفة الغربية” في فلسطين المحتلة.
كان المقصود “كتيبة نيتسح يهودا”، بالذات، التي اشتُهرت باعتداءاتها على المدنيين والأسرى الفلسطينيين، وثبت تورطها في جرائم حرب ضدهم. ولم يكن “الإجراء العقابي” ليعني أكثر من تطبيق الحكومة الأميركية لأحكام “القانون النافذ” الذي يحمل اسم السناتور باتريك ليهي، والذي شرعه الكونغرس ضمن “قانون المساعدات الخارجية” في عام 2008. ولكن هل أرادت واشنطن، حقاً، أن “تعاقب” تل أبيب؟.
لقد فُتِح هذا الملف القانوني ـ السياسي عام 2022. “عقب توصل لجنة تحقيق خاصة تابعة لوزارة الخارجية الأميركية” إلى أدلة عن تورط “نيتسح يهودا”، ووحدات عسكرية وشرطية “إسرائيلية” أخرى، بجرائم انتهاك حقوق الفلسطينيين. لكن سرعان ما اصطدم التحقيق بسياسة “المعايير المزدوجة” التي تعطل إنفاذ القانون المحلي والقانون الدولي أو تكيفهما “على هوى واشنطن”.
فأحكام “قانون ليهي” تفرض على حكومة الولايات المتحدة “أن تمتنع عن مساعدة أو تمويل أو تدريب أي قوات عسكرية أجنبية، يتأكد تورطها في انتهاكات حقوق الإنسان”. ما يفترض أنها تطال جيش “إسرائيل” أيضاً. لكن إدارة بايدن خرقت هذا “القانون” وتنكرت لأحكامه، بعد أن تلقت توبيخاً علنياً من رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، قال فيه : إن “معاقبة” تلك الوحدات هي “قمة السخافة والانحطاط الأخلاقي”.
لقد استلم بايدن وحكومته هذا التوبيخ كأمر عمل تنفيذي، يرفع “دولة إسرائيل” فوق القانون الأميركي. لا سيما وأن مجرمي “مجلس الحرب” قد شاركوا بحملة نتنياهو، ومنهم بيني غانتس. الذي أدعى بـ”أن وحدات الجيش [“الإسرائيلي”] تخضع لأوامر متوافقة مع القانون الدولي”. وقال إن تفعيل “قانون ليهي” ضد “نيتسح يهودا” وسواها، هو “سابقة خطيرة ستضر بشرعية إسرائيل في وقت الحرب”.
في الحقيقة، ليس الأمر محصوراً بهذه أو تلك من كتائب الجيش الصهيوني المجرم. فـ“الدرع القضائي” الذي تؤمنه إدارة جوزف بايدن لـ”إسرائيل”، هو إحدى وسائل المشاركة الأميركية المباشرة في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها “إسرائيل” على المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة. وهذا “الدرع” منح المجرمين “الإسرائيليين” الحماية لا من عواقب القوانين المحلية في أميركا وإنما من القوانين الدولية في العالم أيضاً.
بينما تستثنى “إسرائيل”، فإن الديبلوماسية الأميركية تواجه بهذا “القانون” دولاً “حليفة” لأميركا مثل تركيا. إذ يعاملها ممثلو واشنطن كـ”غابة”، حينما يتباهون بكل غرور، بإنهم “سيواصلون الدفع باتّجاه تعزيز سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان” فيها. كما تحاصر واشنطن بأحكام “قانون ليهي” وقوانين مشابهة له، دولاً مستقلة وذات سيادة، مثل سوريا والعراق وحتى جنوب إفريقيا.
لقد أمضت الولايات المتحدة العقود الأربعة الماضية، وهي “تبشر” بـ”القانون الدولي الإنساني” ولزوم تطبيقه. وفي التسعينيات، اشتقّ “المحافظون الجدد” الصهاينة منه، “مبدأ التدخل الإنساني”. الذي استظل به الجيش الأميركي والأتباع الأوروبيين، لتبرير غزو العراق ويوغوسلافيا السابقة وغيرهما من الدول، التي تعرضت للتدمير والتقسيم، بذريعة “تحرير” شعوبها من “الأنظمة الإستبدادية” أو تلبية “تطلعاتها” القومية.
بل إن “الربيع العربي” ما كان له أن يأتي بكل الفوضى السياسية والدمار الإجتماعي والتهتك الدولتي في ليبيا واليمن وسوريا وصولاً إلى السودان، وإلى حد تهديد الجزائر ومصر، لولا التدخل الأميركي المباشر أو بأحزاب ومنظمات وأشخاص، انتحلت تمثيل الشعب، من دون أي احترام للسيادة ولا أي اكتراث بالديموقراطية. وهذه الفوضى التي استزرعت منظمات الإرهاب التكفيري مثل “داعش” و”النصرة”، في أحضان المجتمعات العربية والإسلامية، صممتها ونفذتها الولايات المتحدة و”حلفائها” لمآرب جيواستراتيجية خاصة، لم تنته بعد.
إن “التمييز القانوني” في السياسة الخارجية الأميركية لصالح “إسرائيل” ليس جديداً. وكما أسلفنا، فإن تعريفه بأنه عمل من أعمال العدوان على الفلسطينيين ـ وعلى العرب والمسلمين أيضاً ـ لأمر بديهي، مع كل الدعم المادي والمالي والسياسي الذي توفره إدارة جوزف بايدن لاستمرار جيش “إسرائيل” في حرب الإبادة التي يشنها على بنات وأبناء الشعب الفلسطيني في غزة، وبشكل أقل كثافة في الضفة الغربية.
إن شدة هذا “التمييز” قد استفزت المشاعر السياسية والشخصية لموظفين في إدارة الرئيس بايدن. وكانت استقالة جوش بول من منصب “مدير الشؤون العامة والكونغرس في مكتب الشؤون السياسية ـ العسكرية في وزارة الخارجية الأميركية”، أولى مظاهر الإحتجاج السياسي لموظفين في إدارة الرئيس جو بايدن على مشاركة حكومتهم وجيشهم في التوحش الحربي الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
هذا الحال، يبين أن مفهوم “المعايير المزدوجة” لم يعد يتناسب مع الحقائق الجديدة التي ظهرت وتراكمت في إطار العلاقات الأميركية ـ “الإسرائيلية”. خصوصاً، بعد طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أوكتوبر 2023. فهذه “الإزدواجية” هي من الطبيعة العضوية للعلاقة بين نظام واشنطن ونظام تل أبيب. وكل رهان على تخليص السياسة الأميركية منها، هو إعادة برهنة المسلمات التي برهنها … الدهر.
مركز الحقول للدراسات والنشر
الإثنين، 14 صفر، 1446 الموافق 19 آب، 2024
COMMENTS